ونحن اقرب اليه من حبل الوريد , كلمات ربنا المهدئة للنفس
ولقد خلقنا الانسان ونعلم ما توسوس به نفسه ۖ ونحن اقرب اليه من حبل الوريد
يخبر تعالى عن قدرته على الانسان بان علمه محيط بجميع اموره، حتى انه تعالى يعلم
ما توسوس به نفسه من الخير والشر، وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم انه قال: (ان الله تعالى تجاوز لامتي ما حدثت به انفسها ما
لم تقل او تعمل) وقوله عز وجل: { ونحن اقرب اليه من حبل الوريد} يعني
ملائكته تعالى اقرب الى الانسان من حبل وريده اليه، ومن تاوله على العلم فانما فر
لئلا يلزم حلول او اتحاد، وهما منفيان بالاجماع تعالى الله وتقدس، ولكن اللفظ لا يقتضيه
فانه لم يقل: وانا اقرب اليه من حبل الوريد، وانما قال: { ونحن اقرب اليه
من حبل الوريد} كما قال في المختصر { ونحن اقرب اليه منكم ولكن لا تبصرون}
يعني ملائكته، فالملائكه اقرب الى الانسان من حبل وريده اليه، باقدار الله جل وعلا لهم
على ذلك، فللملك لمه من الانسان كما ان للشيطان لمة، ولهذا قال تعالى ههنا {
اذ يتلقى الملتقيان} يعني الملكين اللذين يكتبان عمل الانسان { عن اليمين وعن الشمال قعيد}
اي مترصد، { ما يلفظ} اي ابن ادم { من قول} اي ما يتكلم بكلمه
{ الا لديه رقيب عتيد} اي الا ولها من يرقبها، معد لذلك يكتبها، لا يترك
كلمه ولا حركة، كما قال تعالى: { وان عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون}
وقد اختلف العلماء هل يكتب الملك كل شيء من الكلام وهو قول الحسن وقتاده ،
او انما يكتب ما فيه ثواب وعقاب وهو قول ابن عباس على قولين: وظاهر الايه
الاول لعموم قوله تبارك وتعالى: { ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد} .
وقد روى الامام احمد، عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه قال، قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (ان الرجل ليتكلم بالكلمه من رضوان الله تعالى ما يظن
ان تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل له بها رضوانه الى يوم يلقاه، وان
الرجل ليتكلم بالكلمه من سخط الله تعالى ما يظن ان تبلغ ما بلغت يكتب الله
تعالى عليه بها سخطه الى يوم يلقاه) “”رواه احمد والترمذي والنسائي وابن ماجة””فكان علقمه يقول:
كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث، وقال الاحنف بن قيس: صاحب اليمين
يكتب الخير وهو امين على صاحب الشمال، فان اصاب العبد خطيئه قال له: امسك، فان
استغفر الله تعالى نهاه ان يكتبها وان ابى كتبها، وقال الحسن البصري؛ وتلا هذه الايه
{ عن اليمين وعن الشمال قعيد} : يا ابن ادم بسطت لك صحيفة، ووكل بك
ملكان كريمان احدهما عن يمينك والاخر عن شمالك، فاما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، واما
الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، اقلل او اكثر، حتى اذا مت طويت
صحيفتك وجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة، فعند ذلك يقال لك:
{ اقرا كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} ثم يقول: (عدل والله فيك من جعلك
حسيب نفسك) وقال ابن عباس { ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد} قال:
يكتب كل ما تكلم به من خير او شر، حتى انه ليكتب قوله: اكلت، شربت،
ذهبت، جئت، رايت. حتى اذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فاقر منه ما كان
فيه من خير او شر والقي سائره، وذلك قوله تعالى: { يمحو الله ما يشاء
ويثبت وعنده ام الكتاب} . وذكر عن الامام احمد انه كان يئن في مرضه، فبلغه
عن طاووس انه قال: يكتب الملك كل شيء حتى الانين، فلم يئن احمد حتى مات
رحمه الله. وقوله تبارك وتعالى: { وجاءت سكره الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد}
يقول عز وجل: وجاءت ايها الانسان سكره الموت بالحق اي كشفت لك عن اليقين الذي
كنت تمتري فيه، { ذلك ما كنت منه تحيد} اي هذا هو الذي كنت تفر
منه قد جاءك، فلا محيد ولامناص ولا فكاك ولا خلاص، والصحيح ان المخاطب بذلك الانسان
من حيث هو، وقيل: الكافر، وقيل غير ذلك، روي انه لما ان ثقل ابو بكر
رضي الله عنه جاءت عائشه رضي الله عنها فتمثلت بهذا البيت: لعمرك ما يغني الثراء
عن الفتى ** اذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر فكشف عن وجهه وقال رضي الله
عنه: ليس كذلك، ولكن قولي: { وجاءت سكره الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد}
. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه لما تغشاه الموت
جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: (سبحان الله ان للموت سكرات) وفي قوله: { ذلك
ما كنت منه تحيد} قولان: احدهما : ان ما ههنا موصوله اي الذي كنت منه
تحيد بمعنى تبتعد وتفر، قد حل بك ونزل بساحتك.
والقول الثاني : ان ما نافيه بمعنى: ذلك ما كنت تقدر على الفراق منه ولا
الحيد عنه. وقوله تبارك وتعالى: { ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد} قد تقدم الكلام
على حديث النفخ في الصور وذلك يوم القيامة، وفي الحديث، ان رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: (كيف انعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته وانتظر ان يؤذن
له) قالوا: يا رسول الله كيف نقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: (قولوا: حسبنا الله
ونعم الوكيل) فقال القوم: حسبنا الله ونعم الوكيل.
{ وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد} اي ملك يسوقه الى المحشر، وملك يشهد عليه
باعماله، هذه هو الظاهر من الايه الكريمه وهو اختيار ابن جرير، لما روي عن يحيى
بن رافع قال: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يخطب فقرا هذه الايه {
وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد} فقال: سائق يسوقها الى الله تعالى، وشاهد يشهد عليها
بما عملت، وكذا قال مجاهد وقتادة، وقال ابو هريرة: السائق الملك، والشهيد العمل، وكذا قال
الضحاك والسدي، وقال ابن عباس: السائق من الملائكة، والشهيد الانسان نفسه يشهد على نفسه، وبه
قال الضحاك ايضا. وقوله تعالى: { لقد كنت في غفله من هذا فكشفنا عنك غطاءك
فبصرك اليوم حديد} قيل: ان المراد بذلك الكافر، وقيل: ان المراد بذلك كل احد من
بر وفاجر، لان الاخره بالنسبه الى الدنيا كاليقظة، والدنيا كالمنام، وهذا اختيار ابن جرير وهو
منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما ، والظاهر من السياق ان الخطاب مع الانسان
من حيث هو، والمراد بقوله تعالى: { لقد كنت في غفله من هذا} يعني من
هذا اليوم، { فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} اي قوي، لان كل احد يوم
القيامه يكون مستبصرا، حتى الكفار في الدنيا يكونون يوم القيامه على الاستقامة، لكن لا ينفعهم
ذلك، قال الله تعالى: { اسمع بهم وابصر يوم ياتوننا} ، وقال عز وجل: {
ولو ترى اذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ربنا ابصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا انا
موقنون} .