استشهادات حول العلم
من رحمه الله – عز وجل – بهذه الامه ان علماءها خيارها، بخلاف الامم السابقة،
كما ذكر شيخ الاسلام احمد بن تيميه – رحمه الله – حيث قال: “كل امه
قبل مبعث محمد – صلى الله عليه وسلم – علماؤها شرارها، الا المسلمين فان علماءها
خيارها” (1).
ولعلي اذكر شيئا مما ورد في شرف العلم ومنزله العلماء، ومن هذه النصوص يمكن ان
نقف على هذه المنزله العظيمه لهذه الفئه المباركة.
ادله فضل العلم والعلماء من القران:
فمن ذلك قول الله – عز وجل – في اعظم شهاده في القران: ﴿شهد الله
انه لا اله الا هو والملائكه واولو العلم قائما بالقسط لا اله الا هو العزيز
الحكيم﴾ [سوره ال عمران: الايه 18]. ذكر الامام ابن القيم ان في هذه الايه عشره
اوجه تدل على شرف العلم وفضل العلماء. ومنها:
1 – ان الله – عز وجل – استشهدهم من بين سائر الخلق.
2 – وضم شهادتهم الى شهادته تعالى.
3 – وضم شهادتهم الى شهاده ملائكته.
4 – وكونه تعالى استشهدهم فمعناه انه عدلهم؛ لانه لا يمكن ان يستشهد بقولهم الا
وانهم عدول. وفي هذا جاء الاثر: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله”.
5 – انهم جعلهم هم والانبياء في وصف واحد، فلم يفرد الانبياء عن العلماء، فاشهد
نفسه، ثم اشهد ملائكته ثم اشهد اولي العلم، الذين على راسهم الانبياء، ومن ضمنهم العلماء.
6 – انه اشهدهم على اعظم مشهود به، وهذه اجل واعظم شهاده في القران؛ لان
المشهود به هو: شهادة: ان لا اله الا الله. التي لا يعدلها شيء. (2)
ومن الايات الداله على فضل العلم وشرف العلماء قول الله – عز وجل -: ﴿وقل
رب زدني علما﴾ [سوره طه: الايه 114]. امر نبيه – عليه الصلاه والسلام – ان
يساله ان يزداد من العلم، وما ذاك الا لشرفه ومكانته.
وايضا قوله سبحانه: ﴿قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾ [سوره الزمر: الايه 9].
وهذا ايضا يدل على غايه فضلهم وشرفهم، كما انه لم يساو بين اصحاب الجنه واصحاب
النار، فكذلك لم يساو بين من يعلم ومن لا يعلم.
ويقول – جل وعز -: ﴿افمن يعلم انما انزل اليك من ربك الحق كمن هو
اعمى انما يتذكر اولو الالباب﴾ [سوره الرعد: الايه 19] ولهذا وصف سائر الخلق بالعمى الا
من اوتي العلم.
ويقول سبحانه: ﴿ويرى الذين اوتوا العلم الذي انزل اليك من ربك هو الحق ويهدي الى
صراط العزيز الحميد﴾ [سوره سبا: الايه 6].
ويقول جل وعز: ﴿وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون﴾ [سوره العنكبوت: الايه 43].
ولهذا قال بعض السلف: “اذا استعصى علي فهم مثل في القران حزنت لذلك؛ لان الله
– عز وجل – يقول: ﴿وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون﴾ [سوره العنكبوت:
الايه 43].
ويقول سبحانه: ﴿يرفع الله الذين امنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير﴾
[سوره المجادلة: الايه 11]. رفع الله درجاتهم في الدنيا والاخرة، في الدنيا رفع ذكرهم عند
الخلق، ورفع مكانتهم ومنزلتهم. واما في الاخره فلهم الدرجات العلى، واي شرف واي منزله اعظم
من ذلك.
ولهذا لاحظوا – يرعاكم الله – كم مر عبر التاريخ من الملوك والامراء والعظماء والتجار
والمخترعون انتهوا بمماتهم، فانتهى ذكرهم، فقد ياتي ذكرهم عابرا في صفحات التاريخ، ولكن هؤلاء اهل
العلم، ذكرهم يتجدد مع الزمان، لا يذكرون الا ويترحم عليهم، اجسادهم مفقودة، لكن اثارهم باقيه
بين ايدينا.
قبل مئات السنين جاء الامام احمد، والامام الشافعي، والامام مالك، والامام ابو حنيفة، وسفيان الثوري،
والامام البخاري، والامام مسلم، اعلام ما زال ذكرهم عاليا بين الخلق، منهم من مات في
مقتبل عمره مثل الامام النووي – رحمه الله – فقد مات في العقد الرابع من
عمره، ومع ذلك ما زال ذكره يطبق مشارق الارض ومغاربها. هذه مؤلفاته بين ايدينا تقرا
صباح مساء، وكلما ذكر ترحم عليه، فاي شرف واي منزله هذه، هذا ذكرهم في الدنيا،
وقد اعد الله – عز وجل – لهم من الاجر في الاخره اضعاف اضعاف ذلك.
ومما ورد في فضلهم ومنزلتهم قول الله – عز وجل -: ﴿انما يخشى الله من
عباده العلماء﴾ [سوره فاطر: الايه 28]. و﴿انما﴾ اداه حصر. الذين يخشون الله حق خشيته هم
اهل العلم؛ والسبب في ذلك انهم اعلم الخلق بالله – عز وجل – وكلما ازداد
الانسان معرفه بربه وخالقه ومعبوده ازدادت خشيته. ولهذا هم اعلم الناس بما يجب لله، وما
يجوز عليه، وما يمتنع عليه، ولهذا صاروا اكثر الناس خشية، بل الله – عز وجل
– جعل الخشيه محصوره فيهم.
ويقول سبحانه: ﴿بل هو ايات بينات في صدور الذين اوتوا العلم وما يجحد باياتنا الا
الظالمون﴾ [سوره العنكبوت: الايه 49]. هذا القران ايات بينات، لكن عند من؟ عند اهل العلم.
ولهذا عرفوا كلام الله، فقدروه حق قدره، بخلاف غيرهم، فقد يقرا القران كاملا، وقد يسمع
القران كاملا، ولا يؤثر هذا فيه؛ لانه ليس من اولو العلم.
ويقول سبحانه: ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافه فلولا نفر من كل فرقه منهم طائفه ليتفقهوا
في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون﴾ [سوره التوبة: الايه 122]. الله –
عز وجل – ذكر انه ما كان لاهل الايمان ان ينفروا جميعا الى الجهاد، بل
لتبق طائفه تتفقه في هذا الدين؛ لتتعلم وتعلم الناس الخير. ولهذا ذكر الامام احمد –
رحمه الله – ان طلب العلم افضل من الجهاد في سبيل الله.
ويقول سبحانه: ﴿اومن كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله
في الظلمات ليس بخارج منها﴾ [سوره الانعام: الايه 122]. فاهل العلم هم حياه القلوب، وما
معهم من العلم هو النور الذي يهتدون به في ظلمات البر والبحر.
ويقول سبحانه: ﴿واذا جاءهم امر من الامن او الخوف اذاعوا به ولو ردوه الى الرسول
والى اولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان
الا قليلا﴾ [سوره النساء: الايه 83]. وقد قال المفسرون: ان اولي الامر هنا هم العلماء،
كما ان اولي الامر في قوله سبحانه: ﴿اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر﴾ [سوره النساء:
الايه 59]. على قول ابن عباس وغيره انهم العلماء، وذكر شيخ الاسلام ان هذه الايه
تشمل اولي الامر اولي السلطان، وايضا اولي الامر تشمل العلماء.
ادله فضل العلم من السنه المطهرة:
فهذه بعض الايات الداله على مكانه ومنزله العلم، ومنزله اهل العلم.
اما الاحاديث فكثيره جدا منها:
ما ثبت في الصحيحين، من حديث النبي – صلى الله عليه واله وسلم – انه
قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» (3). منطوق الحديث ان من اراد
الله به خيرا وفقه لهذا العلم. ومفهوم الحديث ان من لم يتفقه في هذا الدين
ومن لم يتعلم فلم يرد الله – عز وجل – به خيرا. وهذا ما ذهب
اليه كثير من اهل العلم.
وهناك ايضا ما ثبت عن النبي – صلى الله عليه واله وسلم – كما عند
ابي داود وابن ماجه والترمذي بسند صحيح انه قال: «من سلك طريقا يطلب فيه علما
سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وان الملائكه لتضع اجنحتها رضا لطالب العلم، وان
العالم ليستغفر له من في السماوات، ومن في الارض، والحيتان في جوف الماء، وان فضل
العالم على العابد كفضل القمر ليله البدر على سائر الكواكب، وان العلماء ورثه الانبياء» (4).
وهذا حديث عظيم يبين مكانه ومنزله اهل العلم. لاحظ – اخي المسلم – قوله: «ان
العالم ليستغفر له من في السماوات، ومن في الارض». وفي الحديث الاخر – كما سياتي
– ان الله وملائكته يصلون عليه.
لو قيل لاحدنا: ان من في هذا المسجد يدعون لك. لما وسعته ثيابه من الفرح
والسرور، وربما بقي الايام والليالي وهو يتذكر هذه المنزله العظيمة، ان اهل المجسد يستغفرون له،
او يدعون الله – عز وجل – له. كيف – يا اخي – هذا العالم
يصلي عليه الله – عز وجل – من فوق سبع سماوات، يثني عليه، وتصلي عليه
الملائكة، تدعو له، ويصلي عليه سائر الخلق، حتى البهائم، حتى النمله في جحرها، حتى الحوت
في قعر البحر، يدعو ويصلي على هذا العالم. اي منزله اعظم من هذه المنزلة؟ اي
شرف اعظم من هذا الشرف؟
ويقول – عليه الصلاه والسلام – كما في الصحيحين: «مثل ما بعثني الله به من
الهدى والعلم كمثل الغيث (5) الكثير اصاب ارضا، فكان منها نقيه قبلت الماء فانبتت الكلا
(6) والعشب الكثير» (7). الى اخر الحديث. وهذه الطائفه هم اهل العلم، هم الذين تلقفوا
عن النبي – صلى الله عليه واله وسلم – اقواله وافعاله، فحفظوها للناس، فانتفع الخلق
جميعا من هذا العلم بفضل حفظ هؤلاء، ونقل هؤلاء ونشر هؤلاء.
ويقول – عليه الصلاه والسلام -: «فضل العالم على العابد كفضلي على ادناكم» (8). الله
اكبر، فضل العالم على العابد – وليس على سائر الناس – العابد الذي لزم المسجد
في الصلاه والصيام والقيام والاستغفار والتوبة، كفضل النبي – صلى الله عليه واله وسلم –
على ادنى واحد من امته. وهل هناك ادنى تقارب بين الفضلين؟ كذلك العالم مع سائر
الخلق.
وفي الحديث الاخر: «وان العلماء ورثه الانبياء، وان الانبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وانما
ورثوا العلم، فمن اخذه اخذ بحظ وافر» (9).
ايها الاخوة، لو وجد عندنا اثر من اثار النبي – صلى الله عليه وسلم –
لو ثبت عندنا ان هذه صحفه النبي – صلى الله عليه وسلم – التي كان
ياكل فيها، او هذا الحصير الذي كان يجلس عليه، لتقاتل الناس على هذا الاثر، فكيف
لو كان هذا الاثر ملتصقا بجسمه كشعره لربما بذل فيه الغالي والنفيس، فما ظنكم بشيء
موجود عندنا من اعظم اثار النبي – صلى الله عليه وسلم – الا وهو شرعه،
وحيه عليه الصلاه والسلام بين ايدينا اعظم وارفع من اثاره المادية، مبذول كل يستطيع الاخذ
به، وهذا هو ميراث النبوة، ليس ميراث النبوه المال والعقار، بل ميراث النبوه هذا العلم
وهذا الوحي، وهو مشاع، ليس خاصا لفئه بعينها. ميراثه عليه الصلاه والسلام ليس خاصا لذريته،
او لبني هاشم، او لبني عبد المطلب، بل لكل من اراد ان ينال هذا الميراث،
الا وهو العلم.
يقول ابن القيم: “وقوله: «العلماء ورثه الانبياء»… دليل على انهم اقرب الناس الى الانبياء؛ في
الفضل والمكانه والمنزلة؛ لان اقرب الناس الى المورث ورثته، ولهذا كانوا احق بالميراث من غيرهم،
كذلك العلماء احق الناس بالنبي – صلى الله عليه وسلم – واقرب الناس بالنبي –
صلى الله عليه وسلم – هم اهل العلم”(10).
وفي الحديث الاخر في صحيح مسلم: «اذا مات الانسان انقطع عمله الا من ثلاثة». وذكر:
«او علم ينتفع به» (11). فان العالم اثاره باقيه حتى بعد وفاته، فالناس تنقطع اعمالهم،
حتى الذين خلفوا ولدا صالحا، او خلفوا صدقه جارية، ففي وقت من الاوقات سينقطع غالبا؛
وذلك اذا جاء الجيل الثالث او الرابع او الخامس، فغالبا سينقطع هذا الباب، الا العالم،
فان اثره باق ما بقيت السماوات والارض. ولهذا لاحظوا ان الائمه والعلماء في القرن الاول
– قبل الف واربعمائه سنه – ما زالت اثارهم واقوالهم باقية، يذكرون ويترحم عليهم، وقد
اهتدى واستقام على اقوالهم مئات، بل الاف، بل ملايين من البشر، واجورهم ليست كاجور اولئك.
فاي منزلة، واي مكانه اعظم من هذه المنزلة؟
وفي الحديث الاخر: «من غدا الى المسجد لا يريد الا ان يتعلم خيرا او يعلمه،
كان له كاجر حاج تاما حجته» (12).
وفي حديث اخر: «من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيرا، او ليعلمه، كان كالمجاهد في سبيل
الله» (13). رواه احمد بسند صحيح.
وفي حديث اخر رواه الترمذي بسند صحيح، ان النبي – صلى الله عليه واله وسلم
– قال: «نضر الله امرا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها» (14). «نضر الله» دعاء من
النبي – صلى الله عليه واله وسلم – لهذا العالم، لطالب العلم الذي تلقى عن
النبي – صلى الله عليه واله وسلم – كلامه ووحيه، فوعاه فقهه وبلغه الى الاخرين.
ان نجاه الناس منوط بوجود العلماء، فذهاب العلماء هلاك الناس، فهم صمام الامان بعد الله
– عز وجل – ولهذا جاء في الحديث المتفق عليه: «ان الله لا يقبض العلم
انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى اذا لم يبق عالما اتخذ
الناس رءوسا جهالا، فسئلوا، فافتوا بغير علم فضلوا واضلوا» (15).
وفي حديث ابن عباس قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «هل تدرون
ما ذهاب العلم؟» قال: «هو ذهاب العلماء من الارض» (16).
وفي حديث ابي امامة، ان رسول الله – صلى الله عليه واله وسلم – قال:
«خذوا العلم قبل ان يذهب». قالوا: كيف يذهب العلم يا نبي الله، وفينا كتاب الله؟
قال: فغضب النبي – صلى الله عليه واله وسلم – ثم قال: «ثكلتكم امهاتكم» –
لاحظ المثل «اولم تكن التوراه والانجيل في بني اسرائيل، فلم يغنيا عنهم شيئا؟ ان ذهاب
العلم ان يذهب حملته» (17). رواه الدارمي بسند صحيح.
لا شك ان القران وحده لا يكفي، لا بد من اهل العلم؛ ليبينوا للامه العام
والخاص، والناسخ والمنسوخ، والمنطوق والمفهوم. والا اذا اخذ الانسان النصوص بنفسه بعيدا عن اهل العلم
ضل واضل، وما ضل اكثر الفرق واكثر الطوائف الا لانهم اعتمدوا على عقولهم، وعلى انفسهم،
واخذوا شطرا وجزءا من هذه النصوص.
فالخوارج اخذوا بنصوص الوعيد، وتركوا نصوص الوعد. والمرجئه اخذوا نصوص الوعد، وتركوا نصوص الوعيد. والمعتزله
النفاه اخذوا النصوص التي فيها اثبات فعل العبد. والجهميه والمعطله اخذوا النصوص التي فيها تنزيه
الرب.
اما اهل العلم، الذين انار الله – عز وجل – بصائرهم وابصارهم، فاخذوا كلام الله
– عز وجل – متكاملا، وعرفوا الخاص والعام، والمقيد والمطلق، والناسخ والمنسوخ، وجمعوا بين كلام
الله – عز وجل – ولهذا سلموا، وسلم من اقتفى اثرهم.
الاثار الوارده في فضل العلم ومنزله العلماء:
اختم كلامي بذكر بعض الاثار عن بعض السلف، في فضل العلم ومنزله العلماء.
فهذا الشافعي – رحمه الله – يقول: “ان لم يكن الفقهاء اولياء لله في الاخره
فما لله ولي”. ويقول عكرمه – رحمه الله -: “اياكم ان تؤذوا احدا من العلماء،
فان من اذى عالما فقد اذى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لانهم
حمله كلام الرسول – صلى الله عليه واله وسلم – الذائدون عن حياضه، المنافحون عن
كلامه، رحمهم الله”. ويقول الحسن: “موت العالم ثلمه في الاسلام، لا يسدها شيء، ما طرد
الليل النهار”. ويقول ايضا: “الدنيا كلها ظلمه الا مجالس العلماء”. ويقول سعيد بن جبير: “علامه
هلاك الناس اذا هلك علماؤهم”. ويقول سفيان الثوري: “اطلبوا العلم؛ فانه شرف في الدنيا، شرف
في الاخرة”.
اسال الله – سبحانه وتعالى – ان يغفر لمن مات من علمائنا، وان يبارك في
عمر وعمل من كان منهم حيا، وان يوفقه ويسدده لما يحب ويرضى، والله اعلم، وصلى
الله وسلم على نبينا محمد.
جزى الله صاحب الفضيله الدكتور حمد بن عبد المحسن التويجري خير الجزاء، على ما تفضل
به في هذه الكلمه الطيبه الزاكيه عن “فضل العلم وعن منزله العلماء” ولنتم موضوع هذه
الندوه ببيان “حرمه الوقيعه في اهل العلم”. يتفضل بالحديث عن ذلك صاحب الفضيله الدكتور عبد
الحكيم محمد العجلان، فليتفضل جزاه الله خيرا.
حرمه الوقيعه بين اهل العلم :- للدكتور عبد الحكيم محمد العجلان
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، واصلي واسلم على نبيه وصفيه من خلقه،
واله من بعده وصحبه، واسلم تسليما كثيرا الى يوم الدين، اما بعد:
اهميه العلم واهله:
ان الحديث عن العلماء حديث عظيم؛ فهو حديث عن اعلام الامة، وحافظي الملة، الناطقين بالكتاب
والسنة، القامعين لكل هوى وبدعة، المحذرين من الشيطان ومن غيه.
الحديث عن اهل العلم حديث عمن بهم شفاء ودواء للادواء والامراض، التي تحل بالناس، في
قلوبهم، وفي اديانهم، وفي مجتمعاتهم.
ولذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لما هلك صاحب الشجة، الذي سال
اصحابه حين اصابته شجه في راسه، فقالوا: لا نجد لك رخصه عن الغسل. فاغتسل فمات،
فذكر ذلك للنبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: «قتلوه قتلهم الله، الا سالوا
اذ لم يعلموا، فانما شفاء العي (18) السؤال» (19).
فسؤال اهل العلم، والصدور عنهم، هو شفاء ودواء؛ ولذلك امر الله – جل وعلا –
به في غير ما ايه من كتابه، فقال سبحانه: ﴿فاسالوا اهل الذكر ان كنتم لا
تعلمون﴾ [سوره النحل: الايه 43]. فاهل العلم يصدر عنهم، ويورد اليهم، يسالون ويستفتون، ومنهم يتعلم
العلم، ومنهم يتعرف على الاحكام، فهم الموقعون عن رب العالمين، وهم المبلغون لسنه سيد المرسلين،
محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى اله واصحابه، وسلم تسليما كثيرا الى يوم
الدين.
ولذلك يقول ابن القيم – رحمه الله -: ”
هم النجوم لكل عبد سائر يبغي الاله وجنه الحيوان (20)
ويقول ميمون بن مهران في بيان حقيقه اهل العلم: “انهم في البلد كالماء العذب”. اي
ان الناس يردون اليه. وكما قال الحسن: “الدنيا ظلمه الا مجالس اهل العلم”.
والناس بدون اهل العلم يتخبطون في الجهالات، ويقعون في المهالك والحفر، ولا يجدون طريقا يتنسمون
به السلامة، ويصلون به الى المراد والغاية. وبترك العلم واهل العلم يتجرع الناس ماء اجاجا،
فلا يروون من عطش، ولا يسلمون من تعب، ولا يتخلصون من عطب.
العلم – ايها الاخوه – سبب للنجاة؛ فان اهل العلم امناء الله على وحيه. ولذلك
قال الله – جل وعلا: ﴿ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو
اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون﴾ [سوره الانعام: الايه 88] ﴿اولئك الذين هدى الله فبهداهم
اقتده﴾ [سوره الانعام: الايه 90]. فهذه الايه في انبياء الله ورسله، ومن حذا حذوهم، واقتفى
سنتهم، واخذ من حياضهم، واخذ من سنتهم. ولذا جاء في بعض الاثار: “ان العالم امين
الله في ارضه”.
فدرجه اهل العلم عالية، فهم في انفسهم خاشعون لله، مخبتون له، متضرعون. ولذلك يقول الله
جل وعلا: ﴿ان الذين اوتوا العلم من قبله اذا يتلى عليهم يخرون للاذقان سجدا﴾ [سوره
الاسراء: الايه 107]. واهل العلم هم الذين يكون بهم الانتفاع، ويكون بهم النجاة، ويكون بهم
الخير، اذا ادلهمت المدلهمات، ونزلت المعضلات، وتوالت المصابات، فالناس يتخبطون، واولو العلم – باذن الله
جل وعلا – ناطقون بكتاب الله.
يقول الله سبحانه: ﴿واذا جاءهم امر من الامن او الخوف اذاعوا به ولو ردوه الى
الرسول والى اولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم﴾ [سوره النساء: الايه 83]. نقل اهل
التفسير – كما سمعنا من الشيخ – ان ﴿اولي الامر﴾ هم اولو العقل، واولو الفقه
في الدين.
وبهلاك العلماء يهلك الناس، كما سمعنا قول سعيد بن جبير، قيل: ما علامه هلاك الناس؟
قال: ” هلاك علمائهم “. وهلاك العلماء كما انه يكون بموتهم، فانه يكون ايضا بتسلط
المتسلطين عليهم؛ بالوقيعه بينهم، والتنفير منهم، والخوض في اعراضهم، والتشكيك في نياتهم، واراده ابعاد الناس
عنهم، وصرف القلوب الى الاهواء والى البدع، والى الاقوال التي لا سند لها من كتاب
الله، ولا من سنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
كيف لا، وقد قال اهل التفسير في ان موت العلماء هو المراد بقول الله جل
وعلا: ﴿اولم يروا انا ناتي الارض ننقصها من اطرافها﴾ [سوره الرعد: الايه 41 ]. جاء
عن ابن عباس – او غيره – انه موت العلماء.
ولذلك قال القائل:
الارض تحيا اذا ما عاش عالمها وان يمت عالم منها يمت طرف
كالارض تحيا اذا ما الغيث حل بها وان ابى حل في اكنافها التلف
الخوض في علماء الامه وبيان حرمته:
ان العلماء – مع ما سمعنا من هذا الكلام العظيم في رفيع درجتهم، وعلو مكانتهم،
وما اختصه الله جل وعلا لهم من ارث نبيهم – صاروا محل كلام الناس، لا
بنقل اقوالهم، ولا بسماع توصياتهم، ولكن بالوقوع في اعراضهم، يلوكونها ويتسلطون عليهم بكلام لا حق
فيه، وانما هو محض الباطل والهوى، وينقلون ما يقول الناس، ويقول الدهماء، ويقول الغوغاء.
ولذا لم نر فوضى ولا بلاء اعظم مما نزل بالمسلمين في مجتمعاتهم في هذه الاوقات،
تركوا اهل العلم الراسخين، الذابين عن الملة، الداعين الى الكتاب والسنة، لاقوال اهل الهوى، او
لناعق في منبر اعلامي، او قناه او مجله او غيرها، يتكلم بالهوى، ويتكلم بما لا
يعرف، ويهذي بما لا يعقل، والناس له تابعون، وعن كتاب الله – جل وعلا –
وسنته والناطقين بها منصرفون.
ان الوقيعه في اهل العلم – مع ما فيها من الحرمه العظيمة؛ لرفيع درجتهم –
كما قال بعض السلف: ” لحوم العلماء مسمومه “. وعاده الله في هتك منتقصيهم معلومة،
ومن رامهم بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب.
ان الكلام في العلماء كلام في مؤمن، والله – جل وعلا – قد حفظ للمؤمنين
اعراضهم، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – في حجه الوداع: «ان دماءكم
واموالكم واعراضكم بينكم حرام، كحرمه يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا اللهم هل
بلغت، اللهم فاشهد» (21). وشهد الله – جل وعلا – بحفظ اعراض اهل الايمان، والعلماء
هم صفوه اهل الايمان، وهم المتسلمون للوائهم، والحافظون لهم، والمنادون الى سبيلهم.
والوقيعه فيها من الوعيد، الذي بينه النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث
المشهور: «وهل يكب الناس في النار على وجوههم – او على مناخرهم – في النار
الا حصائد السنتهم» (22). وفي الوقيعه في العلماء ايذاء للنبي – صلى الله عليه وسلم
– كما سمعنا من قول السلف، فانهم ورثته، وهم الناقلون لدينه، وفي الوقيعه اثار عظيمة،
وبلاء كبير:
فاول شيء يحرم الناس منه بالوقيعه في العلماء هو: ذهاب العلم، فاذا تكلم الناس في
العلماء، فمن اين يصدرون؟ ومن سيستفتون؟ وبمن يثقون؟ وعمن ياخذون؟ ولذلك قال ابو سنان الاسدي:
” اذا كان طالب العلم قبل ان يتفقه المساله في الدين يتعلم الوقيعه في الناس
متى يفلح؟ “. ومتى يفلح الناس، وهم يخوضون في علمائهم واولي الامر منهم، الذين يدعون
الى كتاب الله، والى سنه رسوله – صلى الله عليه وسلم – بالوقيعه والنقص والذم،
وابداء الخلات والعيب.
ان الوقيعه في اهل العلم سبب لهلاك الانسان في اخرته، ولذا يقول ابن المبارك –
رحمه الله -: “من تكلم في الامراء ذهبت دنياه، ومن تكلم في العلماء ذهبت اخرته،
ومن تكلم في الاخوان ذهبت مروءته”.
بالحديث عن العلماء يتعرض الانسان لوعيد شديد، وبلاء كبير؛ فانه يبارز الله – جل وعلا
– بالعداوة. ففي الحديث الصحيح، الذي رواه البخاري في صحيحه، ان النبي صلى الله عليه
سلم قال: «قال الله تعالى: من عادى لي وليا فقد اذنته بالحرب» (23). وانما الولايه
– ولا شك – لاهل العلم اصالة، ويتبعهم الناس، بما عندهم من كتاب الله، وسنه
رسوله – صلى الله عليه وسلم.
ان الحديث عن اهل العلم، والوقيعه فيهم، سبب لترك ما عندهم من الخير، وما عندهم
من الكتاب، وما عندهم من السنة. وتامل – يا رعاك الله – ما جاء في
الحديث الصحيح، ان النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «لا تسبوا الديك؛ فانه
يوقظ للصلاة» (24). فكيف باقوام يستبيحون اعراض اهل العلم، الذين يدعون الى توحيد الله، والى
كتاب الله، والى سنه رسول الله، والى الصلاة، والى الزكاة، والى الصيام، والى الحج، والى
صغير فروع هذا الدين وكباره، وقليله وكثيره. اليسوا ممن يقعون في امر عظيم. قال تعالى:
﴿ومن احسن قولا ممن دعا الى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين﴾ [سوره فصلت:
الايه 33]. فان هذا هو شان اهل العلم. والمتكلم فيهم متكلم بامر عظيم.
القدح – ايها الاخوه – في اهل العلم سبب لهلاك المجتمع برمته، وسبب لفساد الديار
والعباد. ولذلك يقول الامام السخاوي – رحمه الله -: “انما الناس بشيوخهم، فاذا ذهب الشيوخ
فمع من يكون العيش؟”.
نعم، فتاملوا – يا رعاكم الله – الى اقل اموركم واكثرها، وصغيرها وكبيرها، فيما تتعبدون
به لربكم، وفيما تتعاملون فيه من بيعكم وشرائكم، واعمالكم ووظائفكم، وتتعاملون فيه مع اهليكم وازواجكم،
وابنائكم وبناتكم، اليس كل ذلك انما تاخذونه من كتاب الله، وسنه رسوله – صلى الله
عليه وسلم – والذي يبصركم في ذلكم هم اهل العلم، فاذا تكلم فيهم فاسقطوا، فممن
يتعلم الناس ذلك كله؟
ولذا تبين تبينا كاملا، لا مريه فيه، تبينا يقينيا ان المتكلم في اهل العلم متكلم
في كتاب الله – جل وعلا – وسنه رسوله – صلى الله عليه وسلم –
ودليل ذلك ما جاء في الحديث المعروف المشهور، لما تكلم المنافقون، فقالوا: ما راينا مثل
قرائنا هؤلاء؛ ارغب بطونا، ولا اجبن عند اللقاء. يعنون رسول الله – صلى والله عليه
وسلم – واصحابه، فماذا قال الله – جل وعلا – في ذلك؟ انزل قوله سبحانه
وتعالى: ﴿قل ابالله واياته ورسوله كنتم تستهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم﴾ [سوره
التوبة: الايتان 65 – 66].
فهل استهزءوا بايات الله؟ لا، ولكن لما كانت الوقيعه في رسول الله وفي اصحابه مستلزم
لا محاله الوقيعه في ايات الله – جل وعلا – جعل الله ذلك استهزاء بايات
الله، وبكتابه وبسنه رسوله – صلى الله عليه وسلم – فبين الله ذلك في هاتين
الايتين: ﴿ولئن سالتهم ليقولن انما كنا نخوض ونلعب قل ابالله واياته ورسوله كنتم تستهزءون *
لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم﴾ [سوره التوبة: الايتان 65-66].
ايها الاخوة، الا يكفي ان الوقيعه في العلماء هي طريقه المنافقين، الذين يبطنون خلاف ما
يظهرون، الذين يريدون الفساد بالمجتمع، الذين يتربصون بالامه الدوائر، الذين يريدون بها البلاء، الذين يظهرون
الاصلاح ويبطنون الافساد. الا يكفي ذلك وازعا لنا، ومانعا ورادعا ان نتكلم في اهل العلم،
او نقع فيهم، او ان يصلهم منا ما يسوءهم، او ما ينقص قدرهم، ويذهب مكانتهم.
فما ترونه من تتابع اهل البلاء، واهل الفساد، من اصحاب الاقلام العفنة، والمنابر السيئة، من
الوقيعه في العلماء، ما هو الا لتعلموا علما يقينيا ان اولئك ما ارادوا الاصلاح، ولم
يريدوا الخير، ولا الفلاح لهذه الامة، وانما ارادوا ان يفرقوا بين المجتمعات وعلمائها، وارادوا ان
يفصلوا بين الامه وبين كتابها وسنه نبيها – صلى الله عليه وسلم – بفصلهم عن
علمائهم، فلا يزالون يحاولون الوقيعه في المجالس والمنتديات والمحافل مره بعد مرة، في قناه او
في اخرى.
اثر الخوض في العلماء:
ولذا راينا اثر ذلك جليا، فما انتشر الفساد، ولا البلاء، ولا كثرت المنكرات، ولا اتسع
الناس في الشهوات المحرمه الا ببعدهم عن علمائهم، ولا انتشرت الشبهات ولا التساهل في الدماء،
ولا الوقوع في امن المجتمعات، ولا التسلط على كثير مما يكون سببا للفساد في البلاد
والعباد الا بسبب ترك العلماء، والصدور عمن لا يستحق ان يصدر عنه، ممن تسلم لواء
ليس له بقائد، وليس له بمستحق.
عند ذلك كله نعلم – ايها الاخوه – عظم هذه الكلمة، التي ربما لم تتجاوز
احرفا قليلة، يتكلم الانسان فيها، في عرض احد من اهل العلم، بدون حجه ولا برهان،
يكون سببا لنقل الفساد، وسببا لحصول البلاء في الامه بين المجتمع، ولتهوين شان اهل العلم
عند الناس.
ولئن كان الناس اذانا صاغيه لمثل هؤلاء الذين ينعقون بالكلام في اهل العلم فان بلاء
كثيرا سيصيب هذه الامة، وان شرا عظيما سيحصل على المجتمع المسلم؛ لان بقاء اهل العلم
وحفظ قدرهم هو بقاء للدين، وبقاء للكتاب والسنة.
وتامل – يا رعاك الله – ما سمعته من الحديث السابق، الذي رواه مسلم في
صحيحه: «ان الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء،
حتى اذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا، فافتوا بغير علم فضلوا واضلوا»
(25).
ان من يتكلم في اهل العلم يريد للامه ان تصل الى هذه الدرجة؛ ان يتخلى
الناس عن علمائها الربانيين، الذين ينطقون دون ما هوى، ودون ما جهل، وانما بمحض فهمهم
لكتاب الله – جل وعلا – وسنه رسوله – صلى الله عليه سلم.
ان اولئك يريدون الصدود عن هؤلاء؛ ليذهب الى اهل الاهواء، ولا تسال عن بلاء الناس
عند ذلك الحد، فانه سوف يكون بلاء عريض، وشر كبير.
ايها الناس، اليس يفضي ترك العلماء الى ان يؤخذ العلم ممن ليس له باهل، فياتي
من يفتي الناس حسب رغباتهم، وحسب شهواتهم، ومن يفتي الناس حسب ما يستقر في صدره
من بغض لهذا، ومن اراده سوء لذلكم المجتمع، او لذلكم البلد، او بما يكون سببا
لاستحسان السائل، وعند ذلك يترك دين الله – جل وعلا – وتتبع الاهواء، ويتبع الهوى
والشيطان، فيحصل البلاء الكبير.
لذا كان لزاما علينا ان نعلم ان اعظم شيء يكون المرء حريصا عليه هو ان
يحفظ لسانه عن الوقيعه في كل امر محرم؛ من غيبة، او نميمة، او سباب، او
شتم. وان من اعظم القول المحرم الوقيعه في اهل العلم، وفي اهل الفضل، وفي اهل
الديانة، الذين بهم يحفظ الكتاب، وبهم تحفظ السنة، وبهم يكون نقل قول الله – جل
وعلا – وقول رسوله – صلى الله عليه وسلم.