سيره الحجاج بن يوسف الثقفي
النشاة
ولد الحجاج بن يوسف الثقفي في الطائف عام الجماعه (41 ه = 661م)، ونشا بين
اسره كريمه من بيوت ثقيف، وكان ابوه رجلا تقيا شريفا، وقضى معظم حياته في الطائف،
يعلم ابناءها القران الكريم دون ان يتخذ ذلك حرفه او ياخذ عليه اجرا. وامه هي
الفارعه بنت همام بن الصحابي عروه بن مسعود الثقفي، تزوجها الصحابي المغيره بن شعبه ثم
طلقها وندم، فتزوجها ابو الحجاج. حفظ الحجاج القران، ثم تردد على حلقات ائمه العلم من
الصحابه والتابعين، مثل: عبد الله بن عباس، وسعيد بن المسيب، وغيرهم، ثم اشتغل بالتعليم، مثل
ابيه. وقد كان من افصح الناس، حتى قال عنه النحوي ابو عمرو بن العلاء: «ما
رايت افصح من الحسن البصري، ومن الحجاج».
الحجاج وابن الزبير
لفت الحجاج انظار الخليفه عبد الملك بن مروان، وراى فيه شده وحزما وقدره وكفاءة، وكان
في حاجه اليه حتى ينهي الصراع الدائر بينه وبين عبد الله بن الزبير الذي كان
قد اعلن نفسه خليفه سنه (64ه = 683م) بعد وفاه يزيد بن معاويه بن ابي
سفيان، ودانت له بالولاء معظم انحاء العالم الاسلامي، ولم يبق سوى الاردن التي ظلت على
ولائها للامويين، وبايعت مروان بن الحكم بالخلافة، فنجح في استعاده الشام ومصر من قبضه ابن
الزبير، ثم توفي تاركا لابنه عبد الملك استكمال المهمة، فانتزع العراق، من معصب بن الزبير.
ثم جهز عبد الملك حمله بقياده الحجاج؛ للقضاء على دولته تماما. حاصر الحجاج مكه المشرفة،
وضيق الخناق على ابن الزبير المحتمي بالبيت، وكان اصحابه -بما فيهم ولديه- قد تفرقوا عنه
وخذلوه، بسبب سياسته وشدته. ولم يبق سوى قله صابرة، لم تغن عنه شيئا، وانتهى القتال
باستشهاد ابن الزبير والقضاء على دولته، وعوده الوحده للامه الاسلاميه التي اصبحت في ذلك العام
(73 ه = 693م) تدين بالطاعه لخليفه واحد، وهو عبد الملك بن مروان. وكان من
اثر هذا الظفر ان اسند الخليفه الى الحجاج ولايه الحجاز مكافاه له على نجاحه، وكانت
تضم مكه والمدينه والطائف، ثم اضاف اليه اليمن واليمامه فكان عند حسن ظن الخليفه واظهر
حزما وعزما في ادارته؛ حتى تحسنت احوال الحجاز، فاعاد بناء الكعبة، وبنى مسجد ابن سلمه
بالمدينه المنورة، وحفر الابار، وشيد السدود.
وهنا يزعم بعض الكذابين بان الحجاج قد ضرب الكعبه بالمنجنيق حتى هدمها، وهذه الفريه رد
عليها شيخ الاسلام، فيقول في الجواب الصحيح (5|264): «والحجاج بن يوسف كان معظما للكعبه لم
يرمها بمنجنيق». ويقول في الرد على المنطقيين (1|502): «والحجاج بن يوسف لم يكن عدوا لها
ولا اراد هدمها ولا اذاها بوجه من الوجوه ولا رماها بمنجنيق اصلا». ويقول في منهاج
السنه النبويه (4|348): «اما ملوك المسلمين من بني اميه وبني العباس ونوابهم، فلا ريب ان
احدا منهم لم يقصد اهانه الكعبة: لا نائب يزيد، ولا نائب عبد الملك الحجاج بن
يوسف، ولا غيرهما. بل كان المسلمين كانوا معظمين للكعبة. وانما كان مقصودهم حصار ابن الزبير.
والضرب بالمنجنيق كان له لا للكعبة. ويزيد لم يهدم الكعبه ولم يقصد احراقها لا وهو
ولا نوابه باتفاق المسلمين».
اقول: احترقت الكعبه ايام يزيد بسبب اقتراب مشعل احد جنود ابن الزبير من كسائها. فبعد
ذلك قام ابن الزبير بهدمها ليعيد بنائها على قواعد ابراهيم. فلما قتل، امر عبد الملك
باعاده بناء الكعبه على ما كانت عليه واخراج حجر اسماعيل منها، لانه لم يسمع بالحديث
الذي استند عليه ابن الزبير. اما حكايه المنجنيق فانا اشك بها من اصلها. فالحجاج قد
تقدم جيشه واحتل الاخشبين (جبل ابي قبيس الذي عليه القصر الملكي اليوم بجانب الصفا، وجبل
قعيقانالهندي)، وهما مطلان على المسجد الحرام من المشرق والمغرب وقريبين اليه جدا. فما الحاجه للمنجنيق؟
والمسجد الحرام من طابق واحد غير مرتفع، ومن السهل بمكان على جيش من الاف ان
يعلوه ويدخله، وهو ليس مبني اصلا ليكون حصنا. وهدمه لا يحتاج اكثر من بضعه ايام.
فلم طال الحصار الى عده شهور؟ عدا ان تفاصيل القصه تضمنت مبالغات مفضوحة. فكيف يزعمون
ان ابن الزبير وحده قد قاتل بضعه الاف واخرجهم من باب بني شيبة؟ وماذا عن
باقي الابواب؟ هذه اشبه باساطير الاغريق.
الحجاج في العراق
بعد ان امضى الحجاج زهاء عامين واليا على الحجاز نقله الخليفه واليا على العراق بعد
وفاه اخيه بشر بن مروان، وكانت الامور في العراق بالغه الفوضى والاضطراب. فلبى الحجاج امر
الخليفه واسرع في سنه (75ه = 694م) الى الكوفة، وحشد الناس للجهاد ضد الخوارج كما
سياتي تفصيله. ثم حدثت حركه تمرد في صفوف الجيش، بقياده ابن الجارود بعد ان اعلن
الحجاج عزمه على انقاص المحاربين من اهل العراق 100 درهم، ولكن الحجاج تمكن من اخماد
الفتنة، وعفا عن المتمردين الا بعض قادتهم. ثم تطلع الحجاج بعد ان قطع دابر الفتنة،
واحل الامن والسلام الى استئناف حركه الفتوحات الاسلاميه التي توقفت بسبب الفتن والثورات التي غلت
يد الدولة، وكان يامل في ان يقوم الجيش الذي بعثه تحت قياده ابن الاشعث بهذه
المهمة، وكان جيشا عظيما انفق في اعداده وتجهيزه اموالا طائله حتى اطلق عليه جيش الطواويس،
لكنه نكص على عقبيه واعلن الثورة، واحتاج الحجاج الى سنوات ثلاثه (81-83 ه – 700-702م)
حتى اخمد هذه الفتنه العمياء. وخلال هذه السنين الصعبة، حقق ابن الاشعث عددا من الانتصارات
فغره ذلك، واعلن العصيان، وخلع طاعه الخليفة، وكان في نفسه عجب وخيلاء واعتداد كريه. وازره
عدد من كبار التابعين انغروا بدعوته، واضطرب امر العراق وسقطت الكوفه والبصره في ايدي المتمردين،
وعرض عليهم الخليفه خلع الحجاج، فرفضوا واصروا على القضاء على الخلافه الاسلامية. غير ان الحجاج
صمد واستبسل حتى جاء الجيش الشامي، وتمكن من سحق عدوه في معركه دير الجماجم سنه
(83 ه = 702م)، ثم انتحر ابن الاشعث. لقد قتل في هذه الفتنه اعداد عظيمه
من المسلمين. بل معظم الذين قتلهم الحجاج في ولايته كانوا من المشتركين في هذه الفتنه
العظيمه التي عطلت الفتوحات وكادت تقضي على الخلافه الاسلامية، وهذا سبب تشدده بعكس تعامله مع
ثوره ابن الجارود.
الفتوحات الاسلامية
بعد اخماد الفتنة، عاود الحجاج سياسه الفتح، وارسل الجيوش المتتابعة، واختار لها القاده الاكفاء، مثل
قتيبه بن مسلم الباهلي، الذي ولاه الحجاج خراسان سنه (85ه = 704م)، وعهد اليه بمواصله
الفتح وحركه الجهاد؛ فابلى بلاء حسنا، ونجح في فتح ما وراء النهر وانتشر الاسلام في
هذه المناطق واصبح كثير من مدنها مراكز هامه للحضاره الاسلاميه مثل بخارى وسمرقند. وهنا نذكر
ان مساحه فتوح قتيبه بن مسلم الباهلي وحده، تبلغ اربعين بالمائه من مساحه الاتحاد السوفييتي
السابق وثلاثا وثلاثين بالمئه من مساحه الصين الشعبيه في الوقت الحاضر. وان سكان المناطق التي
فتحها في بلاد ما وراء النهر وتركستان الشرقيه ضمن الاتحاد السوفييتي والصين لا يزالون مسلمين
حتى اليوم، ويعتزون بالاسلام دينا. هذا فضلا عن فتوحات باقي قاده الحجاج، وباقي ولاه بني
امية.
وبعث الحجاج بابن عمه محمد بن القاسم الثقفي لفتح بلاد السند، وكان شابا عمره 17
سنة، ولكنه كان قائدا عظيما موفور القدرة، نجح خلال فتره قصيره لا تزيد عن خمس
سنوات (89-95ه = 707-713م) في ان يفتح مدن وادي السند (باكستان حاليا)، وكتب الى الحجاج
يستاذنه في فتح قنوج اعظم امارات الهند التي كانت تمتد بين السند والبنغال فاجابه الى
طلبه وشجعه على المضي، وكتب اليه ان «سر فانت امير ما افتتحته»، وكتب الى قتيبه
بن مسلم عامله على خراسان يقول له: «ايكما سبق الى الصين فهو عامل عليها».
وقال ابن كثير في تاريخه (9|104) عن الجهاد في عهدي بني امية: «فكانت سوق الجهاد
قائمه في بني اميه ليس لهم شغل الا ذلك، قد علت كلمه الاسلام في مشارق
الارض ومغاربها، وبرها وبحرها. وقد اذلوا الكفر واهله، وامتلات قلوب المشركين من المسلمين رعبا، لا
يتوجه المسلمون الى قطر من الاقطار الا اخذوه. وكان في عساكرهم وجيوشهم في الغزو الصالحون
والاولياء والعلماء من كبار التابعين، في كل جيش منهم شرذمه عظيمه ينصر الله بهم دينه.
فقتيبه بن مسلم يفتح في بلاد الترك، يقتل ويسبي ويغنم، حتى وصل الى تخوم الصين،
وارسل الى ملكه يدعوه، فخاف منه وارسل له هدايا وتحفا واموالا كثيره هدية، وبعث يستعطفه
مع قوته وكثره جنده، بحيث ان ملوك تلك النواحي كلها تؤدي اليه الخراج خوفا منه.
ولو عاش الحجاج لما اقلع عن بلاد الصين، ولم يبق الا ان يلتقي مع ملكها،
فلما مات الحجاج رجع الجيش كما مر… ومحمد بن القاسم ابن اخي الحجاج يجاهد في
بلاد الهند ويفتح مدنها في طائفه من جيش العراق وغيرهم». ولو عاش الحجاج لاكمل قتيبه
فتح الصين كلها، ولاكمل ابن القاسم فتح الهند. فرحمه الله عليك يا ابا محمد.
اصلاحات الحجاج
وفي الفتره التي قضاها الحجاج في ولايته على العراق قام بجهود اصلاحيه عظيمة، ولم تشغله
الفتره الاولى من ولايته عن القيام بها، وشملت هذه الاصلاحات النواحي الاجتماعيه والصحيه والاداريه وغيرها؛
فامر بعدم النوح على الموتى في البيوت، وبقتل الكلاب الضالة، ومنع التبول او التغوط في
الاماكن العامة، ومنع بيع الخمور، وامر بانشاء الجسور، وانشا صهاريج لتخزين مياه الامطار، وامر بحفر
الابار في المناطق المقطوعة، ومنع هجره اهل الريف الى المدن. ومن اعماله الكبيره بناء مدينه
واسط بين الكوفه والبصرة، واختار لها مكانا بين الكوفه والبصره والاحواز لتكون عاصمه الخلافة، فجعل
القسم الشرقي منها لسكن الجيش الشامي حتى لا يفسده العراقيون، والقسم الغربي جعل فيه دوائر
الدولة. وكان الحجاج يختار ولاته من ذوي القدره والكفاءة، ويراقب اعمالهم، ويمنع تجاوزاتهم على الناس.
وقد اسفرت سياسته الحازمه عن اقرار الامن الداخلي والضرب على ايدي اللصوص وقطاع الطرق.
ومن اهم انجازات الحجاج هو تعريبه للدواوين، مما مكن العرب للمره الاولى من شغل الوظائف
الاداريه في الدوله بعد ان كانت حكرا على الفرس. ونجح كذلك في اصدار الدراهم العربيه
وضبط معيارها، قام باصلاح حال الزراعه في العراق بحفر الانهار والقنوات، واحياء الارض الزراعية. واهتم
بالفلاحين، واقرضهم، ووفر لهم الحيوانات التي تقوم بمهمه الحرث؛ وذلك ليعينهم على الاستمرار في الزراعة.
نقط المصحف
ومن اجل الاعمال التي قام بها الحجاج: امره بتشكيل المصاحف كما ذكرنا ذلك بالتفصيل. ونسب
اليه تجزئه القران، ووضع اشارات تدل على نصف القران وثلثه وربعه وخمسه، ورغب في ان
يعتمد الناس على قراءه واحدة، واخذ الناس بقراءه عثمان بن عفان، وترك غيرها من القراءات،
وكتب مصاحف عديده موحده وبعث بها الى الامصار.
الحجاج مع بني هاشم
كانت الكوفه هي مركز التشيع التقليدي، ومنها خرج المختار الثقفي (والي ابن الزبير) بثورته الشيعية،
ثم ادعى النبوة. ومن هنا يقارن بعض الناس بين المختار والحجاج، فيقولون هذا كذاب وهذا
مبير، وهذا شيعي وذاك ناصبي، ويجعلانهما في نفس المستوى، وفي هذا اجحاف وظلم. قال شيخ
الاسلام في منهاج السنه النبويه (2|36): «والحجاج بن يوسف خير من المختار بن ابي عبيد.
فان الحجاج كان مبيرا -كما سماه النبي (ص)- يسفك الدماء بغير حق، والمختار كان كذابا
يدعى النبوه واتيان جبريل اليه. وهذا الذنب اعظم من قتل النفوس. فان هذا كفر، وان
كان لم يتب منه كان مرتدا، والفتنه اعظم من القتل».
اضافه الى ان مساله اتهام الحجاج بالنصب فيها نظر. فهو لم يتعرض لبني هاشم طوال
فتره حكمه، لا في الحجاز ولا في العراق. بل كان معظما لهم، وتزوج امراه منهم
واعظم صداقها. وقد دخل عليه احد قتله الحسين، فلم يرحب به الحجاج وبشره بالنار. اذ
روى الطبراني (3|111) باسناد صحيح، وابن معين في التاريخ روايه الدوري (3|498) باسناد حسن ان
الحجاج قال يوما: «من كان له بلاء فليقم فلنعطه على بلائه». فقام رجل (سنان) فقال:
«قتلت الحسين». قال: «وكيف قتلته؟». قال: «دسرته بالرمح دسرا، وهبرته بالسيف هبرا، وما اشركت معي
في قتله احدا». قال: «اما انك واياه لن تجتمعا في مكان واحد» (اي في الجنة).
واخرجه ولم يعطه شيئا. لذلك قال د. الصلابي في كتابه “الدوله الاموية” (3|63): «وكان الحجاج
يحترم اهل البيت ويكرمهم… وما يذكر في كتب التاريخ من كون الحجاج نصب العداء لاهل
البيت غير صحيح».
قال ابن تيميه في مجموع الفتاوى (4|504): «وهذا مما يقوله هؤلاء الجهال ان الحجاج بن
يوسف قتل الاشراف واراد قطع دابرهم، وهذا من الجهل باحوال الناس. فان الحجاج مع كونه
مبيرا سفاكا للدماء قتل خلقا كثيرا، لم يقتل من اشراف بني هاشم احدا قط. بل
سلطانه عبد الملك بن مروان نهاه عن التعرض لبني هاشم -وهم الاشراف- وذكر انه اتى
الى الحرب لما تعرضوا لهم -يعني لما قتل الحسين-. ولا يعلم في خلافه عبد الملك
والحجاج -نائبه على العراق- انه قتل احدا من بني هاشم». وقال في جامع المسائل (4|157):
«وكما يروون ان الحجاج بن يوسف قتل اشراف بني هاشم، وهذا كذب ايضا، فان الحجاج
مع ظلمه وغشمه صرفه الله عن بني هاشم، فلم يقتل منهم احدا، وبذلك امره خليفته
عبد الملك، وقال: “اياك وبني هاشم ان تتعرض الى احد، فاني رايت ال حرب لما
تعرضوا للحسين اصابهم ما اصابهم”، او كما قال. ولم يقتل في دوله بني مروان من
الاشراف بني هاشم من هو معروف، (الا) زيد بن علي بن الحسين لما صلب بالكوفة.
وقد تزوج الحجاج ابنه عبد الله بن جعفر واعظم صداقها، فلم يروه كفؤا لها وسعوا
في مفارقته اياها».
مواعظ الحجاج
كان للحجاج مواعظ بليغه مؤثرة، فمنها:
قال على المنبر: «رحم الله امرؤا جعل لنفسه خطاما وزماما، فقادها لخطامها الى طاعه الله،
وعطفها بزمامها عن معصيه الله. فاني رايت الصبر عن محارم الله ايسر من الصبر على
عذابه». (الكامل 1|93).
قال: «اللهم ارني الغي غيا فاجتنبه، وارني الهدي هدى فاتبعه، ولا تكلني الى نفسي فاضل
ضلالا بعيدا، والله ما احب ان امضي من الدنيا بعمامتي هذه، ولما بقي اشبه بما
مضى من الماء بالماء». (الكامل 1|93).
قال الحسن البصري: لقد وقذتني كلمه سمعتها من الحجاج. سمعته يقول: «ان امرؤا ذهبت ساعه
من عمره في غير ما خلق له، لحري ان تطول عليه حسرته يوم القيامة». (البيان
2|99، الكامل 1|93).
وعن المغيره بن مسلم قال: سمعت ابي يقول: خطبنا الحجاج بن يوسف فذكر القبر فما
زال يقول «انه بيت الوحده وبيت الغربة» حتى بكى وابكى من حوله (البدايه والنهايه 9|117).
قال الشعبي: سمعت الحجاج يتكلم بكلام ما سبقه اليه احد، سمعته يقول: «اما بعد، فان
الله عز وجل كتب على الدنيا الفناء، وعلى الاخره البقاء، فلا فناء لما كتب عليه
البقاء ولا بقاء لما كتب عليه الفناء، فلا يغرنكم شاهد الدنيا من غائب الاخرة، فطول
الامل يقصر الاجل». (العاقبه 86، مروج الذهب 3|159)
«ايها الناس، ان الامال تطوى، والاعمار تفنى، والابدان تحت التراب تبلى. وان الليل والنهار يتراكضان
كتراكض البريد، يقربان كل بعيد ويبليان كل جديد. وفي ذلك -عباد الله- ما يلهي عن
الشهوات ويسلي عن اللذات ويرغب في الباقيات الصالحات».
«اكثروا من ذكر هادم اللذات الموت. فانكم ان ذكرتموه في ضيق وسعه عليكم فرضيتم به
فاجرتم، وان ذكرتموه في غنى نغصه عليكم فجدتم به فاثبتم. ان المنايا قاطعات الامال والليالي
مدنيات الاجال، وان المؤمن بين يومين: يوم قد مضى احصى فيه عمله فختم عليه، ويوم
قد بقي لعله لا يصل اليه. ان العبد عند خروج نفسه وحلول رمسه يرى جزاء
ما اسلف وقله غناء ما خلف. ولعله من باطل جمعه او من حق منعه». (العاقبه
في ذكر الموت لعبد الحق الاشبيلي ص87).
وعن مالك بن دينار قال: غدوت الى الجمعه فجلست قريبا من المنبر، فصعد الحجاج المنبر
ثم قال: «امرؤ زور عمله، امرؤ حاسب نفسه، امرؤ فكر فيما يقرؤه في صحيفته ويراه
في ميزانه، امرؤ كان عند قلبه زاجرا وعند همه ذاكرا، وامرؤ اخذ بعنان قلبه كما
ياخذ الرجل بخطام جمله، فان قاده الى طاعه الله قبله وتبعه، وان قاده الى معصيه
الله كفه»، قالوا: حتى بكى مالك بن دينار. (تاريخ العرب في الاسلام 493).
روى الاصمعي ان الحجاج مرض فارجف الناس بموته، فخطبهم بعد ابلاله فقال: «ان طائفه من
اهل الشقاق والنفاق نزغ الشيطان بينهم، قالوا: “مات الحجاج”. واذا مات فمه؟ فهل يرجو الحجاج
الخير الا بعد الموت؟ والله ما يسرني ان لا اموت وان لي الدنيا وما فيها.
وما رايت الله رضي التخليد الا لاهون خلقه عليه، ابليس، قال الله له: { انك
من المنظرين } فانظره الى يوم الدين. ولقد دعا الله العبد الصالح فقال: { هب
لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي } فاعطاه الله ذلك الا البقاء. ولقد طلب
العبد الصالح الموت بعد ان تم له امره، فقال: { توفني مسلما والحقني بالصالحين }.
فما عسى ان يكون ايها الرجل؟ وكلكم ذلك الرجل. كاني والله بكل حي منكم ميتا،
وبكل رطب يابسا، ثم نقل في ثياب اكفانه الى ثلاثه اذرع طولا في ذراع عرضا،
فاكلت الارض لحمه، ومصت صديده ، وانصرف الخبيث من ولده يقسم الخبيث من ماله، ان
الذين يعقلون يعقلون ما اقول»، ثم نزل.
وفاه الحجاج
اصيب الحجاج في اخر عمره بما يظهر انه سرطان المعدة. وتوفي بمدينه واسط في العشر
الاخير من رمضان 95ه (714م)، وقيل في ليله القدر، ولعله علامه على حسن الخاتمة. قال
محمد بن المنكدر: كان عمر بن عبد العزيز يبغض الحجاج فنفس عليه بكلمه قالها عند
الموت: «اللهم اغفر لي فانهم زعموا انك لا تفعل». وروى الغساني (لم اعرفه) عن عمر
بن عبد العزيز انه قال: «ما حسدت الحجاج عدو الله على شيء حسدي اياه على:
حبه القران واعطائه اهله عليه، وقوله حين حضرته الوفاة: “اللهم اغفر لي فان الناس يزعمون
انك لا تفعل”». وقال الاصمعي: لما حضرت الحجاج الوفاه انشا يقول:
يا رب قد حلف الاعداء واجتهدوا * بانني رجل من ساكني النار
ايحلفون على عمياء؟ ويحهم * ما علمهم بكريم العفو غفار؟
قال فاخبر بذلك الحسن فقال: «تالله ان نجا لينجون بهما».
الحجاج في التاريخ
اختلف المؤرخون في شخصيه الحجاج بين مدح وذم، ، ولكن الحكم عليه دون دراسه عصره
المشحون بالفتن والقلاقل، يؤدي الى نتيجه بعيده عن الامانه والنزاهة. ولا يختلف احد في انه
اتبع اسلوبا حازما مبالغا فيه، واسرف في قتل الخارجين على الدولة، ولكن هذه السياسه هي
التي ادت الى استقرار الامن في مناطق الفتن والقلاقل التي عجز الولاه من قبله عن
التعامل معها. ويقف ابن كثير في مقدمه المؤرخين القدماء الذين حاولوا انصاف الحجاج؛ فيقول: «ان
اعظم ما نقم على الحجاج وصح من افعاله سفك الدماء، وكفى به عقوبه عند الله،
وقد كان حريصا على الجهاد وفتح البلاد، وكانت فيه سماحه اعطاء المال لاهل القران؛ فكان
يعطي على القران كثيرا، ولما مات لم يترك فيما قيل الا 300 درهم».
شخصيه الحجاج
كان الحجاج معروفا بحسن عبادته، وغيرته على القران. وكان مبتعدا عن الملذات، زاهد في المال.
وكان صاحب مواعظ بليغة. معروف ببعده عن صفات النفاق الثلاثة. وكل هذا لا ينف كونه
مغاليا في التكفير. اي انه كان يفعل ما يفعله تدينا وتقربا الى الله!! حتى انه
لقب نفسه ب”مبير المنافقين”! والنصوص التاريخيه موافقه لذلك، اذكر بعضها:
عن ابي بكر بن ابي خيثمه عن بحر بن ايوب عن عبد الله بن كثير:
ان الحجاج صلى مره بجنب سعيد بن المسيب (قبل ان يلي شيئا)، فجعل يرفع قبل
الامام ويقع قبله في السجود. فلما سلم اخذ سعيد بطرف ردائه –وكان له ذكر بعد
الصلاة–. فما زال الحجاج ينازعه بردائه، حتى قضى سعيد ذكره. ثم اقبل عليه سعيد فقال
له: «يا سارق، يا خائن. تصلي هذه الصلاة؟ لقد هممت ان اضرب بهذا النعل وجهك».
فلم يرد عليه. ثم مضى الحجاج الى الحج، فعاد الى الشام. ثم جاء نائبا على
الحجاز. فلما قتل ابن الزبير، كر راجعا الى المدينه نائبا عليها. فلما دخل المسجد، اذا
مجلس سعيد بن المسيب. فقصده الحجاج، فخشي الناس على سعيد منه. فجاء حتى جلس بين
يديه، فقال له: «انت صاحب الكلمات؟». فضرب سعيد صدره بيده وقال: «نعم». قال: «فجزاك الله
من معلم ومؤدب خيرا. وما صليت بعدك صلاه الا وانا اذكر قولك». ثم قام ومضى.
«كان مشهورا بالتدين وترك المحرمات مثل المسكر والزنا ويتجنب المحارم». (البدايه والنهايه 9|133).
«عرف عن الحجاج صلاته، وامامته بكثير من الصحابة، وخطبه فيهم. وعرف عنه عبادته». (اغاليط المؤرخين
200).
وقال بعض السلف: «كان الحجاج يقرا القران كل ليلة». (البدايه والنهايه 9|119، تاريخ العرب في
الاسلام 493).
«وكان فيه سماحه باعطاء المال لاهل القران، فكان يعطي على القران كثيرا. ولما مات لم
يترك فيما قيل الا ثلاثمئه درهم». (البدايه والنهايه 9|133).
وعن ابراهيم بن هشام عن عمر بن عبد العزيز انه قال: «ما حسدت احدا، حسدي
الحجاج على حبه القران واعطائه اهله عليه».
ولا عجب من حبه للقران، فقد كان ابوه معلما للقران بلا مقابل. وبدا الحجاج حياته
كذلك حتى انضم للشرطة. وهو الذي امر بتشكيل القران (وفق قراءه عثمان).
قال الغازي بن ربيعه للحجاج: «يا ابا محمد، ارايت هذه الدماء التي اصبت، هل يحييك
في نفسك منها شيء، او تتخوف لها عاقبة؟». قال: فجمع يده فضرب بها في صدري،
ثم قال: «يا غاز ارتبت في امرك، او شككت في طاعتك؟ والله ما اود ان
لي لبنان وسنير ذهبا مقطعا انفقها في سبيل الله مكان ما ابلاني الله من الطاعة».
- هل حقا كان الحجاج ظالما كما يزعمون؟
- لنجيب على السؤال فعلينا ان نعرف ما المقصود بالظلم اولا. الظلم لغة: وضع الشيء غير
موضعه تعديا (مقاييس اللغه 3|468). الظلم شرعا: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والتصرف في
حق الغير، ومجاوزه حد الشارع (الكليات ص594). - فاذا اردت ان تعلم الفرق بين الظلم في عصر السلف وبين عصرنا فاليك هذه القصة:
رجال داعيه هارب من بلده، ليس له هم الا ارشاد العباد. ذهب مره الى الحج،
وهناك في مكه المكرمة، تعرف عليه رئيس وفد الحجاج من بلده، وهو –طبعا– ضابط مخابرات.
فتم التدبير لخطفه ثم تعذيبه حتى الموت في الشهر الحرام والبلد الحرام، ثم احرق وجهه
والقي في الصحراء. وهذا رجل من حركه تبليغ التي لا تتدخل ابدا في السياسة، وانما
قتلوه لانه يدعو للاسلام. وليس هذا اشد الظلم في عصرنا بل هو مما اعتدنا على
سماعه حتى ان الناس لا تستغرب سماع مثل هذه القصص. فهل كان هذا مثل ظلم
الحجاج؟ الله لا. وانما غايه ما يكون من الحجاج هو القسوه في العقوبه للمذنب. - ولعل البعض يسال: لماذا الدعوه الى انصاف الحجاج؟ اقول ان العدل والانصاف واجب مع كل
الناس. {ولا يجرمنكم شنان قوم على الا تعدلوا}. وليس الحجاج وحده هو المقصود بل التاريخ
الاسلامي كله يحتاج الى دفاع عما الحقه به المفترون من اكاذيب. فمره كنت احدث صديقا
لي عن عزه المسلمين ايام الصحابه والتابعين، فتمعر وجهه وقال: لا اعادها الله علينا. فقلت:
لم؟! قال: كان الحجاج في ايامهم اذا غضب على رجل امر به فقطع راسه. اليوم
حالنا افضل!! - اقول: شتان ما بين عصرنا وعصرهم، وما بين حالهم وحالنا، وما بين حكامهم وحكامنا. والحادثه
التي اشار اليها صاحبي هي قصه عمير بن ظابئ التميمي من اشراف الكوفة، وهو اول
رجل يقتله الحجاج بعد توليه الكوفة. حيث انه لما وصل اليها، وصعد المنبر، قال عمير:
«لعن الله بني اميه حيث يستعملون مثل هذا»، واراد ان يرميه بالحجارة. وهي عاده لاهل
الكوفه من قبل. فلما خطب الحجاج خطبته الشهيره التي يقول بها «اني لارى رؤوسا قد
اينعت وحان قطافها واني لصاحبها»، سقط الحصى من يده وهو لا يشعر من شده الرعب.
ثم امر الحجاج الجنود الاحتياط باخذ عطائهم (الراتب السنوي) والتجهز للخروج في جيش المهلب لجهاد
الخوارج، وانذرهم ثلاثه ايام للخروج الى المعسكر خارج الكوفة. - لكن اهل الكوفه تقاعسوا عن الجهاد وارادوا القيام بتمرد، فتجمعوا في اليوم الثالث وكبروا تكبيرا
عاليا في السوق، فقام اليهم الحجاج وصعد على المنبر وقال: «يا اهل العراق، يا اهل
الشقاق والنفاق، ومساوئ الاخلاق، اني سمعت تكبيرا في الاسواق ليس بالتكبير الذي يراد به الترغيب،
ولكنه تكبير يراد به الترهيب. وقد عصفت عجاجه تحتها قصف. يا بني اللكيعه وعبيد العصا
وابناء الاماء والايامى، الا يربع كل رجل منكم على ظلمه، ويحسن حقن دمه، ويبصر موضع
قدمه؟ فاقسم بالله لاوشك ان اوقع بكم وقعه تكون نكالا لما قبلها وادبا لما بعدها».
فقام اليه عمير بن ضابئ فقال: «انا شيخ كبير وعليل: وهذا ابني هو اشب مني».
فقبل الحجاج منه وقال: «هذا خير لنا من ابيه». فقال عنبسه للحجاج: «اتعرف هذا»؟ قال:
«لا». قال: «هذا احد قتله عثمان». فقال الحجاج: «اي عدو الله! افلا الى امير المؤمنين
بعثت بديلا؟ اني لاحسب ان في قتلك صلاح المصرين». ثم امر به فضربت عنقه. فخاف
الناس وخرجوا جميعا للجهاد (الكامل 2|281، الطبري 3|550)، حتى قال واحد لصحابه: - تجهز واسرع فالحق الجيش لا ارى … سوى الجيش الا في المهالك مذهبا
تخير فاما ان تزور ابن ضابئ … عميرا واما ان تزور المهلبا - فمن تامل هذا وجد ان الحجاج كان محقا في قتله لهذا المجرم، وان قتله قد
حقق فائده عظيمة. ولو لم يواجه الحجاج تمرد العراقيين بهذا الحزم لسقط في نظرهم ولخرجوا
عليه كعادتهم. ومعلوم ان الجيش منذ ايام عمر ينقسم الى جند نظاميين، وجند احتياط (وهم
الغالبية) يتم استدعائهم عند الحملات الجهادية، ويصرف لهم راتب سنوي يسمى العطاء. وكانت عقوبه المتخلف
عن الجهاد ان تنزع عمامته امام الناس (عقوبه معنوية)، فلما تغير اهل العراق ولم يعد
هذا ينفع، اضاف اليه مصعب بن الزبير حلق الراس واللحية، ثم اضاف بشر بن مروان
تعليق الرجل بمسمارين على الحائط. فلما جاء الحجاج ووجد هذا غير نافع، امر بقتل الجندي
المتخلف عن الجهاد. فانتظم الناس ورجعت الفتوحات الى ما كانت في عهد عمر. نعم كان
الحجاج قاسيا في عقوبته، لكن عامه الذين عاقبهم كانوا مخطئين، ولم تنفع معهم عقوبه اقل
مما اوقع الحجاج، وباب التعزير مفتوح حسب ما يرى ولي الامر. - فاين هذا واين ما يجري اليوم في زماننا؟ الحجاج كان يقتل من يتخلف عن الجهاد،
واليوم يقتل من يدعوا للجهاد! الحجاج كان افصح الناس، وكان حريصا على اللغه العربيه لذلك
عرب الدواوين، واليوم بعض الحكام لا يستطيع ان يقرا صفحه من ورقه مشكلة! الحجاج فتح
البلاد الواسعة، وبعض الحكام اليوم يبيعها للكفار. الحجاج كان يقرئ القران كل ثلاث ليال، وهو
الذي امر بتشكيله وحفظه، فيما يحارب اليوم من يعلمه في بعض بلاد المسلمين. الحجاج مات
ولم يترك الا 300 درهم، وبعض حكامنا يملكون مليارات الدولارات. بل هم اغنى اغنياء العالم
بتقرير فوربس. الحجاج ما تلتطخ اسمه قط بالفروج والخمور، واما في عصرنا … الله المستعان.
ثم تقول حالنا اليوم افضل؟ لقد هزلت حتى بان هزالها.