ويكيدون ويكيد الله والله خير الكائدين
.صفه المكر والكيد والمحال لله تعالى:
وقوله: {وهو شديد المحال}، وقوله: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين}، وقوله: {ومكروا مكرا ومكرنا
مكرا وهم لا يشعرون}، وقوله: {انهم يكيدون كيدا واكيد كيدا} ذكر المؤلف رحمه الله ثلاث
صفات متقاربه في اربع ايات: المحال، والمكر.
الايه الاولى: في المحال، وهي قوله: {وهو شديد المحال} [سوره الرعد: 13].
* اي: شديد الاخذ بالعقوبة. وقيل: ان المحال بمعنى المكر؛ اي: شديد المكر، وكانه على
هذا التفسير ماخوذ من الحيله وهي ان يتخيل بخصمه حتى يتوقع به. وهذا المعنى ظاهر
صنيع المؤلف رحمه الله؛ لانه ذكرها في سياق ايات المكر والكيد.
والمكر؛ قال العلماء في تفسيره: انه التوصل بالاسباب الخفيه الى الايقاع بالخصم؛ يعني: ان تفعل
اسبابا خفيه فتوقع بخصمك وهو لا يحص ولا يدري، ولكنها بالنسبه لك معلومه مدبرة.
والمكر يكون في موضع مدحا ويكون في ذما: فان كان في مقابله من يمكر؛ فهو
مدح؛ لانه يقتضي انك انت اقوى منه. وان كان في غير ذلك؛ فهو ذم ويسمي
خيانة.
ولهذا لم يصف الله نفسه به الا على سبيل المقابله والتقييد؛ كما قال الله تعالى:
{ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون} [النمل: 50]، {ويمكرون ويمكر الله} [الانفال: 30]، ولا
يوصف الله سبحانه وتعالى به على الاطلاق؛ فلا يقال: ان الله ماكر! لا على سبيل
الخبر، ولا على سبيل التسمية؛ ذلك لان هذا المعنى يكون مدحا في حال ويكون ذما
في حال؛ فلا يمكن ان نصف الله به على سبيل الاطلاق.
فاما قوله تعالى: {والله خير الماكرين} [ال عمران: 54]؛ فهذا كمال؛ ولهذا لم يقل: امكر
الماكرين بل قال: {والله خير الماكرين}؛ فلا يكون مكره الا خيرا، ولهذا يصح ان نصفه
بذلك؛ فنقول: هو خير الماكرين. او نصفه بصفه المكر في سبيل المقابلة؛ اي: مقابله من
يمكر به، فنقول: ان الله تعالى ماكر بالماكرين؛ لقوله تعالى: {ويمكرون ويمكر الله}.
الايه الثانية: في المكر، وهي قوله: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين} [سوره ال عمران:
54].
* هذه نزلت في عيسى بن مريم عليه الصلاه والسلام، مكر به اليهود ليقتلوه، ولكن
كان الله تعالى اعظم منهم مكرا، رفعه الله، والقى شبهه على احدهم، على الذي تولى
كبره واراد ان يقتله، فلما دخل عليه هذا الذي يريد القتل، واذا عيسى قد رفع،
فدخل الناس، فقالوا: انت عيسى! قال: لست عيسى! فقالوا: انت هو! لان الله تعالى القى
عليه شبهه، فقتل هذا الرجل الذي كان يريد ان يقتل عيسى بن مريم؛ فكان مكره
عائدا عليه، {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين}.
الايه الثالثة: في المكر ايضا، وهي قوله: {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون} [النمل:
50].
هذا في قوم صالح، كان في المدينه التي كان يدعو الناس فيها الى الله تسعه
رهط- اي: انفار- {تقاسموا بالله لنبيتنه واهله} [النمل: 49]؛ يعني: لنقتلنه بالليل، {ثم لنقولن لوليه
ما شهدنا مهلك اهله وانا لصادقون} [النمل: 49]؛ يعني: انهم قتلوه بالليل؛ فما يشاهدونه. لكن
مكروا ومكر الله! قي{ومكرا} :ما خرجوا ليقتلوه، لجؤوا الى غار ينتظرون الليل؛ انطبق عليهم الغار،
فهلكوا، وصالح واهله لم يمسهم سوء، فيقول الله: {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا}.
* {ومكرا} : في الموضعين منكره للتعظيم؛ اي: مكروا مكرا عظيما، ومكرنا مكرا اعظم.
الايه الرابعة: في الكيد، وهي قوله: {انهم يكيدون كيدا واكيد كيدا} [الطارق: 15- 16].
* {انهم}؛ اي: كفار مكة، {يكيدون} للرسول صلى الله عليه وسلم {كيدا} لا نظير له
في التنفير منه ومن دعوته، ولكن الله تعالى يكيد كيدا اعظم واشد.
* {ليثبتوك}؛ يعني: كيدا اعظم من كيدهم.
ومن كيدهم ومكرهم ما ذكره الله في سوره الانفال: {واذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك
او يقتلوك او يخرجوك} [الانفال: 30]: ثلاثه اراء.
1- {ليثبتوك}؛ يعني: يحبسوك.
2- {يقتلوك}؛ يعني: يعدموك.
3- {يخرجوك}؛ يعني: يطردوك.
وكان راي القتل افضل الاراء عندهم بمشوره من ابليس؛ لان ابليس جاءهم بصوره شيخ نجدي،
وقال لهم: انتخبوا عشره شبان من عشر قبائل من قريش، واعطوا كل واحد سيفا ثم
يعمدون الى محمد صلى الله عليه وسلم، فيقتلونه قتله رجل واحد، فيضيع دمه في القبائل؛
فلا تستطيع بنو هاشم ان تقتل واحدا من هؤلاء الشبان وحينئذ يلجئون الى الدية، فتسلمون
منه. فقالوا: هذا الراي!! واجمعوا على ذلك. ولكنهم مكروا مكرا والله تعالى يمكر خيرا منه؛
ولكنهم مكروا مكرا والله تعالى يمكر خيرا منه؛ قال الله تعالى: {ويمكرون ويمكر الله والله
خير الماكرين} [الانفال: 30]؛ فما حصل لهم الذي يريدون! بل ان الرسول عليه الصلاه والسلام
خرج من بيته، يذر التراب على رؤوس العشره هؤلاء، ويقرا: {وجعلنا من بين ايديهم سدا
ومن خلفهم سدا فاغشيناهم فهم لا يبصرون} [يس: 9]، فكانوا ينتظرون الرسول عليه الصلاه والسلام
يخرج، فخرج، من بينهم، ولم يشعروا به.
اذا، صار مكر الله عز وجل اعظم من كرهم، لانه انجى رسوله منهم وهاجر.
*قال هنا: {يكيدون كيدا واكيد كيدا} [الطارق: 15- 16]، والتنكير فيها للتعظيم، وكان كيد الله
عز وجل اعظم من كيدهم.
وهكذا يكيد الله عز وجل لكل من انتصر لدينه، فانه يكيد له ويؤيده، قال الله
تعالى: {كذلك كدنا ليوسف} [يوسف: 76]، يعني: عملنا عملا حصل به مقصوده دون ان يشر
به احد.
وهذا من فضل الله عز وجل على المرء، ان يقيه شر خصمه على وجه الكيد
والمكر على هذا الخصم الذي اراد الايقاع به.
فان قلت: ما هو تعريف المكر والكيد والمحال؟.
فالجواب: تعريفها عند اهل العلم: التوصل بالاسباب الخفيه الى الايقاع بالخصم؛ يعني: ان توقع بخصمك
باسباب خفيه لا يدري عنها. وهي في محلها صفه كمال يحمد عليها وفي غير محلها
صفه نقص يذم عليها.
ويذكر ان علي بن ابي طالب رضي الله عنه لما بارز عمرو بن ود- والفائده
من المبارزه انه اذا غلب احدهما انكسرت قلوب خصومه- فلما خرج عمرو؛ صرخ علي: ما
خرجت لابارز رجلين. فالتفت عمرو، فلما التفت؛ ضربه علي رضي الله عنه على رقبته حتى
اطاح براسه.
هذا خداع، لكنه جائز، ويحمد عليه؛ لانه في موضعه؛ فان هذا الرجل ما خرج ليكرم
علي بن ابي طالب ويهنئه، ولكنه خرج ليقتله؛ فكاد له علي بذلك.
والمكر والكيد والمحال من صفات الله الفعليه التي لا يوصف بها على سبيل الاطلاق؛ لانها
تكون مدحا في حال، وذما في حال؛ فيوصف بها حين تكون مدحا، ولا يوصف بها
اذا لم تكن مدحا؛ فيقال: الله خير الماكرين، خير الكائدين، او يقال: الله ماكر بالماكرين،
خادع لمن يخادعه.
والاستهزاء من هذا الباب؛ فلا يصح ان نخبر عن الله بانه مستهزئ على الاطلاق؛ لان
الاستهزاء نوع من اللعب، وهو منفي عن الله؛ قال الله تعالى: {وما خلقنا السموات والارض
وما بينهما لاعبين} [الدخان: 38]، لكن في مقابله من يستهزئ به يكون كمالا؛ كما قال
تعالى: {واذا لقوا الذين امنوا قالوا امنا واذا خلوا الى شياطينهم قالوا انا معكم انما
نحن مستهزئون} [البقرة: 14]؛ قال الله: {الله يستهزئ بهم} [البقرة: 15].
فاهل السنه والجماعه يثبتون هذه المعاني لله عز وجل على سبيل الحقيقة.
لكن اهل التحريف يقولون: لا يمكن ان يوصف بها ابدا، لكن ذكر مكر الله ومكرهم
من باب المشاكله اللفظية، والمعنى مختلف؛ مثل: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} [المائدة: 119].
ونحن نقول لهم: هذا خلاف ظاهر النص، وخلاف اجماع السلف. وقد قلنا سابقا: اذا قال
قائل: ائت لنا بقول لابي بكر او عمر او عثمان او علي يقولون فيه: ان
المراد بالمكر والاستهزاء والخداع الحقيقة.
فنقول لهم: نعم؛ هم قرؤوا القران وامنوا به، وكونهم لم ينقلوا هذا المعنى المتبادر الى
معنى اخر؛ يدل على انهم اقروا به، وان هذا اجماع، ولهذا يكفينا ان نقول في
الاجماع: لم ينقل عن واحد منهم خلاف ظاهر الكلام، وانه فسر الرضى بالثواب، او الكيد
بالعقوبة…. ونحو ذلك. وهذه الشبهه ربما يوردها علينا احد من الناس؛ يقولون: انتم تقولون: هذا
اجماع السلف؛ اين اجماعهم؟
نقول: عدم نقل ما يخالف ظاهرها عنهم دليل الاجماع.
ما نستفيده من الناحيه المسلكيه في اثبات صفه المكر والكيد والمحال:
المكر: يستفيد به الانسان بالنسبه للامر المسلكي مراقبه الله سبحانه وتعالى، وعدم التحيل على محارمه،
وما اكثر المتحيلين على المحارم فهؤلاء المتحيلون على المحارم، اذا علموا ان الله تعالى خير
منهم مكرا، واسرع منهم مكرا؛ فان ذلك يستلزم ان ينتهوا عن المكر.
ربما يفعل الانسان شيئا فيما يبدوا للناس انه جائز لا باس به، لكنه عند الله
ليس بجائز، فيخاف، ويحذر.
وهذا له امثله كثيره جدا في البيوع والانكحه وغيرهما:
مثال ذلك في البيوع: رجل جاء الى اخر؛ قال: اقرضني عشره الاف درهم. قال: لا
اقرضك الا باثني عشر الف وهذا ربا وحرام سيتجنبه لانه يعرف انه ربا صريح لكن
باع عليه سلعه باثني عشر الفا مؤجله الى سنه بيعا تاما وكتبت الوثيقه بينهما، ثم
ان البائع اتى الى المشترى، وقال: بعنيه بعشره الاف نقدا. فقال: بعتك اياه. وكتبوا بينهما
وثيقه بالبيع فظاهر هذا البيع الصحة، ولكن نقول: هذه حيلة؛ فان هذا لما عرف انه
لا يجوز ان يعطيه عشر الفا؛ قال: ابيع السلعه عليه باثني عشر، واشتريها نقدا بعشرة.
ربما يتسمر الانسان في هذه المعامله لانها امام الناس معامله ليس فيها شيئا لانها امام
الناس معامله ليس فيها شيء لكنها عند الله تحيل على محارمه، وقد يملي الله تعالى
لهذا الظالم، حتى اذا اخذه لم يفلته؛ يعني: يتركه ينمو ماله ويزداد وينمو بهذا الرباء
لكن اذا اخذه لم يفلته؛ وتكون هذه الاشياء خساره عليه فيما بعد، وماله الى الافلاس،
ومن الكلمات المشهوره على السنه الناس: من عاش في الحيله مات فقيرا.
مثال في الانكحة: امراه طلقها زوجها ثلاثا؛ فلا تحل له الا بعد زوج، فجاء صديق
له، فتزوجها بشرط انه متى حللها –يعني: متى جامعها –طلقها، ولما طلقها؛ انت بالعدة، وتزوجها
الاول؛ فانها ظاهرا تحل للزوج الاول، لكنها باطنا لا تحل؛ لان هذه حيلة.
فمتى علمنا ان الله اسرع مكرا، وان الله خير الماكرين؛ او جب لنا ذلك ان
نبتعد غايه البعد عن التحيل على محارم الله.