متماوجا تتعدد فيه الرؤى، وتزدحم العقد، وتلتبس المشاهد والاحداث متيحه لقارئيها فرصه النظر اليها من
زوايا كثيره تختلف فيما بينها اختلاف وجهات نظرهم، وتتعدد بتعدد مناحيهم الفكريه وتوجهاتهم النقدية.
فمن ناحيه نفسيه يمكن الارتكاز على مقولات عقده اوديب الفرويديه وعلى ما عجت به طفوله
البطل من يتم وحرمان وجداني لم يجد متنفسا لهما الا في غرامه الاول الذي التبس
– دون ان يعلم – بابيه الافتراضي المجهول: “سعيد ادهم” الذي اتى مقتله تجسيدا لنزوع
الانتقام الاوديبي من جهة، واحاله الى اضطراب نفسيه البطل وتخبطه العاطفي فضلا عن ضياعه الطويل،
وتسكعه بين اكثر من وجه انثوي يتوهم في تقاسيمه الحانيه شيئا من تقاسيم وجه امه
الغائب وابتساماتها المفتقده التي لا يني يلاحقها، ويستجديها من ايه امراه اخرى يقابلها.
الاول وفواجعه التي افسدت على البطل حياته، وجعلت من الانتقام والظفر بحبيبه الصبا هاجسه الاوحد
وحلمه الدفين الذي استنفد جميع طاقاته الروحيه والابداعية.
ومن الممكن ايضا مقاربه هذا النص مقاربه تناصيه تستحضر من خلالها نماذج ادبيه اخرى تتداخل
معه وتمتزج فيه بشكل يتراوح بين التلميح والتصريح والخفاء والتجلي؛ كاسطوره اوديب مثلا التي تشغل
الجانب التاويلي العميق من نفسيات الشخوص، ومسرحيتي “هاملت” و”روميو وجولييت” اللتين اطلتا من خلال العمل
المسرحي الذي ابتدعه البطل سبيلا للانتقام من غريمه.
وروايه “الحب في زمن الكوليرا” ايضا التي اتى اصرار البطل على استعاده حبيبته بعد ثلاثين
عاما من القطيعه محيلا الى اصرار بطل ماركيز على استعاده حبيبته ايضا بعد اكثر من
نصف قرن على الفراق، لولا ان بطل ماركيز استعان على غايته بالصبر والانتظار فيما حاول
بطلنا هنا الاستعانه بالقتل في سبيل غايته.
ملاحظه مستويين متكاملين يتحكمان فيها ويوجهانها، هما: مستوى الفرد بكل ما يموج في اعماقه من
مشاعر ونزوات وهواجس ورغبات تتحكم في سلوكه، وتوجه وعيه، وتشكل ضغطا يعلو او ينخفض على
وجوده، وعلى علاقاته مع الاخرين المحيطين به، الذين قد ينسجمون قليلا مع حالاته او يختلفون.
ومستوى السياق الاجتماعي المرافق لحركات البطل، والذي اتى على الرغم من تخفيه هنا مضطلعا بتوجيه
شق كبير من تحركات البطل ومن سير الاحداث.
فعلى المستوى الاول – مستوى الفرد – نلاحظ ان البطل: “حامد” هو الشخصيه المهيمنه على
مسار الرواية، وهو العنصر الناتئ الذي تنضوي تحت معطفه بقيه الشخوص الاخرى وتتحدد ملامحها: فهو
محور جميع التغيرات، وتقلبات مزاجه هي التي تحدد مسار الاحداث، وتؤسس بؤرتها العميقه وجذوتها الدفينه
التي انطلق خيطها الاول بعد حوالي ثلاثين عاما من بدايه القصه الاصليه حين اكتشفت الزوجه
ان زوجها – حامد – يعشق امراه اخرى سواها، ويحتفظ بصورها ورسائلها اليه كنزا ثمينا
يخبؤه في اعماق احدى الحقائب، ويتكتم عليه طوال عقود زواجهما، الذي لم يكن الا مهربا
لجا اليه حين غصت ايامه بماساه فقدانه حبيبه الصبا “شمس” التي تركته الى رجل اخر
اصبح فيما بعد غريمه وعدوه اللدود الذي لا يني يلهج بشتمه، ويستنزل عليه اللعنات، طاويا
اعماق نفسه على ذلك الحقد المدمر الذي لم يكن انزلاقه اليه الا احد نتائج طفولته
غير السويه وشخصيته الانطوائيه التي من العنت الشديد عليها ان تنفتح على الاخرين او تكاشفهم
بشيء من الامها وخباياها، مما يكرس سلطه الذات ودورها في تسلسل الاحداث وتصاعد المفاجات التي
لم يكن اغلبها الا وليد فرد واحد مضطرب، ومتعثر الخطوات نجده في مواقف كثيره منكفئا
على نفسه، لاعقا جراحها الحقيقيه والموهومة، ومتشبثا بطفولته المحرومه ومراهقته البائسه التي لم يتخلص فيها
ابدا من شعوره المبكر باليتم، ومن ميله الى العزله وكثره التامل، حين راح يواصل دراسته
في صعوبه شديدة، متلعثما كل حين، ومجتنبا المراه – على توقه الشديد لها – الى
عالم اخر من صنعه ومن وحي خياله الجامح (ص45-46) حيث غدا وجه امه البعيد هاجسه
الاوحد وعذابه الدفين، ولعنته التي لم تفارقه حتى بعد نضوجه، وتجاوزه مرحله الطفوله والمراهقة.
والسياسيه المحيطه بالفرد – فلم يكن المبدع ليرتكز عليه كثيرا في هذا العمل، بل تركه
في الكواليس؛ في نقطه خفيه لا تسفر عن وجهها مباشره بل تفاجئنا من حين الى
اخر في بعض الفصول بشكل يوحي بان لها من الاهميه ما لا يقل ابدا عن
اهميه البطل الفرد وسلطته المكرسه منذ بدايه العمل: فالحقيبه السوداء التي تحتضن سره، وتخبئ في
احشائها قلبه النابض، ودمه ودموعه لم تكن لينتهك احد غموضها لولا تلك “المفرزه الاجنبية” المكلفه
بتفتيش الدور، والتنقيب في خزائنها المغلقه بحثا عن “اسلحه ومتفجرات” (ص 25)، ولجوء هذا البطل
الى بيت احد اصدقائه – بعد انهيار زواجه وضياع اسرته – لم يكن ليضفي هذا
الطابع الماساوي على جو الروايه لولا ان هذا الصديق قتل غدرا وبسبب الهوية! (ص 62-63)،
والمفارقه الدراميه نفسها التي يحويها هذا العمل لم تكن لتبلغ نقطه احتدامها القصوى لولا مقتل
ابن الحبيبة/ الارمله المشتهاه وابيها بمجرد سماعهما خبر مصرع الزوج، ولولا ان موتهما لم يكن
الا بسبب احدى العبوات الناسفه التي غصت بها شوارع المدينه في طريقهما للشروع في اجراءات
جنازته ومراسيم دفنه.(ص 150)
الى جانب مصرع المخرج “سامي الماهر” الصديق الحميم للزوج غريم العاشق وضحيته، والذي لم يوضح
لنا الكاتب ظروف رحيله وملابساته بل اوحى لنا بانها ميته مجانيه اخرى لا تقل جرعه
العبث فيها عن بقيه الميتات السابقة، التي يمكن وصفها كلها – على حد تعبيره هو
نفسه – بانها لا تزيد على ان تكون “خطا في الاخراج وخروجا عن النص!!” (ص
155)
ومقتل ابن خال البطل: “فارس” لم يكن ايضا ليحصل لولا انفلات الامن وغياب القانون(ص 164).
فضلا عن عبارات كثيره تطل علينا في كثير من الفصول وتلقي بظلال عميقه على ظروف
الوطن وعلى تفشي العنف والدمار في ارجائه تفشيا بات معه الموت واقع الناس وحديثهم اليومي
المكرور الذي لا مفر ابدا من تجاهله او محاوله التملص منه واجتنابه، مما يمكن ملاحظته
في كثير من المشاهد والعبارات التي لا ينطقها المبدع على لسان ابطاله عرضا واعتباطا، بل
ليوحي بمدى تازم ظروفهم وعنت ازمنتهم و ايامهم: فالوضع الامني المنفلت، وحظر التجول هو الذي
يجبر المخرج على قضاء ليلته – بعد تاخر الوقت – في بيت صديقه الممثل (ص9)،
وهذا الاخير مضطر للسبب نفسه الى اجراء تدريباته المسرحيه كلها في بيته ايضا(ص11)، ووقوعه المفاجئ
لحظه تداعي المناضد والكراسي لم يكن الا “كدوي انفجار عبوه طائشة” (ص21)، ولدى انهيار اسره
البطل لحظه اكتشاف زوجته سره الخطير كان انكفاؤه على نفسه وحيدا يدخن ويفكر مترافقا مع
“اطلاق كثيف” (ص26) ومثله كان اطلاق كثيف اخر واصوات طائرات ليليه تقض عليه مضجعه حين
كان لاجئا الى بيت صديقه المغتال.(ص40)
اما بعد ان تمت له غايته وتمكن من قتل غريمه الممثل فانه ولدى اجتماعه بالمخرج
الذي يلومه كثيرا على نصه القاتل اخذ ينصت الى دوي انفجار سياره ملغمه من مكان
قريب، ولم يملك الا ان يعلق على ذلك ببرود قائلا: “لم يعد الموت عجبا.. يحدث
كل دقيقه وفي كل شارع”(ص146)
والممثل نفسه – كما جاء في الصفحه نفسها – اصيب ذات يوم بعطب نفسي طويل
سببه فقدان ولديه من زوجته الاولى في حرب الخليج.
وحين لم ير هذا البطل “شيرين” زميله الصبا وزوجه المخرج في بيتها لم يجد لغيابها
سوى تفسير واحد من ثلاثة: فهي اما ان تكون قد جمحت مع رجل اخر غير
زوجها، او انها امراه شموس صعبة، او انها ماتت بانفجار عابر! (ص76)
وهذا ما يؤكد ان المبدع لم يتجاهل ابدا سياقات بيئته وظروف مجتمعه بل عمد الى
ابرازها بطريقه الماحية، لا تقحم نفسها بفجاجه على الاحداث او على تقلبات نفس البطل بل
تحتضن كليهما بتلقائيه يمتزج فيها الهم الجمعي الممثل في ازمات الوطن وانفلاتاته الامنيه بالهم الفردي
الممثل في ازمات البطل ومشكلات قلبه التي عن طريقها بدات شراره الاحداث الاولى تنقدح وتتتالى
فيما بينها، حامله في كل موجه منها بعض العقد والاشتباكات التي لا نكاد نظفر بحل
لها حتى يستجلب معه ازمه اخرى، تنفرج بدورها قليلا ثم تضيق مره اخرى، ولا يظل
في الختام سوى حل مفصلي وحيد: هو موت البطل او انتحاره الذي به وحده تتوقف
– ولو قليلا – سلسله المازق والعقد.
ولو تتبعنا هذه الاحداث لوجدنا اولها منصبا على شاب منطو ينفتح قلبه – بعد مكابدات
كثيره – على حب اول محتدم سرعان ما يفشل بسبب نوبات الشك الكثيره التي تعصف
به، وتنتهي بانفلات الحبيبه الى حب اخر، وزوج يستحيل الخصم والعدو الذي لا يدخر هذا
المحب المهجور سبيلا الى الانتقام منه والتنكيل به كعاده بعض من المحبين المهملين امثاله.
ولا يجد من وسيله امثل لذلك من التاويل السياسي وتوريطه مع جهاز المخابرات، ثم يفر
الى الخارج لدى اكتشاف كذبته، مما يمكن ان نعتبره الحركه الاولى من مسار الخط الدرامي:
محب يائس يشي بغريمه كذبا، ثم يفر خشيه افتضاح فعلته…
وهي حركه تتميز بانفتاحها الشاسع وتقاطعها مع كثير من قصص الحب وتقلباته التي قد يتحول
فيها عهد الوفاء القاطع والاخلاص الى نقيضه من الخيانه والدنس، وحتى القتل الذي لا يفاجئنا
به البطل في احدى لحظات ياسه الاخير.
وتبدا الحركه الثانيه لحظه الهرب والانفتاح على تجارب انسانيه وغراميه اخرى تاتي جرعا مخدره تتناسى
بها لوعه الحب الاول وخيباته، التي ياتي الزواج بعدها وبسببها ليحيل الى حل جزئي يوهمنا
بحاله ما من التصالح مع الذات لا سيما بعد الرجوع الى الوطن والانغماس في انشغالات
الحياه اليوميه ومطالبها التي لم يبق معها امام “حامد” سوى التسليم بدوره الجديد في الحياة:
زوجا مخلصا ثم ابا حنونا، لا هم له الا اسعاد اسرته الصغيره ورعايتها، وان كان
شيء من اشواقه الاولى قد اطل من خلال تسميته ابنته بالاسم نفسه الذي تسمت به
حبيبته.
وما تتميز به هذه الحركه هو تنازلها، وهدوؤها وامتدادها المائل الى ان تكون حلا كدنا
نسلم به لولا ان هذا الزوج العاشق لم يتوقف ابدا عن استحضار مشاهد حبه، ولحظاته
الغابره التي لم يكتف بتذكرها فقط، بل تركها محنطه في رسائل وصور قديمة، ملا بها
حقيبته السوداء التي لم يلبث سرها ان انكشف وفضحه…
وهنا يمكن القول بان الصراع الاول الذي خاضه البطل مع نفسه ومع عواطفه العاصفه ونزواته،
والذي انتهى بحل – او شبيه حل – معقول، لم يلبث ان تزحزح هدوؤه بعد
اكثر من ربع قرن من التجاهل والخمود، فتبعثرت مكنونات قلبه في لحظه قدريه طائشه يمكن
عدها العقده الثانيه هنا، او نقطه التازم الحاسمه ولحظه سقوط الاقنعه التي ازدادت فيها حده
التوتر، والضغط على البطل: فلا هو حظي بوصل حبيبته الغائبة، ولا هو حافظ على قناعه
المراوغ، واستمر في دور الزوج الذي اعتاده منذ عقود، فضلا عن لجوئه الى بيت صديقه
“القتيل على الهوية” حيث يخاله كل ليله الى جانبه يقاسمه السرير، وينزف دما، ثم يقتحم
احلامه ويحيلها الى كوابيس يساله فيها كل لحظه عن سبب مقنع لقتله.(ص62-63)
كل هذا العبث واللامعقول: حقيبه منسيه تتبعثر مكنوناتها في لحظه تفتيش عابرة، وصديق عزيز يقتل
غدرا لان طائفته ومذهبه لا يعجبان القتلة، كان له اثره في تصعيد المازق الى اقصى
طاقاته التي تفتقت في ذلك الجو الجنائزي الكئيب – جو شقه الصديق المغتال – عن
خطه انتقاميه قوامها نص مسرحي مجنون، يؤديه الممثل المستهدف بصدق وانفعال قد يقضيان عليه، لانه
مضطر الى ان يتقمص دور هاملت – الذي يعد من اصعب الادوار المسرحيه – وان
يبني عرشا واهيا من الكراسي والطاولات في تسارع زمني يصل من خلاله الى سقف المسرح
لينشد بانفعال كلمات شاعريه قد يبلغ تاثره بها ان يسقط من الاعلى بحركه خاطئة، او
قد ينجو من السقوط، لينهكه الصعود والنزول مع الظما، وارتفاع الحرارة، وتقدمه في السن.(ص73-74)
اي ان الحل الذي ارتاه العاشق لازمته كان موت غريمه وتشفيه بمصرعه دون ان يتهمه
فيه احد وهو ما تم له فعلا لحظه تداعي “العرش الخشبي”، وسقوط الممثل سقوطا خاطفا
فارق على اثره الحياه مباشرة.
وهي اللحظه التي بدات بها الرواية، والتي يمكن وصفها بالبدايه الاستباقيه التي لا ينسج فيها
الراوي مسار احداثه من اول حركه دراميه فيها، بل يبدا من منتصف الاحداث – او
من ختامها – من لحظه التازم الحادة، او من الحل الجزئي المتاح: موت الغريم، الذي
يلوح حلا سهلا لا تنتهي به دوامه البطل ومازقه بل يتلوه حل هش اخر هو:
موت ابي الحبيبه وابنها اللذين اتى رحيلهما المفاجئ شافيا لاحقاده وضغائنه؛ فالاب المتسلط كان ذات
يوم عائقا امام سعادته برفضه خطبه ابنته له، والابن هو وجه اخر من اوجه غريمه
وبقاياه، برحيله سيستريح منه، ومن ذكراه.
وتنبع هشاشه هذا الحل من كونه يحمل في اعماقه ازمه جديدة، ومن كونه محك التجربه
والاختبار؛ قد تظل معه فعله هذا العاشق مجهوله مما يعني تذليل جميع العوائق، والحواجز امامه،
لانه سيكون في مثل هذه الحال مرفا الامان، ومصدر الامل والعزاء، والذكريات الجميله الغابره التي
قد يكون في اقترابه سبيل ما الى استعادتها وتلمسها من جديد.
وقد تنكشف جريمته المدبره ويضاف اليها التسبب ايضا – ولو عن غير قصد – في
مقتل الاب والابن مما يقضي على كل امل في اللقاء، ويبدد سحابه الوصل المنشود.
ولا يمهلنا المبدع هنا كثيرا، لانه سرعان ما يفاجئنا – بعد ان اوهمنا بامكانيه ان
يكون في موت الاب والابن حل ما – بازمه جديدة، ومازق عصي ينكشف فيه امام
العاشق – المازوم اصلا والمعذب الضمير بعد تسببه ايضا في مقتل ابن خاله – سر
قاتل، يكتشف من خلاله ان ذاك الذي ناصبه العداء دهرا، ولم يقنع الا بموته ليس
سوى منقذه من الهلاك وابيه الافتراضي – ان جاز للابوه ان تكون افتراضيه – اي
انه وبعد كل تلك الخطط والمكائد، وبعد كل تلك الاشتعالات والحرائق لم يفعل شيئا سوى
قتل ابيه (الروحي)!!
وهنا قمه التشابك والاحتباس، وتماما كما فعل اوديب الاغريقي حين قتل نفسه مجازا بسمل عينيه،
لا يجد البطل هنا من مخرج لمازقه سوى قتل نفسه، لا مجازا كما فعل سلفه
الاسطوري بل حقيقه وبالطريقه نفسها التي قتل بها غريمه/ ابوه: بعرش وهمي يمكن عده الترميز
التاويلي لسطوه الحب وطغيان سلطانه: فالمحبان – كما جاء في التصدير الماخوذ عن قول اونامونو
– طاغيتان وعبدان: كلاهما طاغيه وعبد للاخر في ان واحد (ص5)، وكل عرش قوامه الطغيان
والتجبر مصيره التهشم حتما؛ اما بتهشيم الطرف الاخر – كما جاء في بدايه العمل –
حين لم يجد العاشق غضاضه في موت الزوج وبقاء الحبيبه من بعده “ارمله ثكلى في
الخمسين” او بتهشيم الانا واحتضان الموت جثه هامده لم تجد سواه مهربا وملاذا تتقي به
التحديق في مملكتها البائده وعرشها المزال.
وفي كلا الطرفين التدميريين – تدمير الاخر او تدمير الانا – يسود نسيج دائري احداثه
محكمة، ومازقه وحلوله متماوجة، متناوبه الحضور والتاثير، حامله في اعماقها وفي جميع لحظات مدها وجزرها
جرعا لا تعد من العبث واللامعقول، والسخريه التي تصل احيانا حدها الاقصى/ المضحك المبكي: كالميتات
الخمس المتتاليه – ميتات الممثل، وابنه، وابي زوجته، وصديقه المخرج وابن خال العاشق، والعاشق نفسه
– التي كان سببها على حد تعبير المخرج: “خطا في الاخراج وخروج عن النص!!”: جمره
عشق تفجرت فجاه وتسببت في جميع تلك الماسي.
والشخص الوحيد الذي كانت منيته بعيده عن لعنه اهواء البطل ومحرقه تقلباته وهو صديقه الحميم
“صابر” لم ينج ايضا من عبث اخر اشد شموليه واشرس انيابا: عبث الهوس الطائفي والقتل
المجاني على الهوية؛ على الاسم وعلى الكينونه القدريه التي لم يخترها يوما اي حي!
ولذا كانت صرخات زوجته الملتاعة: “قتلوا صديقك يا حامد.. قتلوه دون ذنب!!” (ص151-152) بمثابه نشيد
استصراخي قصير، قد لا يكون محوريا في سياق حوارات الابطال وتقلبات الاحداث، لكنه ينير جزءا
لا باس به من جو العبث والمفارقات الذي ساد هذا العمل منذ بداياته، والذي لم
يدخر المبدع جهدا من اجل ابرازه، وتوجيه وعينا اليه، فحتى في سياق سرده لاحدى مغامرات
البطل الهروبيه نجده يوظف ايضا بنيه المفارقة، ويجعل للهنديه الحسناء، والحبيبه الطارئه ابا يحدثنا ودموعه
تسيل – على لسان احد المؤلفين – عن التناحر الطائفي في الهند، وعن المذابح الداميه
بين المسلمين والهندوس، خاتما حديثه بالسؤال الجوهري: “لماذا يقتل شخص على ايدي اناس لا يعرفونه؟!!”
(ص91)
وهذا السؤال بشموليته واتساعه يمكن اسقاطه على بعض مما لدينا من احداث: زوج امن يقتله
مجهولون لا يعرفهم بسبب الهوية!
وزوج اخر امن مثله يترصده مجهول اخر – لم يعرفه ناضجا وان كان قد عرفه
رضيعا – لاجل الهويه ايضا، لا الهويه الطائفيه بل الهويه القدريه الاخرى: انه دون كل
الرجال زوج الحبيبه وبالتالي غاصبها، ومحتكر مباهجها!!
وحتى في بعض المواقف الاخرى البعيده عن جنائزيه الموت وكابته تطالعنا السخريه الدراميه القاسيه نفسها:
فجميع الشكوك الملحه التي ارقت العاشق حول سلوك حبيبته وعلاقتها الغراميه المحتمله مع الفنان التشكيلي
المعروف “فهمي النقاش” تكشفت له عن حقيقه ساخرة؛ هي انها محض اضاليل واوهام كان يكفيه
لتبديدها ان يستنفد بضع دقائق في حوار مراوغ او صريح مع الفنان على ان يصطلي
بلظاها طيله كل تلك العقود، ويخسر بسببها حبيبه العمر! (ص159)
والحقيبه نفسها التي كانت سبب جميع تلك الماسي والاحداث لم ينته بها مصيرها الا الى
ان تكون حفنه بائسه من الرماد، لامر ما لم يبق منه سوى عينين عاتبتين للحبيبة،
وبقايا قصاصه متاكله تضم كلمتين: “ايقظ شعورك..” هما البؤره العميقه التي تختصر فيها مقاصد هذا
العمل، ويختزل مغزاه: الا يكون الحب يوما ذريعه للحقد والانتقام، وانه وهج الهي اسمى من
ان يستحيل يوما الى حزمه اوراق مدفونه او نثار من رماد.
وعليه يمكن القول بان هذا العمل يحمل بامتياز ملامح الحياه العراقيه وانشغالاتها، وان لم يعمد
فيه المبدع الى حصر المكان، او الارتكاز على خصوصياته، فلم يحدد لنا في ايه مدينه
تدور الاحداث، ولم يذكر ابدا اسم اي شارع او محلة، ولا هو اشار اشاره صريحه
الى شيء من تاريخ العراق، وتقلبات ظروفه السياسيه وحروبه الكثيرة، مما يعني شموليه في الرؤيا،
وشساعه في التعبير، ونفسا انسانيا لم تعد فيه المعاني مقتصره على قوميه واحده منكفئه على
همومها الممعنه في الفرديه والانطواء – مهما اتسعت – بل ان ما يلحظ هنا: تضافر
المحلي مع الانساني وغلبه هذا الاخير على ما قبله؛ فالموضوع الرئيس لهذه الروايه هو الحب
بمعنييه:
– المشرق اولا: حب الذات وحب الاخر، والانفتاح على اختلافه بتقبل نقصه، والاستبشار باكتماله.
– المتعفن ثانيا: اي الاناني والمجرد من التسامح والعطاء؛ “حب الغرف المظلمة، والراس الثقيل، والنفس
القلقة” على حد تعبير البطل (ص55) حيث يغدو هويه للقتل، وذريعه لتحقير الاخر وتهميشه والانتقام
منه. وهو الحب الذي تورط فيه هذا البطل فانتهى به الامر الى ان يكره الاخر،
ويكره نفسه ايضا، يدمره ويدمر نفسه معه، ويعاديهما كليهما معا، حاله حال جميع القتله الذين
وقعوا في دائره الكره الاعمى، والقتل المجاني؛ كلاهما – ودون ان يدري – عدو لنفسه
وللاخرين: يقتلهم اليوم ويقتل نفسه غدا!
والى جانب هذا يمكن ملاحظه جوانب انسانيه اخرى تطالعنا منذ بدايه العمل، وتكرس فكره الاقبال
على الحياة، والتفاني في حبها على الرغم من جميع الماسي والحروب: فالحبيبه التي تقدم بها
العمر كثيرا لا يزال الراوي يصفها بذات الجسد الرشيق ذي الخمسين ربيعا.(ص10)
والعاشق نفسه يصر على ان يبدا من جديد، ويستعيد حبه وهو في الخمسين.
وفضلا عن هذا فان المهن التي اختارها الكاتب لشخوصه؛ مهن الكتابة، والتمثيل، والاخراج والرقص ايضا
هي مهن تتميز عن غيرها بعلو جرعه الحركيه فيها والاحتفاء بالحياة، حيث يقوم المسرح علامه
حياه تتحدى جميع بوادر الموت والدمار المنتشرة: فهناك دوما عروض لا تكاد تتوقف، وهناك استعراضات،
وحيوات كثيرة، واكثر من غجريه حسناء مثل “ذهب” غاديه ورائحة.
واخيرا فان ما يميز هذا العمل هو ذاك النفس الانساني الذي قد تختصره جمله واحدة:
قد تعصف بالبلد حروب كثيره وملمات… لكن في النفس توقا مقدسا، واشواقا لن يصادرها الموت
ابدا مهما طال.