سيره النبي محمد كاملة
الجزء (1) : العرب قبل الاسلام
كان العرب في شبه الجزيره العربيه قبل بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم يعبدون الاصنام
من دون الله، ويقدمون لها القرابين، ويسجدون لها، ويتوسلون بها، وهي احجار لا تضر ولا
تنفع، وكان حول الكعبه ثلاثمائه وستون صنما.
ومن عجيب امرهم ان احدهم كان يشتري العجوة، ويصنع منها صنما، ثم يعبده ويسجد له،
ويساله ان يحجب عنه الشر ويجلب له الخير، فاذا شعر بالجوع اكل الهه!! ثم ياخذ
كاسا من الخمر، يشربها حتى يفقد وعيه، وفي ذلك الزمان كانت تحدث اشياء غريبه وعجيبة،
فالناس يطوفون عرايا حول الكعبة، وقد تجردوا من ملابسهم بلا حياء، يصفقون ويصفرون ويصيحون بلا
نظام، وقد وصف الله -عز وجل- صلاتهم فقال: {وما كان صلاتهم عند البيت الا مكاء
وتصديه فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} [الانفال:35].
وكانت الحروب تقوم بينهم لاتفه الاسباب، وتستمر مشتعله اعواما طويله فهذان رجلان يقتتلان، فيجتمع الناس
حولهما، وتناصر كل قبيله صاحبها، لم يسالوا عن الظالم ولا عن المظلوم، وتقوم الحرب في
لمح البصر، ولا تنتهي حتى يموت الرجال، وانتشرت بينهم العادات السيئه مثل: شرب الخمر، وقطع
الطرق والزنا.
وكانت بعض القبائل تهين المراة، وينظرون اليها باحتقار، فهي في اعتقادهم عار كبير عليهم ان
يتخلصوا منها، فكان الرجل منهم اذا ولدت له انثى؛ حزن حزنا شديدا. قال تعالى: {واذا
بشر احدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتواري من القوم من سوء ما بشر
به ايمسكه علي هون ام يدسه في التراب الا ساء ما يحكمون} _[النحل: 58-59] وقد
يصل به الامر الى ان يدفنها وهي حية، وهي العاده التي عرفت عندهم بواد البنات.
فهذا رجل يحمل طفلته ويسير بها الى الصحراء فوق الرمال المحرقة، ويحفر حفره ثم يضع
ابنته فيها وهي حية، ولا تستطيع الطفله البريئه ان تدافع عن نفسها؛ بل تناديه: ابتاه
.. ابتاه .. فلا يرحم براءتها ولا ضعفها، ولا يستجيب لندائها.. بل يهيل عليها الرمال،
ثم يمشي رافعا راسه كانه لم يفعل شيئا!! قال تعالى: {واذا الموءوده سئلت باي ذنب
قتلت} [التكوير: 7-8] وليس هذا الامر عاما بين العرب، فقد كانت بعض القبائل تمنع واد
البنات.
وكان الظلم ينتشر في المجتمع؛ فالقوى لا يرحم الضعيف، والغني لا يعطف على الفقير، بل
يسخره لخدمته، وان اقرضه مالا؛ فانه يقرضه بالربا، فاذا اقترض الفقير دينارا؛ يرده دينارين، فيزداد
فقرا، ويزداد الغني ثراء، وكانت القبائل متفرقة، لكل قبيله رئيس، وهم لا يخضعون لقانون منظم،
ومع كل هذا الجهل والظلام في ذلك العصر المسمى بالعصر الجاهلي، كانت هناك بعض الصفات
الطيبة
والنبيلة؛ كاكرام الضيف، فاذا جاء ضيف على احدهم بذل له كل ما عنده، ولم يبخل
عليه بشىء، فها هو ذا حاتم الطائي لم يجد ما يطعم به ضيوفه؛ فذبح
فرسه -وقد كانوا ياكلون لحم الخيل- واطعمهم قبل ان ياكل هو.
وكانوا ينصرون المستغيث فاذا نادى انسان، وقال: اني مظلوم اجتمعوا حوله وردوا اليه حقه، وقد
حدث ذات مره ان جاء رجل يستغيث، وينادي باعلى صوته في زعماء قريش ان ينصروه
على العاص بن وائل الذي اشترى منه بضاعته، ورفض ان يعطيه ثمنها؛ فتجمع زعماء قريش
في دار عبدالله بن جدعان وتحالفوا على ان ينصروا المظلوم، وياخذوا حقه من الظالم، وسموا
ذلك الاتفاق حلف الفضول، وذهبوا الى العاص بن وائل، واخذوا منه ثمن البضاعة، واعطوه لصاحبه.
وفي هذا المجتمع ولد محمد صلى الله عليه وسلم من اسره كريمه المعدن، نبيله النسب،
جمعت ما في العرب من فضائل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه:
(ان الله اصطفى كنانه من ولد اسماعيل، واصطفى قريشا من كنانه واصطفي من قريش بني
هاشم، واصطفاني من بني هاشم). [مسلم].
الجزء (2) : نسب النبى صلى الله عليه وسلم
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي
بن
كلاب بن مره بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر
بن
كنانه بن خزيمه بن مدركه بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان
الذي يصل نسبه الى اسماعيل بن ابراهيم -عليهما الصلاه والسلام..
جده هاشم وحكايه الثريد:
كان عمرو بن عبد مناف الجد الاكبر للرسول صلى الله عليه وسلم رجلا كريما فقد
حدث في عصره ان نزل القحط بالناس، فلم يجدوا ما ياكلون، وكادوا يموتون جوعا، وبدا
كل انسان يفكر في نجاه نفسه فقط، فالذي عنده طعام يحرص عليه ويحجبه عن الناس،
فذهب عمرو الى بيته واخرج ما عنده من الطعام، واخذ يهشم الثريد (اي: يكسر الخبز
في المرق) لقومه ويطعمهم، فسموه (هاشما)؛ لانه كريم يهشم ثريده للناس جميعا.
وعندما ضاق الرزق في مكه اراد هاشم ان يخفف عن اهلها، فسافر الى الشام صيفا،
والى اليمن شتاء؛ من اجل التجارة، فكان اول من علم الناس هاتين الرحلتين، وفي احدى
الرحلات، وبينما هاشم في طريقه للشام مر بيثرب، فتزوج سلمى بنت عمرو احدى نساء بني
النجار، وتركها وهي حامل بابنه عبد المطلب لتلد بين اهلها الذين اشترطوا عليه ذلك عند
زواجه منها.
جده عبدالمطلب وحكايه الكنز:
كان عبد المطلب بن هاشم جد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يسقي الحجيج الذين
ياتون للطواف حول الكعبة، ويقوم على رعايه بيت الله الحرام فالتف الناس حوله، فكان زعيمهم
واشرفهم، وكان عبدالمطلب يتمنى لو عرف مكان بئر زمزم ليحفرها؛ لانها كانت قد ردمت بمرور
السنين، ولم يعد احد يعرف مكانها، فراى في منامه ذات ليله مكان بئر زمزم، فاخبر
قومه بذلك ولكنهم لم يصدقوه، فبدا عبدالمطلب في حفر البئر هو وابنه الحارث، والناس يسخرون
منهما، وبينما هما يحفران، تفجر الماء من تحت اقدامهما، والتف الناس حول البئر مسرورين، وظن
عبدالمطلب انهم سيشكرونه، لكنه فوجئ بهم ينازعونه امتلاك البئر، فشعر بالظلم والضعف لانه ليس له
ابناء الا الحارث، وهو لا يستطيع نصرته، فاذا به يرفع يديه الى السماء، ويدعو الله
ان يرزقه عشره ابناء من الذكور، ونذر ان يذبح احدهم تقربا لله.
حكايه الابناء العشره :
استجاب الله دعوه عبد المطلب، فرزقه عشره اولاد، وشعر عبدالمطلب بالفرحه فقد تحقق رجاؤه، ورزق
باولاد سيكونون له سندا وعونا، لكن فرحته لم تستمر طويلا؛ فقد تذكر النذر الذي قطعه
على نفسه، فعليه ان يذبح واحدا من
اولاده، فكر عبدالمطلب طويلا، ثم ترك الاختيار لله تعالى، فاجرى قرعه بين اولاده، فخرجت القرعه
على عبدالله اصغر اولاده واحبهم الى قلبه، فاصبح
عبد المطلب في حيرة؛ ايذبح ولده الحبيب ام يعصى الله ولا يفي بنذره؟
فاستشار قومه، فاشاروا عليه بان يعيد القرعة، فاعادها مرارا، لكن القدر كان يختار عبدالله في
كل مرة، فازداد قلق عبدالمطلب، فاشارت عليه كاهنه بان يفتدي ولده بالابل، فيجري القرعه بين
عبدالله وعشره من الابل، ويظل يضاعف عددها، حتى تستقر القرعه على الابل بدلا من ولده،
فعمل عبدالمطلب بنصيحه الكاهنة، واستمر في مضاعفه عدد الابل حتى بلغت مائه بعير، وعندئذ وقعت
القرعه عليها، فذبحها فداء لعبد الله، وفرحت مكه كلها بنجاه عبد الله، وذبح له والده
مائه ناقه فداء له، وازداد عبد المطلب حبا لولده، وغمره بعطفه
ورعايته.
ابوه عبدالله وزواجه المبارك من السيده امنة:
كان عبد الله اكرم شباب قريش اخلاقا، واجملهم منظرا، واراد والده
عبد المطلب ان يزوجه، فاختار له زوجه صالحة، هي السيده امنه بنت وهب بن عبد
مناف بن زهره اطهر نساء بني زهرة، وسيده نسائهم، والسيده امنه تلتقي في نسبها مع
عبدالله والد النبي صلى الله عليه وسلم في كلاب بن مرة، وتمر الايام، ويخرج عبدالله
في تجاره الى الشام، بعد ان ترك زوجته امنه حاملا ولحكمه يعلمها الله، مات عبد
الله قبل ان يرى وليده.
حكايه الفيل:
وذات يوم، استيقظ اهل مكه على خبر اصابهم بالفزع والرعب، فقد جاء ملك اليمن ابرهه
الاشرم الحبشي بجيش كبير، يتقدمه فيل ضخم، يريد هدم الكعبه حتى يتحول الحجيج الى كنيسته
التي بناها في اليمن، وانفق عليها
اموالا كثيرة، واقترب الجيش من بيت الله الحرام، وظهر الخوف والهلع على وجوه اهل مكة،
والتف الناس حول عبدالمطلب الذي قال لابرهه بلسان الواثق من نصر الله تعالى: (للبيت رب
يحميه).
فازداد ابرهه عنادا، واصر على هدم الكعبة، فوجه الفيل الضخم نحوها، فلما اقترب منها ادار
الفيل ظهره ولم يتحرك،، وارسل الله طيورا من السماء تحمل حجاره صغيرة، لكنها شديده صلبة،
القت بها فوق رءوس جنود ابرهه فقتلتهم واهلكتهم. قال تعالى: {الم تر كيف فعل ربك
باصحاب الفيل . الم يجعل كيدهم في تضليل . وارسل عليهم طيرا ابابيل . ترميهم
بحجاره من سجيل فجعلهم كعصف ماكول} [الفيل] وفي هذا العام ولد الرسول صلى الله عليه
وسلم.
الجزء(3) : ميلاد الرسول وطفولته
في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الاول الذي يوافق عام (175م) ولدت السيده
امنه بنت وهب زوجه عبد الله بن عبد المطلب غلاما جميلا، مشرق الوجه، وخرجت ثويبه
الاسلميه خادمه ابي لهب -عم النبي صلى الله عليه وسلم- تهرول الى سيدها ابي لهب،
ووجهها ينطق بالسعادة، وما كادت تصل اليه حتى همست له بالبشرى، فتهلل وجهه، وقال لها
من فرط سروره:
اذهبي فانت حرة! واسرع عبد المطلب الى بيت ابنه عبد الله ثم خرج حاملا الوليد
الجديد، ودخل به الكعبه مسرورا كانه يحمل على يديه كل نعيم
الدنيا، واخذ يضمه الى صدره ويقبله في حنان بالغ، ويشكر الله ويدعوه، والهمه الله ان
يطلق على حفيده اسم محمد.
حكايه مرضعه الرسول صلى الله عليه وسلم:
جاءت المرضعات من قبيله بني سعد الى مكة؛ لياخذن الاطفال الرضع الى الباديه حتى ينشئوا
هناك اقوياء فصحاء، قادرين على مواجهه اعباء الحياة، وكانت كل مرضعه تبحث عن رضيع من
اسره غنيه ووالده حي؛ ليعطيها مالا كثيرا، لذلك رفضت كل المرضعات ان ياخذن محمدا صلى
الله عليه وسلم لانه يتيم، واخذته السيده حليمه السعديه لانها لم تجد رضيعا غيره، وعاش
محمد صلى الله عليه وسلم في قبيله بني سعد، فكان خيرا وبركه على حليمه واهلها،
حيث اخضرت ارضهم بعد الجدب والجفاف، وجرى اللبن في ضروع الابل.
حكايه شق الصدر:
وفي باديه بني سعد وقعت حادثه غريبة، فقد خرج محمد صلى الله عليه وسلم ذات
يوم ليلعب مع اخيه من الرضاعه ابن حليمه السعدية، وفي اثناء لعبهما ظهر رجلان فجاة،
واتجها نحو محمد صلى الله عليه وسلم فامسكاه، واضجعاه على الارض ثم شقا صدره، وكان
اخوه من الرضاعه يشاهد عن قرب ما يحدث
له، فاسرع نحو امه وهو يصرخ، ويحكى لها ما حدث.
فاسرعت حليمه السعديه وهي مذعوره الى حيث يوجد الغلام القرشي فهو امانه عندها، وتخشى عليه
ان يصاب بسوء، لكنها على عكس ما تصورت، وجدته واقفا وحده، قد تاثر بما حدث،
فاصفر لونه، فضمته في حنان الى
صدرها، وعادت به الى البيت، فسالته حليمة: ماذا حدث لك يا محمد؟ فاخذ يقص عليها
ما حدث، لقد كان هذان الرجلان ملكين من السماء ارسلهما الله تعالى؛ ليطهرا قلبه ويغسلاه،
حتى يتهيا للرساله العظيمه التي سيكلفه الله بها.
خافت حليمه على محمد، فحملته الى امه في مكة، واخبرتها بما حدث
لابنها، فقالت لها السيده امنه في ثقة: اتخوفت عليه الشيطان؟ فاجابتها حليمة: نعم، فقالت السيده
امنة: كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل، وان لابني
لشانا؛ لقد رايت حين حملت به انه خرج مني نور، اضاء لي به قصور
الشام، وكان حمله يسيرا، فرجعت به حليمه الى قومها بعد ان زال الخوف من قلبها،
وظل عندها حتى بلغ عمره خمس سنوات، ثم عاد الى امه في مكة.
رحله محمد صلى الله عليه وسلم مع امه الى يثرب:
وذات يوم، خرجت السيده امنه ومعها طفلها محمد وخادمتها ام ايمن من مكه متوجهه الى
يثرب؛ لزياره قبر زوجها عبد الله، وفاء له، وليعرف ولدها قبر
ابيه، ويزور اخوال جده من بني النجار، وكان الجو شديد الحر، وتحملت اعباء هذه الرحله
الطويله الشاقة، وظلت السيده امنه شهرا في المدينة، واثناء عودتها مرضت وماتت وهي في الطريق،
في مكان يسمى الابواء، فدفنت فيه، وعادت
ام ايمن الى مكه بالطفل محمد يتيما وحيدا، فعاش مع جده عبدالمطلب، وكان عمر محمد
انذاك ست سنوات.
محمد صلى الله عليه وسلم في كفاله جده عبد المطلب:
بعد وفاه السيده امنه عاش محمد صلى الله عليه وسلم في ظل كفاله جده عبدالمطلب
الذي امتلا قلبه بحب محمد، فكان يؤثر ان يصحبه في مجالسه
العامة، ويجلسه على فراشه بجوار الكعبة، ولكن عبدالمطلب فارق الحياه ومحمد في الثامنه من عمره.
محمد صلى الله عليه وسلم في كفاله عمه ابي طالب:
وتكفل به بعد وفاه جده عمه ابو طالب، فقام بتربيته ورعايته هو وزوجته فاطمه بنت
اسد، واخذه مع ابنائه، رغم انه لم يكن اكثر اعمام النبي صلى الله عليه وسلم
مالا، لكنه كان اكثرهم نبلا وشرفا، فزاد عطفه على محمد صلى الله عليه وسلم حتى
انه كان لا يجلس في مجلس الا وهو معه، ويناديه بابنه من شده حبه له.
رحله الى الشام:
خرج محمد صلى الله عليه وسلم مع عمه ابو طالب في رحله الى الشام مع
القوافل التجاريه وعمره اثنا عشر عاما، وتحركت القافلة، ومضت في
طريقها؛ حتى وصلت الى بلده اسمها (بصرى) واثناء سيرها مرت بكوخ يسكنه راهب اسمه (بحيرى)
فلما راى القافله خرج اليها، ودقق النظر في وجه محمد صلى الله عليه وسلم طويلا،
ثم قال لابي طالب: ما قرابه هذا الغلام منك؟ فقال ابوطالب: هو ابني -وكان يدعوه
بابنه حبا له- قال بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي ان يكون هذا الغلام ابوه
حيا، قال ابو طالب: هو ابن اخي، فساله بحيرى: فما فعل ابوه؟ قال ابو طالب:
مات وامه حبلى به؟ فقال له بحيرى: صدقت! فارجع به الى بلده واحذر عليه اليهود!!
فوالله لئن راوه هنا ليوقعون به شرا، فانه سيكون لابن اخيك هذا شان عظيم، فاسرع
ابو طالب بالعوده الى مكه وفي صحبته ابن اخيه محمد.
الجزء (4) : النبى فى شبابه
كان الشباب في مكه يلهون ويعبثون، اما محمد صلى الله عليه وسلم فكان يعمل ولا
يتكاسل؛ يرعى الاغنام طوال النهار، ويتامل الكون ويفكر في خلق الله، وقد ذكر النبي صلى
الله عليه وسلم -بعد ان اوتي النبوة- ذلك العمل، فقال: (ما بعث الله نبيا الا
رعى الغنم) فقال اصحابه: وانت؟ قال: (نعم، كنت ارعاها على قراريط لاهل مكة) [البخاري] وكان
الله -سبحانه- يحرسه ويرعاه على الدوام؛ فذات يوم فكر ان يلهو كما يلهو الشباب، فطلب
من صاحب له ان يحرس اغنامه، حتى ينزل مكه ويشارك الشباب في لهوهم، وعندما وصل
اليها وجد حفل زواج، فوقف عنده، فسلط الله عليه النوم، ولم يستيقظ الا في صباح
اليوم التالي.
وعندما كانت قريش تجدد بناء الكعبة، كان محمد صلى الله عليه وسلم ينقل معهم الحجاره
للكعبه وعليه ازاره، فقال له العباس عمه: اجعل ازارك على رقبتك يقيك الحجارة، ففعل، فخر
الى الارض، وجعل ينظر بعينيه الى
السماء، ويقول: ازاري.. ازاري، فشد عليه، فما رؤى بعد ذلك عريانا.
التاجر الامين:
وحين جاوز النبي صلى الله عليه وسلم العشرين من عمره اتيحت له فرصه السفر مع
قافله التجاره الى الشام، ففي مكه كان الناس يستعدون لرحله الصيف التجاريه الى الشام، وكل
منهم يعد راحلته وبضاعته وامواله، وكانت السيده خديجه بنت خويلد -وهي من اشرف نساء قريش،
واكرمهن اخلاقا، واكثرهن مالا- تبحث عن رجل امين يتاجر لها في مالها ويخرج به مع
القوم، فسمعت عن محمد واخلاقه العظيمة، ومكانته عند اهل مكه جميعا ، واحترامهم له؛ لانه
صادق امين، فاتفقت معه ان يتاجر لها مقابل مبلغ من المال، فوافق محمد صلى الله
عليه وسلم وخرج مع غلام لها اسمه ميسره الى الشام.
تحركت القافله في طريقها الى الشام، وبعد ان قطع القوم المسافات
الطويله نزلوا ليستريحوا بعض الوقت، وجلس محمد صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، وعلى مقربه
منه صومعه راهب، وما ان راى الراهب محمدا صلى الله عليه وسلم حتى اخذ ينظر
اليه ويطيل النظر، ثم سال ميسرة: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال
ميسرة: هذا رجل من قريش من
اهل الحرم، فقال الراهب: ما نزل تحت هذه الشجره الا نبي، وباعت القافله كل تجارتها،
واشترت ما تريد من البضائع، وكان ميسره ينظر الى محمد ويتعجب من سماحته واخلاقه والربح
الكبير الذي حققه في مال السيده خديجة.
وفي طريق العوده حدث امر عجيب، فقد كانت هناك غمامه في السماء تظل محمدا وتقيه
الحر، وكان ميسره ينظر الى ذلك المشهد، وقد بدت على وجهه علامات الدهشه والتعجب، واخيرا
وصلت القافله الى مكه فخرج الناس لاستقبالها مشتاقين؛ كل منهم يريد الاطمئنان على امواله، وما
تحقق له
من ربح، وحكى ميسره لسيدته خديجه ما راى من امر محمد، فقد اخبرها بما قاله
الراهب، وبالغمامه التي كانت تظل محمدا في الطريق؛ لتقيه من الحر دون سائر افراد القافلة.
زواج محمد صلى الله عليه وسلم من السيده خديجة:
استمعت السيده خديجه الى ميسره في دهشة، وقد تاكدت من امانه محمد
صلى الله عليه وسلم وحسن اخلاقه، فتمنت ان تتزوجه، فارسلت السيده خديجه صديقتها نفيسه بنت
منبه؛ لتعرض على محمد الزواج، فوافق محمد صلى الله عليه وسلم على هذا الزواج، وكلم
اعمامه، الذين رحبوا ووافقوا على هذا
الزواج، وساروا الى السيده خديجه يريدون خطبتها؛ فلما انتهوا الى دار خويلد قام ابو طالب
عم النبي وكفيله يخطب خطبه العرس، فقال: (الحمد لله الذي جعلنا من ذريه ابراهيم وزرع
اسماعيل، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما
امنا، وجعلنا امناء بيته، وسواس حرمه، وجعلنا الحكام على الناس، ثم ان ابن اخي هذا
محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل شرفا ونبلا وفضلا، وان كان في المال
قلا، فان المال ظل زائل، وقد خطب خديجه بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما
عاجله واجله من مالي كذا وكذا، وهو والله بعد هذا له نبا
عظيم، وخطر جليل) وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم السيده خديجة، وعاشا معا حياه طيبه
موفقة، ورزقهما الله تعالى البنين والبنات، فانجبت له سته اولاد هم: زينب، ورقية، وام كلثوم،
وفاطمة، وعبدالله، والقاسم، وبه يكنى الرسول فيقال: ابو القاسم.
بناء الكعبه وقصه الحجر الاسود:
اجتمعت قريش لاعاده بناء الكعبة، واثناء البناء اختلفوا فيمن ينال شرف وضع الحجر الاسود في
مكانه، واشتد الخلاف بينهم، وكاد ان يتحول الى حرب بين قبائل قريش، ولكنهم تداركوا امرهم،
وارتضوا ان يحكموا اول داخل عليهم وانتظر القوم، وكل واحد يسال نفسه: ترى من سياتي
الان؟ ولمن سيحكم؟ وفجاه تهللت وجوههم بالفرحه والسرور عندما راوا محمدا يقبل عليهم، فكل واحد
منهم يحبه ويثق في عدله وامانته ورجاحه عقله وسداد رايه، فهتفوا: هذا الامين قد رضيناه
حكما، وعرضوا عليه الامر وطلبوا منه ان يحكم بينهم، فخلع الرسول صلى الله عليه وسلم
رداءه ووضع الحجر عليه، ثم امر رؤساء القبائل فرفعوا الثوب حتى اوصلوا الحجر الى مكانه
من الكعبة، عندئذ حمله الرسول صلى الله عليه وسلم بيده الشريفه ووضعه مكانه، وهكذا كفاهم
الله
شر القتال.
الجزء (5) : الوحي !!
كان محمد صلى الله عليه وسلم يكثر من الذهاب الى غار حراء، فيجلس وحده فيه
اياما بلياليها؛ يفكر في خالق هذا الكون بعيدا عن الناس وما يفعلونه
من اثام، ولقد كان يمشي تلك المسافه الطويله ويصعد ذلك الجبل العالي، ثم يعود الى
مكه ليتزود بالطعام ويرجع الى ذلك الغار، وظل مده لا يرى رؤيا الا وتحققت كما
راها، وبدات تحدث له اشياء عجيبه لا تحدث لاي انسان
اخر، فقد كان في مكه حجر يسلم عليه كلما مر به، قال صلى الله عليه
وسلم: (اني لاعرف حجرا بمكه كان يسلم علي قبل ان ابعث، اني لاعرفه
الان) [مسلم].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس ذات يوم في الغار، واذا بجبريل -عليه السلام-
ينزل عليه في صوره رجل ويقول له: اقرا. وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا
يعرف القراءه ولا الكتابة، فخاف وارتعد، وقال للرجل: ما انا بقارئ. واذا بجبريل -عليه السلام-
يضم النبي صلى الله عليه وسلم اليه بشدة، ثم يتركه ويقول له: اقرا. فقال محمد:
ما انا بقارئ. وتكرر ذلك مره ثالثة، فقال جبريل: {اقرا باسم ربك الذي خلق .
خلق الانسان من علق . اقرا وربك الاكرم} _[العلق:1-3]. فكانت هذه اولى ايات القران التي
نزلت في شهر رمضان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في السنه الاربعين
من عمره.
رجع محمد صلى الله عليه وسلم الى بيته مسرعا، ثم رقد وهو يرتعش، وطلب من
زوجته ان تغطيه قائلا: (زملونى، زملونى) وحكى لها ما راه في الغار، فطمانته السيده خديجة،
وقالت له: كلا والله لا يخزيك الله ابدا، انك لتصل الرحم وتحمل الكل (الضعيف) وتكسب
المعدوم، وتقري (تكرم) الضيف، وتعين على نوائب الحق، فلما استمع النبي صلى الله عليه وسلم
الى كلام السيده خديجة، عادت اليه الطمانينة، وزال عنه الخوف والرعب، وبدا يفكر فيما حدث.
حكايه ورقه بن نوفل:
وكان للسيده خديجه ابن عم، اسمه (ورقه بن نوفل) على علم بالديانه المسيحيه فذهبت اليه
ومعها زوجها؛ ليسالاه عما حدث، فقالت خديجه لورقة: يابن عم اسمع من ابن اخيك، فقال
ورقة: يابن اخي ماذا ترى؟ فاخبره النبي صلى الله عليه وسلم بالذي حدث في غار
حراء، فلما سمعه ورقه قال: هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى، ثم اخبره (ورقة)
انه يتمنى ان يعيش حتى ينصره، ويكون معه عندما يحاربه قومه، ويخرجونه من مكة، فلما
سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك تعجب وسال ورقه قائلا: او مخرجي هم؟ فقال
له: نعم، لم يات احد بمثل ما جئت به الا عودي، ومنذ ذلك اليوم والرسول
صلى الله عليه وسلم يزداد شوقا لوحي السماء الذي تاخر نزوله عليه بعد هذه المرة.
عوده الوحي:
وبعد فترة، وبينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي اذا به يسمع صوتا، فرفع
وجهه الى السماء، فراى الملك الذي جاءه في غار حراء جالسا على كرسي
بين السماء والارض، فارتعد الرسول صلى الله عليه وسلم من هول المنظر، واسرع الى المنزل،
وطلب من زوجته ان تغطيه، قائلا: دثرونى . دثرونى، واذا بجبريل ينزل اليه بهذه الايات
التي يوجهها الله اليه: {يا ايها المدثر . قم فانذر . وربك فكبر . وثيابك
فطهر . والرجز فاهجر} _[المدثر: 1-5] وفي هذه الايات تكليف من الله سبحانه لرسوله صلى
الله عليه وسلم ان يدعو الناس.
الدعوه الى الاسلام سرا:
كان الناس في مكه يعبدون الاصنام منذ زمن بعيد، وقد ورثوا عبادتها عن ابائهم واجدادهم؛
فبدا الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوه الى الاسلام سرا، وبدا باقرب الناس اليه، فامنت
به زوجته خديجه بنت خويلد، وامن به ايضا ابن عمه علي بن ابي طالب، وكان
غلاما في العاشره من عمره، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يقوم
بتربيته، وكان صديقه ابو بكر اول الذين امنوا به من الرجال، وكان ذا مكانه عظيمه
بين قومه، ياتي الناس اليه ويجلسون
معه، فاستغل ابو بكر مكانته هذه واخذ يدعو من ياتي اليه ويثق فيه
الى الاسلام، فاسلم على يديه عبدالرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، والزبير ابن العوام، وطلحه
بن عبيد الله .. وغيرهم.
ولم تكن الصلاه قد فرضت في ذلك الوقت بالكيفيه التي نعرفها، ولكن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يصلي باصحابه الذين اسلموا سرا ركعتين قبل طلوع الشمس وركعتين قبل
الغروب، وذلك في مكان بعيد عن اعين
الكفار.
وذات يوم كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي باصحابه في شعب من شعاب مكة،
اذ اقبل عليهم ابو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم والذي لم يؤمن برسالته،
فلما راى الرسول صلى الله عليه وسلم واصحابه يصلون، ساله عن هذا الدين الجديد، فاخبره
الرسول صلى الله عليه وسلم به لانه يثق في عمه ويامل ان يدخل الاسلام، ولكن
ابا طالب رفض ان يترك دين ابائه واجداده وطمان النبي صلى الله عليه وسلم وتعهد
بحمايته من اعدائه، واوصى ابنه عليا ان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمر
الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو قومه سرا، وعدد المسلمين يزداد يوما بعد يوم، ويقوى
الايمان في قلوبهم بما ينزله الله عليهم من القران الكريم، وظلوا هكذا ثلاث سنوات.
الجزء (6) :مرحله الدعوه الجهريه ..
امر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم ان يجهر بالدعوه ويبدا بعشيرته واهله، فقال
تعالى: {وانذر عشيرتك الاقربين} _[الشعراء:214] فنادى الرسول صلى الله عليه وسلم قريشا، وقال: (يا بني
كعب انقذوا انفسكم من النار، يا بني عبد شمس انقذوا انفسكم من النار، يا بني
عبد مناف انقذوا انفسكم من النار، يا بني هاشم وبني عبد المطلب انقذوا انفسكم من
النار، يا فاطمه انقذي نفسك من النار، فاني والله لا املك لكم من الله شيئا
الا ان لكم رحما سابلها ببلالها (ساصلها) ) _[مسلم].
ونزل هذا الكلام على قلوب الكفار نزول الصاعقة، فقد اصبحت المواجهه واضحه بينهم وبين رسول
الله صلى الله عليه وسلم، انه يطلب منهم ان يتركوا الاصنام التي يعبدونها، وان يتركوا
الفواحش، فلا يتعاملون بالربا، ولا يزنون، ولا يقتلون اولادهم، ولا يظلمون احدا، لكنهم قابلوا تلك
الدعوه بالرفض، وبدءوا يسخرون من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن دعوته، فصبر صلى الله
عليه وسلم عليهم وعلى تطاولهم.
وذات مرة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت، فتطاول عليه بعض الكفار بالكلام،
ولكنه صبر عليهم ومضى، فلما مر عليهم ثانيه تطاولوا عليه بمثل ما فعلوا، فصبر ولم
يرد، ثم مر بهم الثالثة، فتطاولوا عليه بمثل ما فعلوا ايضا، فقال صلى الله عليه
وسلم لهم: (اتسمعون يا معشر قريش؟ اما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح) فخاف القوم
حتى ان اكثرهم وقاحه اصبح يقول للرسول
صلى الله عليه وسلم بكل ادب: انصرف يا ابا القاسم، انصرف راشدا، فوالله ما كنت
جهولا.
وذات يوم، اقبل رجل من بلد اسمها (اراش) الى مكة، فظلمه ابو جهل، واخذ منه
ابله، فذهب الرجل الى نادي قريش يسالهم عن رجل ينصره على
ابي جهل، وهنا وجد الكفار فرصه للتسليه والضحك والسخريه من رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فامروا الرجل ان يذهب الى الرسول صلى الله عليه وسلم لياخذ له حقه، فذهب
الرجل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واخذوا ينظرون اليه ليروا ما سيحدث، فقام
النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجل ليعيد له حقه من ابي جهل، فارسلوا وراءه
احدهم؛ ليرى ما سوف يصنعه ابوجهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب الرسول
صلى الله عليه وسلم الى بيت ابي جهل، وطرق بابه، فخرج ابو جهل من البيت
خائفا مرتعدا، وقد تغير لونه من شده الخوف، فقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (اعط هذا الرجل حقه) فرد ابو جهل دون تردد: لا تبرح حتى اعطيه الذي
له، ودخل البيت مسرعا، فاخرج مال الرجل، فاخذه، وانصرف.
وعندما اقبل ابو جهل على قومه بادروه قائلين: ويلك! ما بك؟ فقال لهم: والله ما
هو الا ان ضرب علي وسمعت صوته فملئت منه رعبا، ثم خرجت اليه، وان فوق
راسه لفحلا من الابل ما رايت مثله قط، فوالله لو ابيت لاكلني. [البيهقي]
وبدا كفار قريش مرحله جديده من المفاوضات، فذهبوا الى ابي طالب عم النبي صلى الله
عليه وسلم، وقالوا له: يا ابا طالب، ان ابن اخيك قد سب
الهتنا، وعاب ديننا، وسفه احلامنا، وضلل اباءنا، فاما ان تكفه عنا، واما ان تخلى بيننا
وبينه، فرد عليهم ابو طالب ردا رقيقا، فانصرفوا عنه.
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر في اظهار دين الله ودعوه الناس اليه،
فجمع الكفار انفسهم مره اخرى وذهبوا الى ابي طالب، فقالوا له: يا ابا طالب، ان
لك سنا وشرفا ومنزله فينا، وانا قد استنهيناك من ابن اخيك فلم تنهه عنا، وانا
والله لا نصبر على هذا من شتم ابائنا، وتسفيه احلامنا، وعيب
الهتنا، حتى تكفه عنا، او ننازله واياك في ذلك حتى يهلك احد الفريقين.
وارسل ابو طالب الى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء قال له: يابن اخي!
ان قومك قد جاءوني، وقالوا كذا وكذا فابق على وعلى نفسك، ولا تحملني من الامر
ما لا اطيق انا ولا انت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم لعمه: (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في
يساري، ما تركت هذا الامر حتى يظهره الله او اهلك فيه) فقال ابو طالب: امض
على امرك وافعل ما احببت، فوالله! لا اسلمك لشيء ابدا.
لم يستطع المشركون ان يوقفوا مسيره الدعوه للاسلام، ولم يستطيعوا اغراء الرسول صلى الله عليه
وسلم بالمال او بالجاه، وقد خاب املهم في عمه
ابي طالب، وها هو ذا موسم الحج يقبل، والعرب سوف ياتون من كل
مكان، وقد سمعوا بمحمد ودعوته، وسوف يستمعون اليه وربما امنوا به
ونصروه، فتسرب الخوف الى قلوب الكفار في مكة، وفكروا في قول واحد يتفقون عليه ويقولونه
عن محمد صلى الله عليه وسلم حتى يصرفوا العرب
عنه، فالتفوا حول الوليد بن المغيرة، وكان اكبرهم سنا؛ فقال احدهم: نقول ان محمدا كاهن،
فقال الوليد: والله ما هو بكاهن، لقد راينا الكهان فما هو بزمزمه الكاهن ولا سجعه،
فقالوا: نقول ان محمدا مجنون، فقال لهم: ما هو بمجنون لقد راينا الجنون وعرفناه، فقالوا:
نقول ان محمدا شاعر، فقال لهم: ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله فما هو
بالشعر، فقالوا: نقول ساحر، فقال لهم: ما هو
بساحر، لقد راينا السحره وسحرهم وما هو منهم.
فقالوا للوليد بن المغيرة: فما تقول يا ابا عبد شمس؟ فاقسم لهم ان كلام محمد
هو احلى الكلام واطيبه، وما هم بقائلين من هذا شيئا الا عرف انه باطل، وان
اقرب القول فيه ان تقولوا: ان محمدا ساحر يفرق بين المرء واخيه وبين الرجل وزوجته
والرجل وابيه، فوافق الكفار على رايه وانتشروا في موسم الحج يرددون هذه الافتراءات بين الناس،
حتى يصدوهم عن دعوه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانزل الله تعالى في الوليد
بن المغيره قوله: {ذرني ومن خلقت
وحيدا . وجعلت له مالا ممدودا . وبنين شهودا . ومهدت له تمهيدا . ثم
يطمع ان ازيد . كلا انه كان لاياتنا عنيدا . سارهقه صعودا . انه فكر
وقدر . فقتل كيف قدر . ثم قتل كيف قدر . ثم نظر . ثم
عبس وبسر . ثم ادبر
واستكبر . فقال ان هذا الا سحر يؤثر . ان هذا الا قول البشر .
ساصليه
سقر . وما ادراك ما سقر . لا تبقي ولا تذر . لواحه للبشر .
عليها تسعه عشر} _[المدثر:11-30].
اسلام عمر بن الخطاب:
دعا الرسول صلى الله عليه وسلم الله ان يعز الاسلام باحد العمرين: عمر بن الخطاب،
او عمرو بن هشام، وكان عمر بن الخطاب قبل ان يسلم شديد الايذاء للمسلمين، وذات
يوم حمل عمر سيفه، وانطلق يبحث عن محمد ليقتله، وفي الطريق قابله رجل، واخبره ان
اخته فاطمه قد اسلمت هي وزوجها سعيد بن زيد، فاتجه عمر غاضبا نحو دار اخته،
ودق الباب، وكان الصحابي خباب بن الارت -رضي الله عنه- يعلم اخت عمر وزوجها القران
الكريم، فلما سمعوا صوت عمر امتلات قلوبهم بالرعب والخوف، واسرع خباب فاختبا في زاويه من
البيت، ودخل عمر فقال: لقد اخبرت انكما تبعتما محمدا على دينه، ثم ضرب زوج اخته،
وضرب اخته على وجهها حتى سال الدم من وجهها، ولكنها لم تخف، وقالت له في
ثبات وشجاعة: نعم اسلمنا وامنا بالله ورسوله، فاصنع ما شئت.
ندم عمر على ما صنع باخته، وطلب منها الصحيفه التي كانوا يقرءون
منها، فقالت له: يا اخي انك نجس وانه لا يمسه الا المطهرون، فقام عمر فاغتسل،
فاعطته الصحيفة، فقرا عمر: {طه . ما انزلنا عليكم القران لتشقى . الا تذكره لمن
يخشى . تنزيلا ممن خلق الارض والسموات العلى . الرحمن على العرش استوى . له
ما في السموات وما في الارض وما بينهما وما تحت الثرى . وان تجهر بالقول
فانه يعلم السر
واخفى . الله لا اله الا هو له الاسماء الحسنى} _[طه:1-8].
وكانت هذه الايات نورا جذب عمر الى الاسلام واضاء له طريق الحق، فما ان قراها
حتى لان قلبه، وهدا طبعه، وذهب عنه الغضب، وقال -والايمان يفيض في جوانحه-: ما احسن
هذا الكلام وما اكرمه، ثم ذهب الى النبي صلى الله عليه وسلم واعلن اسلامه، وبعد
قليل من اسلام عمر بن الخطاب -رضي الله
عنه- سار رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الكعبه في وضح النهار بين عمر
بن الخطاب وحمزه بن عبدالمطلب -رضي الله عنهما- وامتنع اصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم بهما، وكان المسلمون لا يقدرون ان يصلوا عند الكعبه حتى اسلم عمر بن الخطاب،
فلما اسلم هو وحمزه بن عبدالمطلب صلى المسلمون عند الكعبة.
الجزء (7) : الهجره الى الحبشة
اصبحت مكه سجنا كبيرا يعذب فيه ضعفاء المسلمين، فهذا اميه بن خلف يخرج عبده بلال
بن رباح -رضي الله عنه- في حر الظهيره ويطرحه على ظهره عريانا فوق الرمال المحرقة،
ويضع على صدره صخره كبيرة، كل هذا العذاب لان بلالا اسلم وسيده يريد منه ان
يكفر بمحمد ويعبد الاصنام، لكن بلالا كان قوي الايمان صلب العقيدة، لم يلن ولم يستسلم،
وكان يردد قائلا: احد .. احد. وتحمل كل هذا العذاب حتى فرج الله عنه.
وعذب المسلمون داخل بيوتهم؛ فهذا مصعب بن عمير قد حبسته امه، ومنعت عنه الطعام، وجمعت
اخواله حتى يعذبوه ليترك الاسلام، وهكذا اصبحت مكه مكانا غير مامون على المسلمين، فتعذيب الكفار
لهم يزداد يوما بعد يوم، ففكر النبي صلى الله عليه وسلم في مكان يطمئن فيه
على اصحابه، فوقع اختياره على الحبشة، فامر اصحابه ممن يطيقون الهجره بالتوجه اليها، لان فيها
ملكا لا يظلم عنده احد، وخرج بعض المسلمين المهاجرين الى هناك سرا، وكان من بينهم
عثمان بن عفان وزوجته رقيه بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وجعفر بن ابي طالب
وزوجته اسماء بنت عميس، وعبدالله بن مسعود -رضي الله عنهم- وغيرهم.
ولما علم اهل قريش بذلك اشتد غيظهم ورفضوا ان يتركوا المسلمين المهاجرين الى الحبشه وشانهم،
بل صمموا على ارجاعهم الى مكة، فاختاروا من بينهم رجلين معروفين بالذكاء، وهما: عمرو بن
العاص وعبدالله بن ابي بلتعه وارسلوهما بهدايا الى ملك الحبشة، فدخل عمرو بن العاص على
النجاشي، وقال له: ايها الملك، انه ضوى (جاء) الى بلدك منا سفهاء، فارقوا دين قومهم،
ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا انتم، وقد بعثنا الى
الملك فيهم اباؤهم واعمامهم وعشائرهم؛ لتردهم اليهم، فهم اعلى بهم عينا واعلم بما عابوا عليهم،
فرفض النجاشي ان يسلم المسلمين لهم، حتى يبعث اليهم ويتاكد من صحه كلام عمرو وصاحبه.
فارسل النجاشي في طلب المسلمين المهاجرين الى بلاده فجاءوا اليه، وانابوا جعفر بن ابي طالب
-رضي الله عنه- حتى يتحدث باسمهم، فساله النجاشي: ما هذا الدين الذي قد فارقتم به
قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين احد من هذه الملل؟ فرد عليه جعفر
قائلا: ايها الملك، كنا قوما اهل جاهلية، نعبد الاصنام، وناكل الميتة، وناتي الفواحش، ونقطع الارحام،
ونسيء الجوار، وياكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله الينا رسولا منا،
نعرف
نسبه، وصدقه، وامانته، وعفافه، فدعانا الى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن واباؤنا
من دونه من الحجاره والاوثان، وامرنا بصدق الحديث، واداء الامانة، وصله الرحم، وحسن الجوار، والكف
عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، واكل مال اليتيم، وقذف المحصنات.
وامرنا ان نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا، وامرنا بالصلاه والزكاه والصيام فصدقناه وامنا
به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا،
وحرمنا ما حرم علينا، واحللنا ما احل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا،
ليردونا الى عباده الاوثان عن عباده الله -تعالى- وان نستحل ما كنا نستحل من الخبائث،
فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا الى بلادك، واخترناك على من
سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ان لا نظلم عندك ايها الملك، فقال له النجاشي: هل
معك مما جاء به الله من شيء؟ قال جعفر: نعم. فقال النجاشي: اقراه علي.
فقرا عليه جعفر اول سوره مريم، فبكى النجاشي، ثم قال: ان هذا والذي جاء به
عيسى ليخرج من مشكاه واحدة، ثم قال لعمرو وصاحبه: انطلقا، فلا والله لا اسلمهم اليكما،
ورد النجاشي الهدايا الى عمرو ولم يسلم المسلمين اليه، وهكذا فشل المشركون في الايقاع بين
المسلمين وملك الحبشة.
الجزء (8) : المقاطعه ..
ازداد عدد المسلمين، وانضم اليهم عدد من اصحاب القوه والسيطرة، فاصبح من الصعب على المشركين
تعذيبهم، ففكروا في تعذيب من نوع اخر، يشمل كل المسلمين قويهم وضعيفهم، بل يشمل كل
من يحمي النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين حتى ولو لم يدخل في الاسلام، فقرر
المشركون ان يقاطعوا بني هاشم ومن معهم، فلا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم، ولا يبيعون لهم
ولا يشترون منهم، ولا يكلمونهم، ولا يدخلون بيوتهم، وان يستمروا هكذا حتى يسلموا اليهم محمدا
ليقتلوه او يتركوا دينهم، واقسم المشركون على هذا العهد، وكتبوه في صحيفه وعلقوها داخل الكعبة.
واحكم المشركون الحصار، فاضطر الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه الى الاحتباس في شعب
بني هاشم، وكان رجال قريش ينتظرون التجار القادمين الى مكه ليشتروا منهم الطعام ويمنعوا المسلمين
من شرائه، فيظلوا على جوعهم، فهذا ابو لهب يقول لتجار قريش عندما يرى مسلما يشترى
طعاما لاولاده: يا معشر التجار، غالوا على اصحاب محمد؛ حتى لا يدركوا معكم شيئا، فيزيدون
عليهم في السلعة، حتى يرجع المسلم الى اطفاله، وهم يتالمون من الجوع، وليس في يديه
شيء يطعمهم به.
ويذهب التجار الى ابي لهب فيربحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس، حتى تعب المؤمنون ومن
معهم من الجوع والعرى، واستمر هذا الحصار على بني هاشم والمسلمين مده ثلاث سنوات، ولكن
المسلمين اثبتوا انهم اقوى من كل حيل المشركين، فايمانهم راسخ في قلوبهم لا يزحزحه جوع
ولا عطش، حتى وان اضطروا الى اكل اوراق الشجر، فلم يياسوا، ولم ينفضوا من حول
نبيهم صلى الله عليه وسلم.
وشعر بعض المشركين بسوء ما يفعلونه، فقرروا انهاء هذه المقاطعه الظالمه وارسل الله تعالى الارضه
(دوده او حشره صغيره تشبه النملة) فاكلت صحيفتهم، ولم تبق الا اسم الله تعالى، واوحى
الله الى نبيه بذلك، فاخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمه ابا طالب بما حدث
للصحيفة، فذهب ابو طالب الى الكفار واخبرهم بما اخبره محمد صلى الله عليه وسلم به،
فاسرعوا الى الصحيفة، فوجدوا ما قاله ابو طالب صدقا، وتقدم من المشركين هشام بن عمرو،
وزهير بن ابي اميه والمطعم بن عدى، وابو البختري بن هشام، وزمعه بن الاسود، فتبرءوا
من هذه المعاهدة، وبذلك انتهت المقاطعه بعد ثلاث سنوات من الصبر، والثبات
والتحمل.
الجزء (9) : عام الحزن ~
في العام العاشر من البعثه كانت الاحزان على موعد مع الرسول صلى الله عليه وسلم،
فقد مات عمه ابو طالب الذي كان يحميه من اهل مكة، ثم ماتت زوجته الوفيه
الصادقه السيده خديجه -رضي الله عنها- التي كانت تخفف عنه، وتؤيده في دعوته الى الله
-عز وجل- وهي التي امنت به وساعدته بمالها، ورزقه الله منها الاولاد، فكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يحبها ويقدرها، وبشرها الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنه -قبل موتها-
فقد اتى جبريل -عليه السلام- النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله، هذه
خديجه قد اتت معها اناء فيه ادام، او طعام، او شراب، فاذا هي اتتك فاقرا
عليها السلام من ربها
ومني، وبشرها ببيت في الجنه من قصب (المراد به لؤلؤه مجوفه واسعه كالقصر الكبير) لا
صخب فيه ولا نصب) _[البخاري].
فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا على وفاه زوجته وعمه، وازداد قلقه على
الدعوة، فقد فقد نصيرين كبيرين، وصدق ما توقعه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد اشتد
تعذيب المشركين له ولاصحابه.
زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من السيده سودة:
كانت السيده سوده بنت زمعه -رضي الله عنها- قد اسلمت في بدايه الاسلام وهاجرت الى
الحبشه مع زوجها السكران بن عمرو، ثم عادت الى مكة، وقد مات زوجها، فتزوجها الرسول
صلى الله عليه وسلم اكراما لها، ورحمه بها.
رحله الرسول صلى الله عليه وسلم الى الطائف
لم يياس الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ان اعرض اهل مكه عن قبول الدعوه
ولكنه بحث عن مكان اخر لنشر الدين، فارض الله واسعة، وقد ارسله الله تعالى ليخرج
الناس جميعا من الظلمات الى النور.
فسافر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه خادمه زيد بن حارثه الى الطائف وكان
ذلك بعد مضي عشر سنوات من بعثته، وظل في الطائف عشره ايام يدعو كبار القوم
الى الاسلام، ولكن الطائف لم تكن احسن حالا من مكة، فقد رفض اهلها قبول دعوته،
ولم يكتفوا بذلك، بل انهم سلطوا عليه صبيانهم وسفهاءهم فوقفوا صفين على طول طريق الرسول
صلى الله عليه وسلم يسبونه، ويقذفونه بالحجاره هو وزيد بن حارثه الذي كان يدافع عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ويصد الحجارة، حتى جرح في راسه، وسال الدم
من قدم الرسول صلى الله عليه وسلم.
عندئذ توجه الرسول صلى الله عليه وسلم الى ربه، ولجا اليه، ورفع يديه قائلا: (اللهم
اليك اشكو ضعف قوتي وقله حيلتي وهواني على الناس، يا ارحم الراحمين، انت رب المستضعفين،
وانت ربي، الى من تكلني، الى بعيد
يتجهمني، ام الى عدو ملكته امري؟! ان لم يكن بك غضب علي فلا ابالي، غير
ان عافيتك هي اوسع لي، اعوذ بنور وجهك الذي اشرقت له الظلمات، وصلح عليه امر
الدنيا والاخره ان يحل علي غضبك، او ان ينزل بي سخطك، لك العتبى (التوبه والرجوع
والاستغفار) حتى ترضى، ولا حول ولا قوه الا بك)
[ابن اسحاق].
ووجد النبي صلى الله عليه وسلم بستانا لعتبه وشيبه ابني ربيعه فجلس فيه يريح جسده
المتعب لبعض الوقت، وراى عتبه وشيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الحال،
فرق قلبهما له مع انهما مشركان، فارسلا غلامهما عداسا بعنقود من عنب، ليقدمه الى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فتناوله قائلا: بسم الله، فتعجب عداس، وقال: ان هذا الكلام
لا يقوله اهل هذه البلاد -يعنى لا يقولون بسم الله- فساله الرسول صلى الله عليه
وسلم عن دينه وبلده، فقال عداس: انا نصراني من اهل نينوى، فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم:
(من قريه الرجل الصالح يونس بن متى؟) فقال عداس متعجبا: وما يدريك ما يونس بن
متى؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (ذلك اخي كان نبيا وانا نبي) فانكب عداس على
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل راسه ويديه وقدميه المجروحتين.
وفي طريق عوده رسول الله صلى الله عليه وسلم الى مكة، شاء الله ان يخفف
عنه ما عاناه في الطائف، فعندما وقف يصلي الفجر مر به نفر من الجن، فاستمعوا
له، فلما فرغ من صلاته رجعوا الى قومهم وقد امنوا بالله وبرسوله صلى الله عليه
وسلم ، قال تعالى مخبرا عن هذا: {قل اوحي الي انه استمع نفر من الجن
فقالوا انا سمعنا قرانا عجبا يهدي الى الرشد فامنا به ولن نشرك بربنا احدا} _[الجن:
1-2].
الجزء (10) : الاسراء والمعراج
وهكذا اعرض اهل مكه عن الاسلام، وخذل اهل الطائف النبي صلى الله عليه وسلم، وازداد
ايذاء الكافرين له ولصحابته، وخاصه بعد وفاه السيدة
خديجه -رضي الله عنها- وعمه ابي طالب، واراد الله -سبحانه- ان يخفف عن نبيه ،
فاكرمه برحله الاسراء والمعراج؛ فبينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم نائما بعد العشاء جاءه
جبريل، فايقظه وخرج به حتى انتهيا الى دابه اسمها (البراق) تشبه البغل، ولها جناحان، فركب
الرسول صلى الله عليه وسلم البراق حتى وصل بيت المقدس في فلسطين، وصلى بالانبياء ركعتين.
وهذه الرحله من مكه الى بيت المقدس تسمى (الاسراء) قال تعالى: {سبحان الذي اسرى بعبده
ليلا من المسجد الحرام الي المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه من اياتنا انه هو
السميع البصير} _[الاسراء: 1].
ثم بدات الرحله السماويه من المسجد الاقصى الى السماوات العلا وتسمى (المعراج) واذا بابواب السماء
تفتح للنبي صلى الله عليه وسلم، فسلم على الملائكة، وظل يصعد من سماء الى سماء
يرافقه جبريل؛ فراى الجنه والنار، وراى من مشاهد الاخره ما لم يره انسان حتى وصل
الى سدره المنتهى، وهو موضع لم يبلغه نبي او ملك قبله ولا بعده تكريما له،
قال تعالى: {فكان قاب قوسين او ادنى . فاوحى الى عبده ما اوحى} [النجم: 9-10]
وفي هذه الليلة، فرض الله الصلوات الخمس على المسلمين، ثم نزل رسول الله صلى الله
عليه وسلم الى بيت المقدس، وركب البراق عائدا الى مكة.
وفي الصباح، حكى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه ما حدث، فكذبوه وسخروا من
كلامه، واراد الكفار ان يختبروا صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فطلبوا منه ان يصف
بيت المقدس -ولم يكن راه من قبل- فاظهر الله له صوره بيت المقدس، فاخذ يصفه
وهو يراه، وهم لا يرونه، واخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم باشياء راها في الطريق،
وبقوم مر عليهم وهم في طريقهم الى مكة، فخرج الناس ينتظرونهم، فجاءوا في موعدهم الذي
حدده النبي صلى الله عليه وسلم فشهدوا بصدقه.
واسرع بعضهم الى ابي بكر يقول له في استنكار: اسمعت ما يقول محمد؟ وكان ابو
بكر مؤمنا صادق الايمان، فصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما قاله، فسماه
الرسول صلى الله عليه وسلم (الصديق) وهكذا كانت هذه الرحله تسريه عن النبي صلى الله
عليه وسلم، وتخفيفا للاحزان التي مر بها، وتاكيدا من الله له على انه قادر على
نصرته، وكانت ايضا ابتلاء للذين امنوا حتى يميز الله الطيب من الخبيث.
الجزء (11) : الرسول فى موسم الحج ~
جاء موسم الحج في السنه العاشره من البعثة، فاجتمعت القبائل من كل مكان وبدا الرسول
صلى الله عليه وسلم يدعوهم قائلا: (يا ايها الناس، قولوا لا اله الا الله تفلحوا،
وتملكوا بها العرب، وتذل لكم العجم، واذا امنتم كنتم ملوكا في الجنة) _[الطبراني وابن سعد]
ووجد الرسول صلى الله عليه وسلم سته رجال من (يثرب) يتحدثون، فاقترب منهم، وقال لهم:
(من انتم؟)
قالوا: نفر من الخزرج.
قال: امن موالى يهود (اي من حلفائهم)؟
قالوا: نعم.
قال: افلا تجلسون اكلمكم؟. قالوا: بلى.
فجلس معهم وحدثهم عن الاسلام، وتلا عليهم القران، فانشرحت له صدورهم، وظهرت علامات القبول على
وجوههم، وكانت بينهم وبين اليهود عداوة، فكان اليهود يهددونهم بظهور نبي، وسوف يؤيدونه ويقاتلونهم معه،
فلما سمعوا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم نظر بعضهم لبعض وقالوا: تعلمون والله انه
النبي الذي توعدكم به اليهود فلا يسبقنكم اليه .. فاجابوا الرسول صلى الله عليه وسلم
فيما دعاهم اليه، ووعدوه بان يقابلوه في العام المقبل، ثم انصرفوا الى قومهم وحدثوهم عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتشرت اخباره في يثرب. _[ابن اسحاق].
بيعه العقبه الاولى:
وفي شهر ذي الحجه سنه احدى عشره من البعثة، قدم الى مكه اثنا عشر رجلا
من اهل يثرب من بينهم خمسه من السته الذين كلموا الرسول صلى الله عليه وسلم
في العام الماضي، واجتمع معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكان اسمه العقبة؛
فامنوا به صلى الله عليه وسلم، وبايعوه على الا يشركوا بالله
شيئا، ولا يسرقوا، ولا يرتكبوا الفواحش والمنكرات، ولا يقتلوا اولادهم، ولا يعصوه صلى الله عليه
وسلم في معروف يامرهم به.
وكانت هذه هي بيعه العقبه الاولى، وعندما عادوا الى يثرب ارسل رسول الله صلى الله
عليه وسلم معهم مصعب بن عمير -رضي الله عنه- ليعلمهم امور الدين ويقرا عليهم القران،
فاسلم على يديه كثير من اهل يثرب.
بيعه العقبه الثانية:
وفي شهر ذي الحجه من العام الثاني عشر من البعثة، ذهب ثلاثه وسبعون رجلا وامراتان
من اهل يثرب الى الحج، ليبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الاسلام، وفي
ليله الحادي عشر من ذي الحجه تسلل الرجال والمراتان وذهبوا الى العقبة، وجاء اليهم الرسول
صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس بن عبدالمطلب، ولم يكن قد امن وقتئذ، ولكنه
جاء ليطمئن على اتفاق ابن اخيه مع اهل يثرب، وليبين لهم انه قادر على حمايته
في مكه ان لم يكونوا قادرين على حمايته في المدينة.
وتمت بيعه العقبه الثانية، وفيها عاهد الانصار النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة،
وقال لهم : (تبايعوني على السمع والطاعة، في النشاط
والكسل، وعلى النفقه في العسر واليسر، وعلى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى ان تقولوا
في الله لا تاخذكم لومه لائم، وعلى ان تنصروني اذا قدمت عليكم، وتمنعوني مما تمنعون
منه انفسكم وازواجكم وابناءكم
ولكم الجنة) _[احمد].
واصبح لرسول الله صلى الله عليه وسلم اتباع اقوياء مستعدون لنصرته، والقتال من اجل الاسلام،
حتى ان احدهم وهو العباس بن عباده -رضي الله عنه- قام وقال لرسول الله صلى
الله عليه وسلم: والله الذي بعثك بالحق، ان شئت لنميلن على اهل منى غدا باسيافنا،
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يفعل الا ما يامره الله به، فقال له
: (لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا الى رحالكم)
[ابن اسحاق] واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم اثني عشر رجلا؛ ليكونوا امراء
عليهم حتى يهاجر اليهم.
وفي الصباح، تسلل الخبر الى كفار قريش، فاكتشفوا امر ذلك الاجتماع
الخطير، وخرجت قريش تطلب المسلمين من اهل يثرب فادركوا (سعد بن عبادة) واسروه واخذوا يعذبونه
ويجرونه حتى ادخلوه مكة، وكان سعد يجير ويحمي تجاره اثنين من كبار مكه اذا مرا
ببلده، وهما جبير بن مطعم بن عدي والحارث بن حرب بن امية، فنادى باسميهما فجاءا
وخلصاه من ايدي
المشركين، وعاد سعد بن عباده -رضي الله عنه- الى يثرب.
الجزء (12) : الهجره من مكه الى المدينه ..
اصبح كفار مكه في غيظ شديد، بعدما صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم انصار
في يثرب، وهم اهل حرب يجيدون القتال، وسوف ينصرون
الاسلام، فشعر كفار مكه ان الامر سيخرج من ايديهم، فانقضوا على المسلمين بالتعذيب والاذى، والتف
المسلمون حول نبيهم الكريم صلى الله عليه وسلم يطلبون منه الاذن في ترك مكه كلها،
ويهاجرون بدينهم، حتى يستطيعوا ان يعبدوا الله تعالى وهم امنون، فاذن لهم الرسول صلى الله
عليه وسلم بالهجره الى المدينة. فبدا المسلمون يتسللون سرا الى المدينة، تاركين ديارهم واموالهم من
اجل دينهم.
وجاء ابو بكر الصديق -رضي الله عنه- الى الرسول صلى الله عليه وسلم يستاذنه في
الهجرة، فطلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم ان ينتظر لعل الله يجعل له صاحبا،
ففهم ابو بكر انه سيظفر بالهجره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتظر مسرورا،
واخذ يعد للرحله المباركة، فجهز ناقتين ليركبهما هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم الى
المدينة.
المؤامرة:
اجتمع زعماء مكه في دار الندوه -ذلك البيت الكبير الواسع الذي كان
لقصي بن كلاب- وعلى وجوههم الغضب؛ للتشاور في امر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد
شعروا انه يعد نفسه للهجره الى المدينة، واذا تم له ذلك فسوف تصبح المدينه مركزا
كبيرا يتجمع فيه المسلمون من كل مكان حول النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك يشكلون
خطرا على تجاره اهل مكه عندما تمر بالمدينه في طريقها الى الشام ذهابا وايابا، وبدا
النقاش، فقال بعضهم: نخرج محمدا من بلادنا فنستريح منه، وقال اخرون: نحبسه حتى يموت.
وقال ابو جهل: ناخذ من كل قبيله شابا قويا، ونعطي كلا منهم سيفا صارما قاطعا،
لينقضوا على محمد، ويضربوه ضربه قاتلة، وهكذا لا يستطيع عبد مناف -قوم محمد- محاربه القبائل
كلها، فيقتنعون باخذ ما يريدون من مال تعويضا عن قتل محمد، وكان الشيطان اللعين يجلس
بينهم في صوره شيخ نجدي وهم لا يعرفونه، فلما سمع ذلك الراي قال في حماس:
القول ما قال الرجل، وهذا الراي لا راى غيره، فاتفقوا جميعا عليه.
وسجل القران الكريم ما دار في اجتماع المشركين ذلك، فقال تعالى: { اذ يمكر بك
الذين كفروا ليثبتوك او يقتلوك او يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} _[الانفال: 30]
وتدخلت عنايه الله؛ فجاء جبريل الى الرسول صلى الله عليه وسلم يامره الا يبيت هذه
الليله في فراشه وان يستعد للهجرة، قالت عائشه -رضي الله عنها-: فبينما نحن يوما جلوس
في بيت ابي بكر في حر الظهيرة، قال قائل لابي بكر: هذا رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ولم يكن ياتينا في مثل هذه الساعة، فقال ابو بكر -رضي الله
عنه-: فداء له ابي وامي، والله ما جاء به في هذه الساعه الا امر.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستاذن، فاذن له، فدخل، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم لابي بكر: (اخرج من عندك) فقال ابو بكر: انما هم اهلك بابي انت
يا رسول الله، قال: (فاني قد اذن لي في الخروج) فقال ابو بكر: الصحبه بابي
انت يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم).
احداث الهجرة:
كان الله -سبحانه- قادرا على ان يرسل ملكا من السماء يحمل رسوله الى المدينه كما
اسرى به ليلا من مكه الى المسجد الاقصى وعرج به السماء، ولكن جعل الهجره فرصه
كبيره لنتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم دروسا عظيمه في كيفيه التفكير والتخطيط
والاخذ بالاسباب التي توصل الى النجاح.
ولنبدا باول هذه الدروس، فكيف يخرج النبي صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه ابو بكر
-رضي الله عنه- من بين هؤلاء الكفار دون ان يلحقوا بهما؟ فلو خرجا من مكه
سالمين فان المسافه طويله بين مكه والمدينه وسوف يخرج وراءهما الكفار ويدركونهما، لابد اذن من
الاختباء في مكان ما؛ حتى يياس الكفار من البحث عنهما، ومن هنا وضع رسول الله
صلى الله عليه وسلم خطه محكمه لتتم الهجره بسلام.
فامام بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف مجموعه من شباب قريش في الليل،
ينتظرون حتى يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم، فينقضوا عليه
ويقتلوه، وكان هؤلاء الكفار يتطلعون بين الحين والحين الى فراش رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليطمئنوا على وجوده، فامر النبي صلى الله عليه وسلم
علي بن ابي طالب -رضي الله عنه- بالنوم في فراشه، وان يتغطى ببردته، وطمانه بان
المشركين لن يؤذوه باذن الله.
واستجاب علي -رضي الله عنه- بكل شجاعه وحماس، ونفذ ما امره الرسول صلى الله عليه
وسلم به، واراد الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك تضليل المشركين، فاذا نظروا اليه
من الباب ووجدوه في فراشه، ظنوا انه صلى الله عليه وسلم ما زال نائما، وقد
كانت عند الرسول صلى الله عليه وسلم امانات كثيره تركها المشركون عنده، فاراد الرسول صلى
الله عليه وسلم ان يردها الى اصحابها، فامر عليا ان ينتظر في مكه لاداء هذه
المهمة، رغم انهم اخرجوا المسلمين من ديارهم، واذوهم، ونهبوا اموالهم ولكن المسلم يجب ان
يكون امينا.
وكان ابو جهل يقول لاصحابه متهكما برسول الله صلى الله عليه وسلم: ان محمدا يزعم
انكم ان تابعتموه اصبحتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فدخلتم الجنة، وان
لم تفعلوا ذبحكم ثم بعثتم من بعد موتكم فتدخلون النار تحرقون فيها.
ونام علي -رضي الله عنه- في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوجه النبي صلى
الله عليه وسلم الى الباب، وخرج وفي قبضته حفنه من التراب فنثرها على رءوس المشركين،
وهو يقرا سوره يس الى قوله تعالى: {وجعلنا من بين ايديهم سدا ومن خلفهم سدا
فاغشيناهم فهم لا يبصرون} _[يس: 9] واذا برجل يمر عليهم فراى التراب على رءوسهم، فقال
لهم: خيبكم الله، قد خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلا الا وقد وضع
على راسه ترابا، افما ترون ما بكم؟ فوضع كل رجل منهم يده على راسه فاذا
عليه التراب.
فنظروا من الباب، فوجدوا رجلا نائما في مكان الرسول صلى الله عليه وسلم وعليه غطاؤه،
فقالوا: هذا محمد في فراشه، وعليه بردة، ثم اقتحموا دار النبي صلى الله عليه وسلم،
فوجدوا عليا في فراشه، فخرجوا يبحثون عن الرسول صلى الله عليه وسلم في كل مكان،
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم خلال هذه الفتره قد وصل الى بيت صاحبه ابي
بكر -رضي الله عنه- وعزما على الذهاب الى غار ثور ليختبئا فيه.
وحمل ابو بكر الصديق -رضي الله عنه- كل ماله، وخرج مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم من باب صغير في نهايه المنزل حتى لا يراهما احد، وانطلقا حتى وصلا
الغار، وهناك وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل ابوبكر
اولا؛ ليطمئن على خلو الغار من الحيات والعقارب، ثم سد ما فيه من فتحات حتى
لا يخرج منها شيء، وبعد ذلك دخل الرسول صلى الله عليه وسلم.
وها هي ذي اسماء بنت ابي بكر يدخل عليها جدها ابو قحافه بعد ان علم
بخروج ولده ابي بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رجلا كبيرا قد
عمى، يسالها عما تركه ابو بكر في بيته ويقول: والله اني لاراه فجعكم بماله مع
نفسه، قالت: كلا يا ابت! انه قد ترك لنا خيرا كثيرا، واخذت احجارا فوضعتها في
المكان الذي كان ابوها يضع ماله فيه، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم اخذت بيده وقالت:
يا ابت، ضع يدك على هذا، فوضع يده عليه فقال: لا باس ، فان كان
ترك لكم هذا فقد احسن، وفي هذا بلاغ لكم.
اما كفار مكه فانهم حيارى، يبحثون عن الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه ويضربون كفا
بكف من الحيره والعجب، فالصحراء على اتساعها مكشوفه امامهم، ولكن لا اثر فيها لاحد ولا
خيال لانسان، فتتبعوا اثار الاقدام، فقادتهم الى غار ثور، فوقفوا امام الغار، وليس بينهم وبين
الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه سوى امتار قليلة، حتى ان ابا بكر راى ارجلهم
فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، لو نظر احدهم تحت قدميه
لرانا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : (يا ابا بكر، ما ظنك باثنين
الله ثالثهما)
[متفق عليه].
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد انصرف القوم، ولم يفكر احدهم ان ينظر
في الغار، وسجل القران هذا، فقال تعالى: {الا تنصروه فقد نصره الله اذ اخرجه الذين
كفروا ثاني اثنين اذ هما في الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا
فانزل الله سكينته عليه وايده بجنود لم تروها وجعل كلمه الذين كفروا السفلى وكلمه الله
هي العليا والله عزيز حكيم} [التوبة: 40].
ومكث الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار ثلاثه ايام، وكان
عبدالله بن ابي بكر يذهب اليهما باخبار الكفار ليلا، واخته اسماء تحمل لهما الطعام، اما
عامر بن فهيره راعي غنم ابي بكر فقد كان يسير بالاغنام فوق اثار اقدام عبدالله
واسماء حتى لا يترك اثرا يوصل الى الغار، وبعد انتهاء الايام
الثلاثة، خف طلب المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه، فخرجا من الغار، والتقيا بعبد
الله بن اريقط، وقد اتفقا معه على ان يكون دليلهما في هذه الرحله مقابل اجر.
تحرك الركب بسلام، وابو بكر لا يكف عن الالتفات والدوران حول النبي صلى الله عليه
وسلم خوفا عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرا القران، ولا يلتفت حوله فهو
واثق من نصر الله -تعالى- له، ولا يخشى احدا، وبينما ابو بكر يلتفت خلفه اذا
بفارس يقبل نحوهما من بعيد، كان الفارس هو سراقه بن مالك وقد دفعه الى ذلك
ان قريشا لما يئست من العثور على الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه، جعلوا مائه
ناقه جائزه لمن يرده اليهم حيا او ميتا.
فانطلق سراقه بن مالك بفرسه وسلاحه في الصحراء طمعا في الجائزة، فغاصت اقدام فرسه في
الرمال مرتين حين راى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل سراقه مسرعا عن الفرس،
حتى نزعت اقدامها من الرمال، فايقن سراقه ان الله تعالى يحرس رسوله صلى الله عليه
وسلم، ولن يستطيع انسان مهما فعل ان ينال منه، فطلب من رسول الله ان يعفو
عنه، وعرض عليه الزاد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حاجه لنا، ولكن
عم عنا الخبر) فوعده سراقه الا يخبر
احدا، وعاد الى مكة، وهكذا خرج سراقه يريد قتلهما وعاد وهو يحرسهما ويبعد الناس عنهما،
فسار النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه الى المدينه تحرسهما عنايه الله.
واثناء رحله رسول الله صلى الله عليه وسلم وابي بكر الى المدينه مرا بمنازل خزاعه
ودخلا خيمه ام معبد الخزاعية، وكانت سيده كريمة، تطعم وتسقي من مر بها، فسالاها: عما
اذا كان عندها شيء من طعام؟ فاخبرتهما انها لا تملك شيئا في ذلك الوقت، فقد
كانت السنه شديده القحط، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى شاه في جانب
الخيمه فقال: ما هذه الشاه يا ام معبد؟
فاخبرته انها شاه منعها المرض عن الخروج الى المراعي مع بقيه الغنم، فقال: هل بها
من لبن؟ قالت: هي اجهد من ذلك، فقال: اتاذنين لي ان احلبها؟ قالت: نعم ان
رايت بها حلبا فاحلبها.
فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها، وسمى الله ودعا، وطلب اناء فحلب
فيه حتى علته الرغوة، فسقاها فشربت حتى شبعت، وسقى رفيقيه ابا بكر وعبد الله بن
اريقط حتى شبعا، ثم شرب، وحلب فيه ثانيه حتى ملا الاناء، ثم تركه صلى الله
عليه وسلم وانصرف.
الرسول صلى الله عليه وسلم في قباء:
علم اهل المدينه بهجره الرسول صلى الله عليه وسلم اليهم، فكانوا يخرجون كل يوم بعد
صلاه الصبح الى مشارف المدينة، وعيونهم تتطلع الى الطريق، وتشتاق لمقدم الرسول صلى الله عليه
وسلم اليهم، ولا يعودون الى بيوتهم الا اذا اشتد حر الظهيرة، ولم يجدوا ظلا يقفون
فيه.
وفي يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الاول انتظر اهل يثرب رسول الله صلى الله
عليه وسلم كعادتهم، حتى اشتد الحر عليهم، فانصرفوا لبيوتهم، وبعد قليل اقبل رسول الله صلى
الله عليه وسلم وصاحبه، فابصرهما رجل يهودي كان يقف على نخلة، فصاح باعلى صوته: يا
بني قيلة، هذا صاحبكم قد جاء، فاسرع المسلمون لاستقبال نبيهم وصاحبه ابي بكر الذي كان
يظل رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه من حر الشمس.
وبينما الرسول صلى الله عليه وسلم في قباء، في بيت سعد بن خيثمه يستقبل الوافدين
عليه، اقبل علي بن ابي طالب من مكه بعد ان ظل فيها ثلاثه ايام بعد
خروج الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليرد الامانات الى اهلها، وقد ظل الرسول صلى الله
عليه وسلم في قباء اربعه ايام يستقبل اهل المدينة، وعندما اقبل يوم الجمعه ترك رسول
الله صلى الله عليه وسلم قباء متوجها للمدينه بعد ان اسس مسجد قباء، وهو اول
مسجد بني في الاسلام، وقال الله -عز وجل- عنه: {لمسجد اسس على التقوى من اول
يوم احق ان تقوم فيه فيه رجال يحبون ان يتطهروا والله يحب المطهرين} _[التوبة: 108].
وكانت الهجره حدثا فاصلا بين عهدين، فقد اعز الله المسلمين بعد ان كانوا مضطهدين، وصارت
لهم دار امنه يقيمون فيها، ومسجد يصلون فيه، ويؤدون فيه شعائرهم، ويتشاورون في امورهم، لهذا
كله اتفق الصحابه على جعل الهجره بدايه للتاريخ الاسلامي، فقد تحول المسلمون من الضعف والحصار
والاضطهاد الى القوه والانتشار ورد العدوان.
الجزء (13) : الرسول في المدينه ..
كانت يثرب قبل الهجره تموج بالصراعات والحروب والدسائس، فنار العداوه مشتعله بين قبيلتي الاوس والخزرج،
والحرب بينهما سجال، فاذا انتصر احدهما عمل الاخر بكل طاقته على الحاق الهزيمه به، حتى
فني الرجال، وترملت النساء وتيتم الابناء، وكان اليهود يقفون خلف الستار، يزيدون النار اشتعالا، فيمدون
الطرفين بالسلاح، ويثيرون بينهما العداوات والفتن؛ املين ان يقضي بعضهم على بعض، حتى تكون لليهود
السياده والكلمه الاولى في المدينة.
واجتمع اهل يثرب على (عبدالله بن ابي بن سلول) لتكون له الكلمه العليا في اداره
المدينة، ولكن الله اراد السلامه للمدينة؛ واراد لها ان تكون مركز الدوله الاسلامية، فاقبل موكب
رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة، فاستقبله اهلها استقبالا عظيما؛ وكان امل كل
واحد منهم ان يستضيف الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته، فكلما مرت الناقه التي
تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت، خرج اهل ذلك البيت، وتعلقوا بزمامها، وهم
يرجون ان ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم، فكان يقول لهم: (دعوا الناقه
فانها مامورة) اي اتركوا الناقه فانها ستقف وحدها حيث امرها الله تعالى.
وفي مكان يملكه يتيمان من بني النجار امام دار ابي ايوب الانصاري بركت الناقة، فقال
صلى الله عليه وسلم: (هذا ان شاء الله المنزل) فحمل ابو ايوب رحل النبي صلى
الله عليه وسلم الى بيته. [ابن اسحاق] واذا بفتيات صغيرات من بني النجار، يخرجن فرحات
بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم وينشدن:
نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جار
وفي بيت ابي ايوب الانصاري المكون من طابقين، نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم
في الطابق السفلي، فقال له ابو ايوب: يا نبي الله، بابي انت وامي، اني لاكره
واعظم ان اكون فوقك، وتكون تحتي، فاظهر (اصعد) انت فكن في الاعلى، وننزل نحن فنكون
في السفل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(يا ابا ايوب، انه لارفق بنا وبمن يغشانا ان نكون في اسفل البيت) _[احمد].
وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يثقل على اهل البيت، وكان الصحابي ابو
ايوب الانصاري كريما في ضيافته، فان صنع طعاما لا ياكل هو زوجته الا بعد ان
ياكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منه اولا، ثم ياكلان من موضع اصابعه حبا
فيه وطلبا لبركته.
بناء المسجد:
عاش المسلمون في المدينه حياه امنه مطمئنة، يغشاها الهدوء والسكينة، ورسول الله صلى الله عليه
وسلم بينهم في وطنهم الجديد، لقد اصبحت لهم دوله دينها الاسلام، وقائدها الرسول صلى الله
عليه وسلم، وكان اول ما فكر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم هو بناء مسجد
يجتمعون فيه، فيؤدون فيه صلاتهم، ويقضون امورهم، ويتشاورون فيما يخصهم، فاشترى صلى الله عليه وسلم
الموضع الذي بركت فيه الناقة؛ ليبني فيه المسجد.
وتجمع المسلمون لبناء المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، ينظف المكان، ويحمل معهم
الطوب، ويشارك في البناء، فهذا يقطع النخيل، وهذا يحفر اماكن الاعمدة، وذاك يقيم الجدار، واخر
يعد الطين، وهذا يحمل الطوب، كلهم ينشدون:
لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل
وينشدون ايضا::
لا عيش الا عيش الاخره اللهم فارحم الانصار والمهاجرة
ومن المسجد بدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظم دولته، وكان اهم شيء في
هذه الدوله هم الافراد الذين يعيشون فيها؛ لانها تنهض بهم وتعتمد عليهم، فكان المسلمون في
المدينه عندئذ قسمين:
-المهاجرون، وهم اهل مكه الذين هاجروا بدينهم الى المدينة.
-الانصار، وهم اهل المدينه الاصليون، الذين اعتنقوا الاسلام، واستضافوا المسلمين في بلدهم، ونصروا الرسول صلى
الله عليه وسلم.
وفي بدايه الهجره كان المهاجرون في المدينه يعانون من الوحشه والاحساس بالغربة، فحياه المدينه وجوها
يختلفان عن مكة، مما جعل اكثرهم يتعرض للمرض، فتوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم
الى ربه ودعاه ان يحبب المدينه الى قلوب المهاجرين، وان يزيل مرض الحمى عنهم، فاستجاب
الله تعالى لنبيه وحبب الى المهاجرين العيش في المدينة، وصاروا يتحركون في شوارعها، وسوقها بحماس
ومرح كانهم ولدوا ونشئوا فيها.
الصلح بن الاوس والخزرج:
وكان الانصار قبيلتين كبيرتين: الاوس، والخزرج، وكانت الحروب لا تنقطع بينهما قبل ان يعتنقوا الاسلام،
فصالح الرسول صلى الله عليه وسلم بينهما، ونزع الله من قلوبهم العداوه والكراهية، وحل محلها
الحب والموده والوئام.
المؤاخاة:
والان بعد ان استقر المهاجرون، وصلح حال الانصار، بقي ان يندمجوا سويا فيصبحوا اخوه مسلمين،
فلا فرق بين مهاجر وانصاري، لذلك اخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فجعل
لكل مهاجر اخا من الانصار، فابو بكر الصديق اخ لخارجه بن زهير، وعمر بن الخطاب
اخ لعتبان بن مالك، وعبد الرحمن بن عوف اخ لسعد بن الربيع، ولم تكن الاخوه
مجرد كلمه تقال، بل طبقها المسلمون تطبيقا فعليا فهذا سعد بن الربيع الانصاري ياخذ اخاه
عبد الرحمن بن عوف، ويعرض عليه ان يعطيه نصف ما يملك، ولكن عبد الرحمن بن
عوف يشكره ويقول له: بارك الله لك في اهلك ومالك، ولكن دلني على السوق، وذهب
عبدالرحمن اليه فربح واكل من عمل يده. _[البخاري].
ولم يقتصر ذلك على سعد بن الربيع بل فعله كثير من الصحابه حتى انه كان
يرث بعضهم بعضا بناء على هذه الاخوة، فيرث المهاجر اخاه الانصاري، ويرث الانصاري اخاه المهاجر،
وظلوا على ذلك حتى جعل الله التوارث بين ذوي الارحام، وقد اثنى الله -عز وجل-
على المهاجرين والانصار، فقال تعالى: {للفقراء والمهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم واموالهم يبتغون فضلا من
الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله اولئك هم الصادقون . والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم
يحبون من هاجر اليهم ولا يجدون في صدورهم حاجه مما اوتوا ويؤثرون على انفسهم ولو
كان بهم خصاصه ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون} _[الحشر: 8-9].
وجمعهم الله سبحانه في ايه واحدة، فقال تعالى: {والذين امنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله
والذين اووا ونصروا اولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفره ورزق كريم} [الانفال: 74] وفي هذا
المجتمع الامن المستقر، حيث يحب كل مسلم اخاه، اخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم
يعلم اصحابه امور دينهم فيدعوهم الى كل خير، وينهاهم عن كل شر، وهم ينفذون ذلك
راضين سعداء بهدايه الله لهم، ووجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، وبدا الناس
يتوافدون الى المدينة، معلنين اسلامهم وانضمامهم لهذه الدوله المنظمة.
اليهود في المدينة:
وكان يسكن مع المسلمين في المدينه اليهود وبعض المشركين الذين يحقدون على الاسلام، ويكرهون قيام
دولته، لذلك وضع الرسول صلى الله عليه وسلم معاهده تنظم العلاقه بين المسلمين وغيرهم حتى
يامن مكر الكفار.
وهذه بعض المبادئ التي احتوتها المعاهدة:
1-المهاجرون والانصار امه من دون الناس يتعاونون فيما بينهم، وهم يد واحده على من عاداهم.
2-دماؤهم محفوظة، فلا يقتل مؤمن مؤمنا، ولا ينصر مؤمن كافرا على اخيه المؤمن.
3-لليهود حريتهم الدينيه فلا يجبرون على الاسلام.
4-اليهود الذين يسكنون المدينه يشاركون في الدفاع عنها، ولا يعينون اعداء الاسلام، ولا ينصرونهم.
5-كل ظالم او اثم او متهاون خائن لا ينفذ ما في هذا العهد عليه اللعنه
والغضب، ويقوم الاخرون بحربه.
6-اذا حدث خلاف في اي امر، فان الحكم هو كتاب الله وسنه نبيه صلى الله
عليه وسلم.
وهكذا وضح الرسول صلى الله عليه وسلم حقوق كل طائفه في المدينه وواجباتها، ورسم المنهج
الذي يتعاملون به بكل امانه وعدل، فلم يظلم اليهود بل حفظ لهم حقوقهم، ورغم ذلك
اظهر اليهود وجههم القبيح، وكراهيتهم للرسول صلى الله عليه وسلم رغم علمهم انه صادق، واتضح
ذلك في موقفهم من عبدالله بن سلام عندما اسلم.
فقد كان عبد الله بن سلام من علماء اليهود، ومن ساداتهم، فلما اسلم كتم اسلامه،
ولم يخبر اليهود، وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم ان يسالهم عنه اولا، فبعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهم فقال: (اي رجل فيكم ابن سلام؟) قالوا: ذاك
سيدنا وابن سيدنا، واعلمنا وابن اعلمنا، فقال: (افرايتم ان اسلم؟) فقالوا: حاشا لله، ما كان
ليسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يابن سلام، اخرج عليهم) فخرج فقال لهم:
(يا معشر يهود، اتقوا الله، فوالله الذي لا اله الا هو انكم لتعلمون انه رسول
الله، وانه جاء بالحق) فقالوا: كذبت. [البخاري].
وهكذا كانت عداوه اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين واضحه منذ اول يوم في
المدينه رغم انهم يعرفون انه رسول الله حقا وصدقا، وقد اشتدوا في تكذيب رسول الله
صلى الله عليه وسلم، واظهار حقدهم عليه عند تحويل القبله من بيت المقدس الى الكعبة،
وظهرت سفاهه عقولهم واضحه حين تشاوروا فيما بينهم، واتفقوا ان يؤمنوا بدين الله اول النهار،
ويكفروا في اخره حتى يسعى الناس الى تقليدهم، والسير على خطاهم، ولكن الله فضحهم بكفرهم
في كتابه الحكيم، واظهر حقدهم على المسلمين بعد تالف قلوب اهل المدينه من الاوس والخزرج،
وسعيهم الى الوقيعه فيما بينهم، ولكنهم لم يفلحوا في ذلك.
زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من السيده عائشة:
وبعد ثمانيه اشهر من الهجره كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد انهى بناء المسجد،
واستقر المسلمون في المدينة، فاتم الرسول صلى الله عليه وسلم زواجه بالسيده عائشه ودخل بها،
وكان قد عقد عليها قبل الهجرة، وكان الرسول
صلى الله عليه وسلم بعد زواجه منها يقدرها، ويفضلها، فعن عمرو بن العاص قال: قلت
يا رسول الله، اي الناس احب اليك؟ قال: (عائشة) قلت: ومن الرجال؟ قال: (ابوها) _[الترمذي].
الجزء (14) : مرحله الجهاد
لقد ترك المسلمون مكه كلها للكفار، وهاجروا الى المدينة، ولكن الصراع بينهما لم ينته، بل
زاد عما كان عليه في مكة، واتخذ شكلا جديدا، بعد ان نزل الاذن من الله
بقتال المشركين، قال تعالى: {اذن للذين يقاتلون بانهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير .
الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق الا ان يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس
بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من
ينصره ان الله لقوي عزيز . الذين ان مكناهم في الارض اقاموا الصلاه واتوا الزكاه
وامروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبه الامور} [الحج: 39-41].
وقد اصبح المسلمون في المدينه قوه كبيره بانضمام الانصار اليهم، فلماذا لا يستردون حقوقهم المسلوبة؟
وخاصه ان المدينه تقع على الطريق بين مكه والشام حيث تمر قوافل اهل مكه التجارية،
لذلك قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم ارسال سرايا من جيش المسلمين يزعجون قريشا
ويستطلعون اخبارها، ومن هذه السرايا:
سريه سيف البحر:
في شهر رمضان من السنه الاولى للهجره خرج حمزه بن عبد المطلب ومعه ثلاثون من
المهاجرين لاعتراض قافله لقريش قادمه من الشام يقودها ابو جهل في ثلاثمائه رجل، ولكن رجلا
اسمه مجدي بن عمرو صالح بين الفريقين، ولم يحدث قتال، وعرف الكفار منذ ذلك الوقت
ان المسلمين مستعدون لمواجهتهم.
سريه رابغ:
وفي شهر شوال من السنه نفسها خرج عبيده بن الحارث بن عبد المطلب ومعه ستون
رجلا من المهاجرين، واعترضوا قافله بقياده ابي سفيان، وكان بينهما رمي بالنبال، ولكن لم يقع
قتال.
سريه الخرار:
كانت في شهر ذي القعده من السنه الاولى، وفيها خرج سعد بن ابي وقاص ومعه
عشرون مسلما، ولكنهم لم يعثروا على القافله التي خرجوا من
اجلها، وهكذا تحول المسلمون من الضعف الى القوة، واصبحوا مصدرا لرعب الكفار.
غزوه الابواء (ودان):
وفي العام الثاني من الهجره واصل الرسول صلى الله عليه وسلم ارسال السرايا لمعرفه اخبار
اهل مكة، وليدرب المسلمين على مواجهه قريش، وكان صلى الله عليه وسلم يشارك في بعض
هذه الاعمال العسكرية، ومن الغزوات التي شارك فيها غزوه الابواء (ودان)، وفيها خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم بنفسه مع سبعين من المهاجرين في شهر صفر لاعتراض قافله لقريش،
لكنه لم يلتق بها فعقد معاهده مع بني ضمره امنهم على انفسهم، ووعدوه الا يحاربوه
ولا يعينوا عليه اعداءه، وان يقفوا الى جانبه اذا دعاهم لذلك، وهكذا كان صلى الله
عليه وسلم لا يترك صغيره او كبيره يؤمن بها دولته، ويقوي علاقتها بجيرانها الا فعلها.
غزوه بواط:
وفيها خرج النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الاول من السنه الثانية، ومعه
مائتان من الصحابة؛ لاعتراض قافله لقريش يقودها اميه بن خلف لكنه لم يلحق بها.
غزوه بدر الاولى:
وسببها ان رجلا اسمه كرز بن جابر الفهري اعتدى هو وبعض المشركين على مراعي المدينه
ومواشيها، فطارده الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض المسلمين ولكنه فر هاربا، وقد وقعت هذه
الغزوه قريبا من بئر بدر ولذلك سميت بدر الاولى.
غزوه العشيرة:
وقد حاول فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه اعتراض قافله لقريش ذاهبه من
مكه الى الشام، ولكنه لم يدركها، فعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهده مع
بني مدلج حلفاء بني ضمرة.
سريه نخلة:
خرج فيها عبد الله بن جحش الاسدي مع ثمانيه مهاجرين، وامرهم الرسول صلى الله عليه
وسلم ان يعسكروا بين مكه والطائف في مكان يسمى نخله فمرت قافله لقريش في اخر
يوم من شهر الله الحرام رجب، فهاجمها عبد الله
ومن معه، فقتل من المشركين عمرو بن الحضرمي، واسروا عثمان بن عبدالله بن المغيرة، والحكم
بن كيسان، وفر نوفل بن عبد الله.
وعادت السريه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانكر عليهم القتال في شهر الله
الحرام، واشتد غضب المشركين، وقالوا: ان محمدا قد احل القتال في الاشهر الحرم، فاشتد ذلك
على المسلمين؛ فانزل الله -عز وجل- قوله: {يسالونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال
فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام واخراج اهله منه اكبر عند
الله والفتنه اكبر من القتل} [_البقرة: 217].
فهؤلاء المشركون الذين ينكرون على المسلمين القتال في الاشهر الحرم، قد فعلوا اكبر من ذلك،
حين اشركوا بالله، واخرجوا المؤمنين من ديارهم، وحرموهم من اموالهم واولادهم وهذا اكبر عند الله
-عز وجل- في الاثم والعقوبة.
الجزء (15) : تحويل القبله ..
كان المسلمون بعد هجرتهم الى المدينة، يتوجهون في صلاتهم نحو بيت المقدس في فلسطين، وظلوا
على ذلك سته عشر شهرا او سبعه عشر شهرا، وكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم ينظر الى السماء داعيا الله -تعالى- ان تكون قبله المسلمين تجاه الكعبة، فاستجاب الله
دعاء نبيه، وانزل القران الكريم امرا المسلمين بالتوجه الى المسجد الحرام بمكه في صلاتهم، قال
تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبله ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام
وحينما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 144] وكان بعض المسلمين قد ماتوا قبل تحويل القبلة،
فقال رجال من المسلمين: وددنا لو علمنا من مات منا قبل ان نصرف الى القبله
(اي: المسجد الحرام) وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس؟ فانزل الله: {وما كان الله ليضيع ايمانكم
ان الله بالناس لرءوف رحيم} [_البقرة: 143].
وقد شن اليهود حربا من الجدل على المسلمين اثر تحويل القبلة، اذ قالوا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم: يا محمد، ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها، وانت تزعم
انك على مله ابراهيم ودينه؟ ارجع الى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك، فنزل قول
الله تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله
المشرق والمغرب يهدي من يشاء الى صراط مستقيم} [البقرة: 142].
وقال تعالى: {ولله المشرق والمغرب فاينما تولوا وجوهكم فثم وجه الله ان الله واسع عليم}
[_البقرة: 115].
وقال تعالى: {ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من امن بالله
واليوم الاخر والملائكه والكتاب والنبيين} [البقرة: 177].
فالله سبحانه رب الامكنه والازمنه جميعا، ولقد كانت عوده المسلمين الى الكعبه رجوعا الى الاصل
الذي بناه ابو الانبياء ابراهيم -عليه السلام- فتوجه المسلمون بعد ذلك الى مكه كل يوم
في صلاتهم خمس مرات، وكان تحويل القبله في العام الثاني من الهجرة، وفي ذلك العام
فرض الله الصوم والزكاة.
الجزء (16) : غزه بدر الكبرى !!
علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ان قافله لقريش محمله بالبضائع بقيادة
ابي سفيان قد خرجت من الشام في طريقها الى مكة، فارسل الرسول صلى الله عليه
وسلم اثنين من اصحابه لمراقبه عير قريش، ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم الناس للخروج
اليها، وجعل الخروج اختياريا، فخرج معه ثلاثمائه واربعه عشر مسلما، ولم يكن معهم سوى سبعين
جملا وفرسين، فكان كل ثلاثه من المسلمين يتناوبون الركوب على جمل.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمشي على رجليه، ويتناوب الركوب مع ابي لبابة، وعلي
بن ابي طالب على جمل واحد، كل منهم يركبه فتره من الزمن فقالا له: نحن
نمشي عنك، فقال صلى الله عليه وسلم في تواضع عظيم: (ما انتما باقوى مني، ولا
انا باغنى عن الاجر منكما) _[احمد] وكان ابو سفيان رجلا ذكيا، فاخذ يتحسس الاخبار، ويسال
من يلقاه عن المسلمين خوفا على
القافلة، فقابل احد الاعراب يسمى مجدي بن عمرو فساله: هل احسست احدا؟ فقال: اني رايت
راكبين وقفا عند البئر، فراونا ثم انطلقا، فذهب ابو سفيان الى مكانهما، وامسك روثه من
فضلات الابل ففركها في يده، فوجد فيها نوى التمر، وكان اهل المدينه يعلفون ابلهم منه،
فقال ابو سفيان: هذه والله علائف يثرب.
وعلم ان الرجلين من المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في
طريقه اليهم، فغير طريقه بسرعه وفر هاربا بقافلته، وارسل الى قريش يستنجد بهم؛ ليحموه من
المسلمين، ووصل رسول ابي سفيان الى قريش، ووقف على بعيره، واخذ ينادي ويصيح: يا معشر
قريش! اموالكم مع ابي سفيان، قد عرض لها محمد واصحابه، لا ارى ان تدركوها ..
الغوث، الغوث .. وظل الرجل ينادي حتى تجمع الناس، وخرجوا باسلحتهم وعدتهم ليحموا اموالهم.
في الوقت نفسه كان ابو سفيان قد نجا بالقافلة، وارسل الى قريش يخبرهم
بذلك، فرجع بعضهم، وكاد القوم يعودون كلهم؛ لانهم ما خرجوا الا لحمايه قافلتهم، ولكن ابا
جهل دفعه الكبر والطغيان الى التصميم على الحرب، وعزم على ان يقيم هو والمشركون ثلاثه
ايام عند بئر بدر، بعد ان يهزم المسلمين فياكلون الذبائح، ويشربون الخمور، وتغني لهم الجواري
حتى تعلم قبائل العرب قوه قريش، ويهابها الجميع، وهكذا اراد الله -تعالى- ان تنجو القافلة،
وان تقع الحرب بين المسلمين والمشركين.
واصبح المسلمون في موقف حرج؛ لان عددهم اقل من عدد المشركين، وبدا الرسول صلى الله
عليه وسلم يستشير كبار المهاجرين والانصار في امر
القتال، فتكلم المهاجرون كلاما حسنا، ايدوا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم في قتال المشركين،
وقال المقداد بن عمرو: (يا رسول الله، امض لما امرك الله فنحن معك) ولكن النبي
صلى الله عليه وسلم ظل ينظر الى القوم، وهو يقول: اشيروا علي ايها الناس.
ففهم سعد بن معاذ كبير الانصار ان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد راي الانصار،
فقد تكلم المهاجرون، وايدوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقيت كلمه الانصار، فقال سعد بن
معاذ: يا رسول الله، لقد امنا بك، وصدقناك وشهدنا ان ما جئت به هو الحق،
واعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض لما اردت فنحن معك، فوالذي بعثك
بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك. _[ابن اسحاق] فسر النبي صلى الله
عليه وسلم لاتفاق المسلمين على مواجهه الكفار.
وبدا الفريقان يستعدان للمعركة، واول شيء يفكر فيه القاده هو معرفه اخبار العدو، فارسل رسول
الله صلى الله عليه وسلم جماعه من اصحابه؛ عليا وسعدا والزبير الى ماء بدر؛ ليعرفوا
اخبار الكفار، فوجدوا غلامين لقريش، فاخذوهما الى النبي صلى الله عليه وسلم فسالهما عن عدد
قريش، فقالا: لا ندري، فسالهم النبي صلى الله عليه وسلم: كم ينحرون كل يوم من
الابل. فقالا: يوما
تسعا، ويوما عشرا. وكان معروفا عند العرب ان البعير الواحد يكفي مائة
رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (القوم فيما بين التسعمائه والالف)
[ابن اسحاق].
وهكذا يضرب لنا الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا في القيادة
الحكيمة، والتفكير السليم لمعرفه اخبار العدو، ثم قال للغلامين: (فمن فيهم من اشراف قريش؟) فعدا
له اشراف قريش، وسادتها، وكانوا على راس جيش المشركين، فاقبل رسول الله صلى الله عليه
وسلم على الناس، فقال: (هذه مكه قد القت اليكم افلاذ اكبادها) وهكذا عرف الرسول صلى
الله عليه وسلم عدد اعدائه، واسماء كبارهم ايضا، وعلى الجانب الاخر ارسل الكفار رجلا منهم
وهو عمير بن وهب ليعرف عدد المسلمين، ثم عاد فقال: ثلاثمائه رجل، يزيدون قليلا او
ينقصون.
وصل المسلمون الى مكان بئر بدر، فاقاموا عليه، وجعلوه خلفهم حتى يتمكنوا من الشرب دون
الكفار، واشار سعد بن معاذ على النبي صلى الله عليه وسلم ان يتخذ عريشا (مكانا
مظللا) يشرف من خلاله على المعركة، ويقوم بادارتها، فقبل الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا
له بالخير، ونظم الرسول صلى الله عليه وسلم صفوف جيشه تنظيما دقيقا، فجعله كتيبتين؛ واحده
للمهاجرين عليها
علي بن ابي طالب، والاخرى للانصار ولواؤها مع سعد بن معاذ، وجعل ميمنه الجيش مع
الزبير بن العوام، وجعل المقداد بن الاسود قائدا لميسره الجيش، وجعل على قياده مؤخره الجيش
قيس بن صعصعة.
اما القياده العامه للجيش فكانت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، اوصاهم صلى
الله عليه وسلم بالحكمه في استعمال النبال ضد اعدائهم، فلا يضربونهم حتى يكونوا في مرمى
السهام وفي متناول ايديهم، ولا يستخدمون سيوفهم حتى يقتربوا منهم، وتوجه الرسول صلى الله عليه
وسلم الى ربه ورفع يديه في خشوع وضراعه قائلا: (اللهم انجز لي ما وعدتني، اللهم
اني انشدك عهدك
ووعدك) وظل يدعو حتى وقع رداؤه عن كتفه من كثره الدعاء، فاشفق عليه
ابو بكر، وقال له: ابشر يا رسول الله، فوالذي نفسي بيده لينجزن الله لك ما
وعدك. _[متفق عليه].
وخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة، ثم انتبه وقال: (ابشر يا ابا بكر!
اتاك نصر الله، هذا جبريل اخذ بزمام فرسه عليه اداه حرب) فقد ارسل الله ملائكته
تاييدا للمسلمين، فقال تعالى: {فاستجاب لكم اني ممدكم بالف من الملائكه مردفين} [_الانفال: 9].
احداث المعركة:
قبيل القتال وقف الرسول صلى الله عليه وسلم يعظ المسلمين، ويذكرهم بالصبر والثبات والقتال في
سبيل الله، ويبشرهم بجنه الله، وجاء الاسود بن عبد الاسد يهجم على حوض المسلمين، وقد
اقسم ان يشرب منه، فتصدى له حمزه بن
عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم فضربه ضربه شديده على رجله واستمر الرجل
يزحف ويعاند حتى يفي بقسمه، فاسرع حمزه بضربه ضربة
ثانية، سقط بعدها قتيلا الى جانب الحوض.
وبدات المعركه صباح يوم الجمعه السابع عشر من شهر رمضان، العام الثاني للهجرة، وتقدم ثلاثه
من كبار المشركين وهم: عتبه بن ربيعة، واخوه شيبة، وابنه الوليد بن عتبة، فنهض لهم
ثلاثه من الانصار، لكن المشركين ردوهم، وارادوا مبارزه المهاجرين، ثم نادى مناديهم قائلا: يا محمد،
اخرج الينا اكفاءنا
من قومنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا عبيده بن الحارث، وقم
يا حمزة، وقم يا علي .. فوثبوا على اعدائهم كالاسود، وفي لمح البصر قتل حمزه
شيبه بن ربيعة، وقتل علي الوليد بن عتبة، اما عبيده فتبادل الضرب مع عتبه بن
ربيعة، وجرح كل منهما الاخر، فوثب حمزه وعلي على عتبة، فقتلاه وحملا صاحبهما الى المسلمين.
ويظهر تاييد الله -عز وجل- لاوليائه في شهود الملائكه للمعركة، قال تعالى: {اذ يغشيكم النعاس
امنه منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على
قلوبكم ويثبت به الاقدام . اذ يوحي ربك الى الملائكه اني معكم فثبتوا الذين امنوا
سالقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الاعناق واضربوا منهم كل بنان . ذلك
بانهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فان الله شديد العقاب . ذلكم فذوقوه
وان للكافرين عذاب النار} [الانفال:11-14].
راى المشركون ثلاثه من كبارهم قد قتلوا، فغضبوا لانهم اكثر من
المسلمين، وظنوا انهم يستطيعون هزيمتهم بسهولة، فدخلوا في معركه حاميه مع المسلمين، ولكن الكفار كانوا
يتساقطون الواحد بعد الاخر امام المسلمين حتى قتل منهم سبعون، واسر سبعون.
وفي هذه المعركة، التقى الاباء بالابناء، والاخوه بالاخوة، ففصلت بينهم السيوف؛ فابو بكر -رضي الله
عنه- في صف الايمان وابنه عبد الرحمن يقاتل في صفوف المشركين، وكذلك عتبه بن ربيعه
الذي كان اول من قاتل المسلمين من الكفار، فكان ولده ابوحذيفه من خيار اصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم، فلما سحبت جثه عتبه بعد المعركه لترمى في القليب، نظر الرسول
صلى الله عليه وسلم الى ابي حذيفه فاذا هو كئيب قد تغير لونه!! فاستوضح منه
سر
حزنه، وهل هو حزين لمقتل ابيه ام لشيء في نفسه؟ فاخبره ابو حذيفه انه ليس
حزينا لمقتل ابيه في صفوف المشركين، ولكنه كان يتمني ان يرى اباه في صفوف المسلمين
لما يتمتع به من حلم وفضل. [ابن اسحاق].
وحين مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقليب على قتلى قريش، ناداهم باسمائهم واسماء
ابائهم، وقال لهم: (ايسركم انكم اطعتم الله ورسوله؟ فانا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا،
فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟!) فقال عمر: يا رسول الله، ما تكلم من اجساد
لا ارواح لها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده، ما
انتم باسمع لما اقول منهم). _[البخاري].
وعاد المسلمون الى المدينة، وقد نصرهم الله -تعالى- على عدوهم في اولى المعارك التي خاضوها،
وهاهم اولاء يجرون معهم سبعين اسيرا من المشركين بعد ان قتلوا سبعين مثلهم، وفي الطريق
قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنين من اكابر المجرمين الموجودين في الاسرى؛ وهما
النضر بن الحارث، وعقبه بن ابي معيط لانهما طغيا واذيا المسلمين ايذاء شديدا، اما باقي
الاسرى فتشاور الرسول
صلى الله عليه وسلم مع الصحابه في امرهم هل يقتلونهم ام يقبلون الفديه ويطلقونهم؟ فاشار
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ان يقتلوهم، واشار ابو بكر -رضي الله عنه- ان
يطلقوا سراحهم مقابل فديه (مبلغ من المال) تكون عونا للمسلمين على قضاء حوائجهم، واخذ الرسول
صلى الله عليه وسلم
براي ابي بكر.
ولكن القران الكريم نزل يؤيد راي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال الله تعالى:
{ما كان لنبي ان يكون له اسرى حتى يثخن في الارض تريدون عرض الدنيا والله
يريد الاخره والله عزيز حكيم . لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما اخذتم عذاب
عظيم} [الانفال: 67-68].
* مواقف ايمانيه من غزوه بدر:
كان للصحابه مواقف ايمانيه رائعه اثناء غزوه بدر؛ فقد اختفى عمير بن ابي وقاص خلف
المقاتلين المسلمين قبل المعركه حتى لا يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرده لانه
صغير، وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعرض جنوده راه، فاستصغره وامره ان يرجع،
ولكن عميرا كان حريصا على الاشتراك في المعركة؛ لانه يحب الموت في سبيل الله، فبكى
عمير، فلما راه الرسول صلى الله عليه وسلم يبكي تركه، فمات شهيدا، وهو ابن سته
عشر عاما.
وجاء فتيان من الانصار يسالان عبد الرحمن بن عوف عن مكان ابي جهل، فقد علما
انه كان يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدلهما على مكانه واذا بهما يسرعان
اليه، ويضربانه بالسيف حتى قتلاه، وهذان البطلان هما معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن
عفراء. _[متفق عليه] ومر مصعب بن عمير باخيه المشرك ابي عزيز بن عمير الذي وقع
في اسر المسلمين، واحد الانصار يقيد يديه، فقال للانصاري: شد يدك به، فان امه ذات
متاع لعلها تفديه منك، فقال ابو عزيز: اهذه وصاتك باخيك؟ فقال مصعب :انه -يقصد الانصاري-
اخي دونك.
وقد ضرب المسلمون اروع الامثله في التضحيه والفداء، فعندما سمع عمير بن الحمام الانصاري قول
الرسول صلى الله عليه وسلم: (قوموا الى جنه عرضها السماوات والارض) قال: يا رسول الله،
جنه عرضها السماوات والارض؟ قال: نعم .. فقال: بخ .. بخ، قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (وما يحملك على قول بخ .. بخ؟) قال: لا والله يا رسول
الله، الا رجاء ان اكون من اهلها، قال: (فانك من اهلها) فاخرج تمرات، واخذ ياكلها،
ثم قال: لئن حييت حتى اكل تمراتي هذه، انها لحياه طويلة، فرمى ما كان معه
من التمر، ثم قاتل المشركين حتى قتل. _[مسلم].
وقاتل عكاشه بن محصن يوم بدر بسيفه حتى انكسر في يده من شدة
القتال، فاتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعطاه عود حطب فقال: (قاتل بهذا يا
عكاشة) فلما اخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم هزه، فعاد سيفا في يده
طويل القامة، شديد المتن، ابيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين، وهكذا كتب
الله تعالى للمسلمين النصر، فحق لهم ان يسعدوا ويستبشروا، واوجب على المشركين الهزيمة، فحل بهم
الخزي والعار.
وقد قويت دوله المسلمين بهذا النصر الذي حققوه بقوه الايمان، ثم بحسن التخطيط رغم انهم
كانوا اقل من عدوهم في العدد والعدة، قال تعالى: {ولقد نصركم الله ببدر وانتم اذله
فاتقوا الله لعلكم تشكرون} _[ال عمران: 123].
حاله قريش بعد بدر:
امتلات مكه بالغيظ والحزن، فقد هزمهم المسلمون، وقتلوا اشرافهم، ولم تكن قريش تتوقع ان تنال
مثل هذه الهزيمه من المسلمين، فهذا ابو لهب -ولم يشهد بدرا- يرى ابا سفيان بن
الحارث قادما فيسرع اليه ويقول له -وهو يريد ان يفهم كيف هزم المسلمون قومه وهم
اكثر منهم-: يابن اخي! اخبرني كيف كان امر الناس؟
فقال ابو سفيان: والله ما هو الا ان لقينا القوم، فمنحناهم اكتافنا يقودوننا كيف شاءوا،
وياسروننا كيف شاءوا، وايم الله (يمين الله) مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا،
على خيل بلق (لونها بياض وسواد) بين السماء والارض، فقال رافع مولى العباس بن عبد
المطلب -وكان مسلما يكتم اسلامه-: تلك والله
الملائكة، فاذا بالغيظ يملا وجه ابي لهب، فرفع يده وضرب ابا رافع على وجهه ثم
حمله وضرب به الارض، ثم برك عليه يضربه، فقامت ام الفضل -زوجة
العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم- الى عمود من عمد الحجرة، فاخذته فضربت به
ابا لهب ضربه اصابته في راسه، وقالت: استضعفته ان غاب عنه سيده، فقام ابو لهب
موليا ذليلا، وما عاش بعد ذلك الا سبع ليال حتى اصابه الله بمرض خطير فقتله.
مؤامره عند الكعبة:
وعند احد اركان الكعبة، كان يجلس اثنان من كبار المشركين هما: صفوان بن امية، وعمير
بن وهب يتذكران قتلاهما في بدر، واسراهما في المدينة، فاتفقا ان يذهب عمير بن وهب
الى المدينه متظاهرا بفداء ابنه الاسير وهب، ثم يضرب الرسول صلى الله عليه وسلم بالسيف
فيقتله ويثار للكفار منه، ووعده صفوان بن اميه برعايه ابنائه وزوجته من بعده اذا اصابه
مكروه.
وعندما وصل المدينه راه عمر متوشحا سيفه فقال: هذا عدو الله عمير بن وهب والله
ما جاء الا لشر، ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
يا نبي الله، هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه، قال: فادخله
علي، فاقبل عمر فامسكه وقيده وامسك سيفه، وقال لرجال من الانصار: ادخلوا على رسول الله
صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث فانه غير مامون، ثم
دخل به على رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فلما راه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر اخذ سيفه في عنقه قال:
(ارسله يا عمر، ادن يا عمير).
فدنا ثم قال: انعموا صباحا -وهي تحيه اهل الجاهلية- فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (قد اكرمنا الله بتحيه خير من تحيتك يا عمير، تحيه اهل الجنة)..
فقال: اما والله يا محمد ان كنت بها لحديث عهد. قال: (فما جاء بك يا
عمير؟)
قال: جئت لهذا الاسير الذي في ايديكم، فاحسنوا فيه.
فقال صلى الله عليه وسلم: (فما بال السيف في عنقك؟)
قال عمير: قبحها الله من سيوف وهل اغنت عنا شيئا؟
قال صلى الله عليه وسلم: (اصدقني، ما الذي جئت له؟)
قال: ما جئت الا لذلك.
قال صلى الله عليه وسلم: (بل قعدت انت وصفوان بن اميه في الحجر، فذكرتما اصحاب
القليب من قريش (قتلاهم في بدر) ثم قلت: لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى
اقتل محمدا، فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك، على ان تقتلني له، والله حائل بينك وبين
ذلك).
قال عمير: اشهد انك رسول الله، وقد كنا نكذبك بما كنت تاتينا به من خبر
السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا امر لم يحضره الا انا وصفوان، فوالله لاعلم
ما اتاك به الا الله، فالحمد لله الذي هداني للاسلام وساقني
هذا المساق، وشهد عمير شهاده الحق ودخل في دين الاسلام، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (فقهوا اخاكم في دينه واقرئوه شيئا من القران، واطلقوا له اسيره). ففعلوا.
ثم قال عمير: يا رسول الله، اني كنت جاهدا على اطفاء نور الله، شديد الاذى
لمن كان على دين الله عز وجل، وانا احب ان تاذن لي فاقدم مكه فادعوهم
الى الله تعالى والى رسول الله صلى الله عليه وسلم والى الاسلام، لعل الله يهديهم
والا اذيتهم في دينهم، كما كنت اوذي اصحابك في دينهم. فاذن له رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فذهب الى مكة، وكان صفوان بن اميه حين خرج عمير بن وهب
يقول: ابشروا بوقعه تاتيكم الان في ايام تنسيكم وقعه بدر، وكان صفوان يسال الركبان عن
عمير، حتى قدم رجل فاخبره باسلامه، فحلف الا يكلمه ابدا، ولما قدم عمير مكه اقام
بها يدعو الى الاسلام، ويؤذي من خالفه اذى شديدا، فاسلم على يديه كثيرون. _[ابن اسحاق].
غزوه بني سليم (غزوه الكدر):
حشد بنو سليم جنودهم، واستعدوا لغزو المدينه وحرب المسلمين بعدما راوا هزيمه قريش في بدر،
فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فلم ينتظر حتى ياتوا المدينه بل قام
بمهاجمتهم هجوما مفاجئا ادخل الرعب في قلوبهم فهربوا من هول المفاجاة، وتركوا خمسمائه بعير استولى
عليها المسلمون، واقاموا في ديار هذه القبائل ثلاثه ايام، ولم يكتف الرسول صلى الله عليه
وسلم بذلك، ولكن بعد ما قدم المدينه ارسل غالب بن عبد الله في سريه الى
بني سليم وغطفان فقاتلوهم، وانتصر المسلمون وغنموا مغانم كثيرة.
الجزء (17) : اليهود ونقض العهد ؟؟
لم يحترم اليهود عهودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم فحاولوا اشعال الفتنه بين صفوف
المسلمين، فهذا شاس بن قيس اليهودي ارسل فتى من فتيان اليهود يذكر الانصار بما كان
بينهم في الجاهلية، ففعل الفتى حتى كادوا ان يتقاتلوا، فخرج اليهم النبي صلى الله عليه
وسلم، ونهاهم عن العوده الى الجاهلية، وذكرهم بالاسلام والحب الذي ربط الله به قلوبهم، فعادوا
الى رشدهم وصوابهم.
ولما نصر الله رسوله والمسلمين على المشركين في غزوه بدر حسدتهم اليهود على ما انعم
الله تعالى به عليهم، فقال فنحاص اليهودي: لا يغرن محمدا ان غلب قريشا وقتلهم، ان
قريشا لا تحسن القتال، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله جمع
اليهود في سوق بني قينقاع وحذرهم من الغدر ودعاهم الى الاسلام، وذكرهم بما عندهم من
العلم برسالته ونبوته فقال لهم: (احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، واسلموا
فانكم قد عرفتم اني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله اليكم) فقالوا: يا
محمد انك ترى انا كقومك؟ لا يغرنك انك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فاصبت
فرصة، اما والله لئن حاربتنا لتعلمن انا نحن الناس.
فانزل الله -سبحانه- على نبيه من القران ما يجيبهم به ويرد عليهم ما قالوا وما
بغوا، فقال تعالى: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون الى جهنم وبئس
المهاد . قد كان لكم ايه في فئتين التقتا فئه تقاتل في سبيل الله واخرى
كافره يرونهم مثليهم راي العين والله يؤيد بنصره من يشاء ان في ذلك لعبره لاولي
الابصار} [ال عمران: 12-13].
ان كلام اليهود هذا تهديد واضح للرسول صلى الله عليه وسلم بالحرب، وتاكيد لنقضهم للمعاهده
التي بينهم وبينه، ومع ذلك فقد صبر عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنهم اصروا
على نقضهم للعهد.
طرد يهود بني قينقاع من المدينة:
ذات يوم ذهبت امراه مسلمه الى سوق بني قينقاع لبيع ذهب معها، فاحتال عليها اليهود
لتكشف وجهها فابت، فاخذ الصائغ طرف ثوبها، وربطه الى
ظهرها -وهي لا تعلم- فلما قامت انكشفت عورتها، واخذوا يضحكون
منها، فصاحت المراه تستغيث بعد ان طعنت في كرامتها، فوثب رجل مسلم على اليهودي الذي
اهان المراه فقتله، فقام اليهود بقتل ذلك المسلم، فكان شهيدا في سبيل الله، فقامت الحرب
بين المسلمين واليهود بسبب غدرهم ووقاحتهم وسوء ادبهم. _[الواقدي].
فلما علم بنو قينقاع بقدوم المسلمين فروا الى حصونهم واختبئوا فيها؛ فحاصرهم المسلمون وحبسوهم في
حصونهم، واستمر هذا الحصار خمسه عشر يوما، بعدها اضطر اليهود الى ان يفتحوا الحصون ويستسلموا
رعبا وخوفا من المسلمين، فجاء عبد الله بن ابي بن سلول، وقال: (يا محمد احسن
في موالي (حلفائي) وظل
ابن سلول يتشفع لهم عند الرسول حتى اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بطردهم من
المدينة، فخرجوا تاركين وراءهم اموالهم غنيمه للمسلمين، وذهبوا الى بلده تسمي اذرعات في الشام، وهناك
سلط الله عليهم وباء مات فيه اغلبهم.
قتل كعب بن الاشرف اليهودي:
بقيت في المدينه طائفتان كبيرتان من اليهود: بنو النضير، وبنو قريظة، وما زالوا يعادون المسلمين
رغم العهد الذي قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم
معهم، فهذا رجل من اغنيائهم اسمه كعب بن الاشرف، لم يكتف بالحزن على قتلى الكفار
في بدر، بل ذهب الى مكه وعزاهم، واخذ يرثي قتلاهم بشعره ويشعل نار الثار في
قلوبهم كي يحاربوا المسلمين، ولم يكتف بهذا، فقد تطاول بايذاء المسلمين مباشره فاخذ يهجو رسول
الله صلى الله عليه وسلم
والصحابه -رضي الله عنهم- ويقع في اعراضهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لكعب بن الاشرف؛ فانه قد اذى الله
ورسوله؟) فقام محمد بن مسلمه فقال: يا رسول الله، اتحب ان اقتله؟ قال: (نعم) قال:
فاذن لي ان اقول شيئا (اي يعيب الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين حتى يطمئن
اليه كعب) قال صلى الله عليه وسلم: (قل) فذهب محمد بن مسلمه الى كعب بن
الاشرف اليهودي، فقال له: ان هذا الرجل قد سالنا صدقه (اي مالا) وانه قد عنانا
(اتعبنا) واني قد اتيتك استسلفك (اي اطلب منك مالا) قال كعب: وايضا والله لتملنه (يصيبكم
الملل من صحبه محمد) قال محمد بن مسلمة: انا قد اتبعناه، فلا نحب ان ندعه
(نتركه) ننظر الى اي شيء يصير شانه، وقد اردنا ان تسلفنا وسقا او وسقين (الوسق:
كيل معلوم) فقال: نعم ارهنوني.
قالوا: اي شيء تريد؟ قال: ارهنوني نساءكم، قالوا: كيف نرهنك نساءنا وانت اجمل العرب، قال:
فارهنوني ابناءكم؟ قالوا: كيف نرهنك ابناءنا فيسب احدهم فيقال: رهن بوسق او وسقين؟ هذا عار
علينا، ولكنا نرهنك اللامه (السلاح) فواعده ان ياتيه، فجاءه ليلا ومعه ابو نائله -وهو اخو
كعب من
الرضاعة- فدعاهم الى الحصن، فنزل اليهم فقالت له امراته: اين المخرج هذه الساعة؟ قال: انما
هو محمد بن مسلمه ورضيعي ابو نائلة، فنزل اليهم وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال
ابو نائلة: ما اريت كاليوم ريحا اطيب، اتاذن لي ان اشم راسك؟ قال: نعم، فلما
استمكن منه قال: دونكم فاقتلوه، فقتلوه، ثم اتوا النبي صلى الله عليه وسلم فاخبروه. [الترمذي].
الجزء (18) : غزوه السويق ..
بينما كفار مكه يعيشون في حزن وغم لما اصابهم في غزوه بدر التي لم تترك
لهم كرامه ولا كبرياء بين قبائل العرب، قام ابو سفيان من بينهم واقسم ان يغزو
المدينة، وخرج ابو سفيان ومعه مائتان من الفرسان، فدخلوا المدينه في الليل كاللصوص، وذهب ابو
سفيان الى سلام بن مشكم سيد يهود بني
النضير، فاستقبله احسن استقبال، وعرفه اخبار المسلمين، فقام ابو سفيان ومن معه بحرق عدد من
نخيل الانصار، وقتلوا رجلين من الانصار في ارضهما، وفروا هاربين.
وعندما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بامرهم اسرع لمطاردتهم، ولكنهم فروا، واخذوا يرمون ما
معهم من طعام لتخف احمالهم، حتى ينجوا من ايدي المسلمين، وسميت هذه الغزوه ب (غزوه
السويق) نسبه لما كان يلقيه المشركون من الطعام.
سريه زيد بن حارثة:
في شهر جمادى الاخره من العام الثالث من الهجرة، كان اهل مكه في حيره شديده
فهم يريدون ارسال القافله التجاريه الى الشام، ولكن كيف والمسلمون يقفون في الطريق بحذاء البحر
الاحمر وها هي ذي القبائل المحيطه بالمدينه قد سالمت الرسول صلى الله عليه وسلم ولن
تدع قريشا تمر بسلام، فما العمل؟
اقترح الاسود بن عبد المطلب ان تسير القافله في صحراء نجد بوسط الحجاز ومنها الى
العراق ثم الشام، فهو طريق طويل بعيد جدا عن المسلمين، ولما علم الرسول صلى الله
عليه وسلم نبا تلك القافله امر زيد بن حارثه بالخروج في مائه راكب من المسلمين
لمهاجمتهم، فخرجوا وفاجئوا المشركين واستولوا على القافله كاملة، واصبح الكفار بين امرين لا ثالث لهما:
اما مهادنه المسلمين حتى لا يقطعوا طرق تجارتهم الى الشام، واما الدخول في حرب شامله
ضد المسلمين، للقضاء عليهم واختار المشركون الامر الثاني وهو الحرب الشاملة..
الجزء (19) : غزوه احد ..
خرج مشركو قريش من غزوه بدر وقد وهنت قواهم؛ حيث فرق المسلمون شملهم، وقتلوا اشرافهم،
واضعفوا شوكتهم بين قبائل الجزيره العربية، فكان لابد لهم من الثار، ورد الهزيمه على المسلمين،
وكسر شوكتهم، فجمع ابو سفيان ثلاثه الاف مقاتل من قريش وكنانه والاحابيش (حلفاء قريش) وخرجت
معهم النساء ليشجعن الرجال على القتال، ومن بينهن هند بنت عتبه زوجه ابي سفيان، وكان
قلبها يشتعل بنار الالم لمقتل ابيها واخيها في غزوه بدر، ونظم الكفار جيشهم فجعلوا قياده
الجيش لابي سفيان، وقياده الفرسان لخالد بن الوليد، ومعه عكرمه بن ابي جهل.
وتوجه الجيش الى المدينة، وعلم المسلمون بتحرك المشركين وقدومهم اليهم فحملوا اسلحتهم، والتفوا حول نبيهم،
وظلوا حارسين لمدينتهم ليل نهار، واذا بالرسول صلى الله عليه وسلم يجمع اصحابه، ويستشيرهم في
الامر، فراى بعضهم الا يخرج المسلمون من المدينة، وان يتحصنوا فيها، فاذا دخلها المشركون قاتلهم
المسلمون في الطرقات وحصدوهم حصدا، فهم اعلم بمسالك مدينتهم وراى البعض الاخر -وخاصه الذين لم
يشهدوا القتال يوم بدر- ان يخرجوا لملاقاه المشركين خارج المدينة.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم من اصحاب الراي الاول، ومع ذلك وافق على الراي
الثاني؛ لان اصحاب هذا الراي الحوا عليه، ولم يكن الوحي قد نزل بامر محدد في
هذا الشان، ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم بيته ولبس ملابس الحرب، وخرج الى الناس،
وشعر الصحابه الذين اشاروا على الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج بانهم اكرهوه على ذلك،
فقالوا له: استكرهناك يا رسول الله، ولم يكن لنا ذلك، فان شئت فاقعد (اي: ان
شئت عدم الخروج فلا تخرج) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ينبغي لنبي
اذا لبس لامته (اي درعه) ان يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه) _[احمد].
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينه في الف من اصحابه، في شوال
سنه ثلاث من الهجرة، حتى اذا كانوا بين المدينه واحد، رجع عبد الله بن ابي
بن سلول بثلث الجيش، وتبعهم عبد الله بن حرام يناشدهم الله ان يرجعوا، ولا يخذلوا
نبيهم، وينصحهم بالثبات، ويذكرهم بواجب الدفاع عن المدينه ضد المغيرين، ولكن الايمان بالله ورسوله واليوم
الاخر لم يكن ثابتا في قلوبهم، ولذلك لم يستجيبوا له، وقال ابن سلول: لو نعلم
قتالا لاتبعناكم، فنزل فيهم قوله تعالى: {وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل
الله او ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ للايمان} [ال عمران: 167].
واختلف المسلمون في امر هؤلاء المنافقين، ففرقه منهم تقول نقاتلهم، واخرى تقول دعوهم، فنزل قوله
تعالى: {فما لكم في المنافقين فئتين والله اركسهم بما كسبوا اتريدون ان تهدوا من اضل
الله} [النساء: 88] وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد اعطى اللواء مصعب بن عمير،
واستعرض النبي صلى الله عليه وسلم الجيش يومئذ، فرد الصغار الذين لا يقدرون على القتال،
وكان منهم يومئذ: عبد الله بن عمر، واسامه بن زيد، والبراء بن عازب، وزيد بن
ارقم وعمرو بن حزم.
وهذا رافع بن خديج عمره خمس عشره سنه يريد ان يشارك في المعركة، فيلبس خفين
في قدميه ليبدو طويلا، فلا يرده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوسط له عمه
ظهير، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم انه يجيد الرماية، فقبله وعندئذ قال سمره
بن جندب: اجاز الرسول صلى الله عليه وسلم رافعا وردني وانا اقوى، واصرع رافعا واغلبه،
فامره الرسول صلى الله عليه وسلم ان يصارعه، فغلب سمره رافعا، فقبله الرسول صلى الله
عليه وسلم، وهكذا كان الفتى المسلم الصغير يحرص على التضحيه بروحه من اجل دينه والدفاع
عنه.
واقترح بعض الصحابه الاستعانه باليهود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نستنصر باهل
الشرك على اهل الشرك) _[ابن سعد] وعسكر المسلمون في شعب في جبل احد، وجعلوا الجبل
خلف ظهورهم، واختار الرسول صلى الله عليه وسلم خمسين رجلا يحسنون الرماية، وجعل عبد الله
بن جبير قائدا عليهم وقال لهم: (لا تبرحوا (لا تتركوا) مكانكم؛ ان رايتمونا ظهرنا عليهم
(انتصرنا) فلا تبرحوا، وان رايتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا) _[البخاري].
وهكذا اغلق الباب امام التفاف الاعداء حول جيشه، وحمى يمينه بالجبال، وفي صباح يوم السبت
السابع من شهر شوال من السنه الثالثه للهجرة، بدات المعركه وانقض المسلمون على المشركين، فقتلوا
حمله لواء المشركين، فكانوا يسقطون واحدا بعد الاخر حتى سقط اللواء ولم يجد من يحمله،
وكان الفارس الشجاع حمزه بن عبد المطلب -عم النبي صلى الله عليه وسلم- ينقض بسيفه
على المشركين، فيطيح بهم، وكان وحشي بن حرب ينظر الى حمزه من بعيد ويتبعه حيث
كان، ذلك لان سيده جبير بن مطعم بن عدي الذي قتل عمه
طعيمه بن عدي يوم بدر قال له: اخرج مع الناس، فان انت قتلت حمزه عم
محمد بعمي، فانت عتيق (حر).
وكان وحشي عبدا حبشيا يقذف بالحربه بمهاره شديدة، فقلما يخطئ بها
شيئا، فاقترب وحشي من حمزة، ورماه بالحربه فاصابته، لكن حمزه لم
يستسلم، بل توجه الى وحشي ودمه ينزف بغزارة، فلم يستطع الوقوف على قدميه، فوقع شهيدا
في سبيل الله، وسيطر المسلمون على المعركة، واكثروا القتل والاسر في جنود المشركين، وحاول المشركون
الفرار، فذهب المسلمون
وراءهم، فكان المشركون يتركون متاعهم وسلاحهم لينجوا من القتل.
وكان الرماه على الجبل يشاهدون المعركة، فظنوا انها قد انتهت بانتصار المسلمين؛ فتركوا اماكنهم، ونزلوا
من فوق الجبل ليشاركوا في جمع الغنائم فتركوا ظهر المسلمين مكشوفا لعدوهم، فانتهز خالد بن
الوليد قائد فرسان المشركين فرصه الخطا الذي وقع فيه رماه المسلمين، فاستدار وجاء من خلف
الجيش، وقتل من بقى من الرماه ،فاختل نظام المسلمين وارتبكوا، ونجح المشركون في قتل كثيرين
منهم.
كل هذا البلاء لان بعض الرماه خالفوا امر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبدل
الحال، وركز المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه ولكنه صلى الله عليه
وسلم ثبت لهم، واخذ يدافع عن نفسه، وحوله بعض الصحابه مثل: طلحه بن عبيد الله،
وسعد بن ابي وقاص -رضي الله عنهما-.
وكانت المراه الانصاريه الشجاعه نسيبه بنت كعب تدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم كالرجال،
حتى نجي الله رسوله صلى الله عليه وسلم من الموت، ولكنه تعرض لاصابات كثيره في
ركبته، ووجهه، واسنانه، وسال الدم على وجهه الشريف، فاخذ يمسح الدم وهو يقول: (كيف يفلح
قوم خضبوا وجه نبيهم (غيروا لونه للاحمرار من كثره الدم) وهو يدعوهم الى ربهم) _[احمد].
وعندما فشل المشركون في قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم اشاعوا ان محمدا قتل،
لكي يؤثروا في عزيمه المسلمين، ويثيروا الذعر بينهم، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم
نادى اصحابه: (هلم الى عباد الله) فاجتمع حوله عدد من اصحابه، وارتفعت روحهم المعنوية، وظل
النبي صلى الله عليه وسلم ومن ثبت معه في ارض المعركة، بل قاتلوا حتى اللحظه
الاخيرة، الى ان اكتفت قريش بما حققت وانصرفوا بعد انتهاء المعركة.
ولما انقضت الحرب، صعد ابو سفيان على مكان مرتفع، ونادى في المسلمين: افيكم محمد؟ فلم
يرد عليه احد، فقال: افيكم ابو بكر؟ فلم يرد عليه احد، فقال: افيكم عمر بن
الخطاب؟ فلم يرد عليه احد، فقال: اما هؤلاء فقد قتلوا، فلم يتمالك عمر نفسه، فرد
عليه قائلا: يا عدو الله، ان الذين ذكرتهم احياء، وقد ابقي الله لك ما يسوءك،
ثم قال ابو سفيان اعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الا تجيبونه؟) قالوا:
ما نقول؟ قال صلى الله عيه وسلم: (قولوا الله اعلى واجل) ثم قال ابو سفيان:
لنا العزى ولا عزى لكم، فقال صلى الله عليه وسلم: (الا تجيبونه؟) فقالوا: ما نقول؟
قال صلى الله عليه وسلم: (قولوا الله مولانا ولا مولى لكم) _[البخاري].
وعاد المشركون الى بلدهم، وقد انتشرت في ساحه القتال جثث شهداء المسلمين وقتلى الكفار، وقد
ارتوت الرمال بدماء الشهداء الطاهره التي اريقت من اجل الاسلام، فياله من مشهد حزين!! سبعون
شهيدا من المسلمين، واثنان وعشرون قتيلا من المشركين، وحزن المسلمون حزنا شديدا على شهدائهم، ووقف
رسول الله صلى الله عليه وسلم حزينا ينظر الى جثه عمه حمزه -رضي الله عنه-
وقد مثل به الاعداء، فاقسم ليمثلن بسبعين من الكفار ان نصره الله عليهم بعد
ذلك، فنزل قول الله تعالى: {وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو
خير للصابرين} [النحل:126].
* صور بطوليه من المعركة:
تجلت صور رائعه من البطوله والشجاعه والايمان لرجال ونساء المسلمين في غزوه احد، وكذلك حدثت
بعض المعجزات، لتكون عظه وذكرى وتبصرة
للمؤمنين، فهذا ابي بن خلف يقبل على النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد حلف
ان يقتله، وايقن ان الفرصه قد حانت، فجاء يقول: يا كذاب، اين تفر؟ وحمل على
الرسول صلى الله عليه وسلم بسيفه، فقال صلى الله عليه وسلم: (بل انا قاتله ان
شاء الله) وطعنه صلى الله عليه وسلم طعنه وقع منها، فما لبث ان مات. [البيهقي].
ويمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيفه قبل بدء المعركه ويقول: (من ياخذ هذا
السيف بحقه؟) فتاخر القوم، فقال ابو دجانة: وما حقه يا رسول الله؟ فقال صلى الله
عليه وسلم: (ان تضرب به في العدو حتى ينحني) فقال ابو دجانة: انا اخذه بحقه،
فاعطاه اياه. [مسلم] وكان ابو دجانه رجلا شجاعا يختال عند الحرب، وكانت له عصابه حمراء
اذا اعتصب بها فانه يقاتل حتى الموت، فاخذ
ابو دجانه السيف وهو يقول:
انا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدي النخيل
الا اقوم الدهر في الكيول اضرب بسيف الله والرسول
والكيول هي مؤخره الصفوف، فكانه يقول: لن اكون ابدا الا في المقدمه ما دمت احمل
هذا السيف.
واخذ (ابو دجانة) يضرب المشركين بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، واثناء المعركه راي
ابو دجانه ان الرسول صلى الله عليه وسلم قد اصبح هدفا لنبال المشركين بعد ان
فر المسلمون، فاسرع ابو دجانه واحتضن الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار النبل يقع على
ظهر ابي دجانه وهو منحن على جسم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى انتهت المعركة.
[احمد].
ومر (انس بن النضر) -رضي الله عنه- على بعض الصحابه فوجدهم لا
يقاتلون، وعندما سالهم عن سبب امتناعهم عن القتال، قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقال انس: ما تصنعون بالحياه بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ثم توجه الى الله تعالى وقال: (اللهم اني اعتذر اليك مما
صنع هؤلاء (المسلمون الفارون) وابرا اليك مما صنع هؤلاء اي (المشركون المعتدون) وظل انس يقاتل
حتى قتل، فوجدوا في جسده بضعا وثمانين جرحا ما بين طعنه برمح او ضربه بسيف
او رميه بسهم، فما عرفه احد الا اخته بعلامه كانت تعرفها في اصبعه.
وهذا غسيل الملائكه (حنظله بن ابي عامر) الذي تزوج جميله بنت عبد الله بن ابي
بن سلول، وفي اليوم التالي لزواجه يسمع نداء القتال، فيخرج وهو جنب ملبيا النداء، ويقاتل
في سبيل الله حتى يقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان صاحبكم تغسله
الملائكة). _[ابن اسحاق].
وهذا (قتاده بن النعمان) اصيبت عينه، ووقعت على خده، فاتى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فاخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عينه بيده، وردها الى موضعها، وقال: (اللهم
اكسبه جمالا) فكانت احسن عينيه، واحدهما نظرا وكانت لا ترمد اذا رمدت الاخرى. _[الدارقطني والبيهقي].
وليست النساء اقل بطوله من الرجال، فهذه (صفيه بنت عبد المطلب) لما رات المسلمين قد
انهزموا، وفر بعضهم من ميدان المعركة، امسكت رمحا تضرب به من فر من المسلمين، وتحثه
على العوده الى القتال، ولما علمت بمقتل اخيها حمزه ذهبت لتنظر اليه، فلقيها الزبير: فقال:
اي امه، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم يامرك ان ترجعي، قالت: ولم؟ وقد
بلغني انه قد مثل باخي، وذلك في الله، لاصبرن، واحتسبن ان شاء الله.
فلما جاء الزبير الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، اخبره بذلك، قال: (خلوا سبيلها)
فنظرت اليه، فصلت عليه، واسترجعت واستغفرت له. [ابن اسحاق] ومر رسول الله صلى الله عليه
وسلم بامراه من بني دينار، وقد اصيب زوجها واخوها، وابوها مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم فلما ذكروا لها ما حدث لاخيها ولابيها ولزوجها قالت: فما فعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: ارونيه حتى انظر
اليه، فاشاروا اليه، حتى اذا راته قالت: كل مصيبه بعدك جلل (صغيرة)!!
وهكذا يسمو حب المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم فوق كل حب، انه حب يعلو
فوق حب الاباء والابناء والازواج.
الجزء (20) : غزوه حمراء الاسد ..
وفي اليوم التالي لغزوه احد، امر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالخروج لقتال
الكفار وتتبعهم، وقال: (لا يخرج معنا الا من شهد القتال) فاسرع المسلمون، واطاعوا رسولهم صلى
الله عليه وسلم، رغم ما بهم من الام وجراح وخرجوا للقتال استجابه لنداء الرسول صلى
الله عليه وسلم، فلقد تعلموا ان الخير كله في طاعته، فمدحهم الله بهذه الطاعه فقال
تعالى: {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما اصابهم القرح للذين احسنوا منهم واتقوا اجر
عظيم}
[ال عمران: 172].
وفي حمراء الاسد على مسافه عده اميال من المدينه وقف المسلمون ينتظرون جيش المشركين فمر
بهم رجل من قبيله خزاعه التي كانت تحب الرسول صلى الله عليه وسلم يسمى معبد
بن ابي معبد، وكان يومئذ مشركا، فواسى الرسول
صلى الله عليه وسلم فيما حدث للمسلمين، وكان المشركون قد نزلوا في مكان يسمى الروحاء،
وبعد ان استراح الجيش بدءوا يفكرون في العوده الى المدينة.
وارسل ابو سفيان رساله يهدد فيها المسلمين في حمراء الاسد ليرعبهم، يزعم فيها انه قادم
للقضاء عليهم، فما زاد ذلك المسلمين الا قوه وايمانا، فقال عنهم الله تعالى: {الذين قال
لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل
. فانقلبوا بنعمه من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل
عظيم} [ال عمران: 173-174].
ووصلت الاخبار الى ابي سفيان ان النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينه لمطارده
المشركين، وتاكدت الاخبار عندما وصل معبد واكد لابي سفيان ان النبي صلى الله عليه وسلم
خرج لمطاردتهم وقد نزل بجيشه في حمراء الاسد فخاف ابو سفيان وفضل الانسحاب الى مكة،
واقام المسلمون في حمراء الاسد ثلاثه ايام ينتظرون قريشا، ثم عادوا الى المدينه بعدما اطاعوا
نبيهم، وارعبوا عدوهم واستعادوا الثقه بانفسهم.يتبع..