دعاء خطبه الجمعه مكتوبة
الحمد لله المتوحد في الجلال بكمال الجمال تعظيما وتكبيرا، المتفرد بتصريف الاحوال على التفصيل والاجمال
تقديرا وتدبيرا، المتعالي بعظمته ومجده الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، واشهد ان
لا اله الا الله وحده لا شريك له، واشهد ان محمدا عبد الله ورسوله ارسله
الله الى الثقلين الانس والجن بشيرا ونذيرا، وداعيا الى الله باذنه وسراجا منيرا، فصلوات الله
وسلامه عليه، وعلى ال بيته الطيبين الطاهرين، وعلى ازواجه امهات المؤمنين، وعلى اصحابه والتابعين ومن
تبعهم باحسان الى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
اما بعد:
فان الوصيه المبذوله لي ولكم – عباد الله – هي تقوى الله – سبحانه -،
تقوى الله في الغيب والشهادة، والغضب والرضا، والمنشط والمكره، (( ومن يطع الله ورسوله ويخش
الله ويتقه فاولئك هم الفائزون )) [النور: 52].
عباد الله:
صفاء السر والعلانيه خصله يعيي الكثيرين طلابها، وهكذا هي الاشياء النفيسه يعز وجودها، ويرتفع ثمنها،
ومن اراد ان يفتش عن مثل هذا المعدن النفيس في زمن كثرت فيه الاثرة، واحضرت
الانفس الشح؛ فانه سيفتح عينه حين يفتحها على كثير، ولكن لا يرى احدا الا من
رحم الله، وقليل ما هم.
ان صور المظهر ينبغي ان تكون ترجمه صادقه لحقيقه المخبر؛ لان الظاهر لا قيمه لها
اذا كانت ستارا لبواطن معيبة، فان الماء قد يكدر طعمه وان كان لونه ابيض صافيا.
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «ان الله لا ينظر الى اجسامكم
ولا الى صوركم، ولكن ينظر الى قلوبكم واعمالكم»؛ رواه مسلم.
ان امتنا احوج ما تكون في ازمنه الشح واعجاب كل ذي راي برايه الى الالفة،
واعتذار بعضهم لبعض، وغض الطرف عما يمكن غض الطرف عنه، مما سببه الاجتهاد المقبول شرعا،
اذا كان مرجوحا، او الخطا ان كان مبنيا على اجتهاد سائغ حسب الاستطاعة.
فينبغي الا يغيب عنا كرم جلال الله – جل وعلا -، حينما يمنح المجتهد المخطئ
اجر الاجتهاد، ويغفر له خطاه.
ان الحق ابلج، مهما اسدلت دونه ستور الباطل، وقلبت لاجله الامور، وان الباطل لجلج، مهما
زوقت له الالفاظ، ورقشت له الحجج، (( لقد ابتغوا الفتنه من قبل وقلبوا لك الامور
حتى جاء الحق وظهر امر الله وهم كارهون )) [التوبة: 48].
ان الحق الذي من ظن ان بملكه ان يستره، فانه كمن يستر ضوء الشمس بغربال.
اذا علم ذلكم – عباد الله – فان على كل مسلم ان يحسن القصد تجاه
ربه ثم تجاه الناس، وان يجعل لاحسان الظن بالاخرين من السعه والانشراح ما لا يجعله
لسوء الظن بهم؛ فانه ان اخطا في حسن ظنه لم يكن عليه من الاثم ما
يكون في خطئه بسوء ظنه.
ومن هنا يستطيع المرء الصادق ان يزن نفسه بميزان الشرع في تعامله مع اخطاء الاخرين؛
بحيث يلجم نفسه الجاما عن ان تقع في اتون تصيد الاخطاء، وتتبع العورات، يقوده في
ذلك: العلم والعدل.
بيد ان هناك فرقا بين تصيد الاخطاء وبين تصحيحها؛ فالاول انما هو من باب التعيير
والتشهير والتشفي، والثاني من باب بيان النصح بالحق والدعوه اليه، فالبون شاسع بين التعيير والنصح،
كما هو شاسع ايضا بين ما كان لحظ النفس وما كان لله، (( ما عندكم
ينفد وما عند الله باق )) [النحل: 96].
ثم ان من المجرب المشاهد: ان المعيرين الذين يشهرون غيرهم بالاخطاء تدور عليهم الدوائر، فيقعون
في الحفر التي حفروها للمعيرين؛ لان التعيير داء منصف يفعل بالمعير فعله بالمعير، والجزاء من
جنس العمل.
وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي: «من عير اخاه بذنب لم يمت حتى يعمله».
ولان في التعيير شماته ظاهره تحيد بالمرء عن معالي الامور الى منادمه سفسافها؛ في الحديث
الذي حسنه بعض اهل العلم: «لا تظهر الشماته باخيك، فيرحمه الله ويبتليك»؛ رواه الترمذي.
انه ليدرك كل ذي لب وبصيره ان ما يسمعه ويراه عبر الرائي او الاثير او
مواقع التواصل، ليدرك بوضوح عظم الحاجه الى ادب الحديث والمحاورة، وحفظ الحقوق والحرمات، والناي بالنفس
عن تتبع العورات والشماته وبذاءه اللسان.
فكما ان في تلك المواقع فوائد عظمى لنشر الخير، والدعوه الى الحق على بصيرة، وان
الكلمه الطيبه التي تسمعها الف اذن، وتقرؤها الف عين، اعظم اجرا مما يسمعه اقل من
ذلك، فكذلك الكلمه الخبيثه تكون اعظم اثما، واثقل وزرا اذا كثر مستمعوها وقارئوها؛ فان اللسان
بريد القلب، والقلم بريد اللسان.
ولقد صدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين قال: «وهل يكب الناس
في النار على وجوههم – او على مناخرهم – الا حصائد السنتهم»؛ رواه الترمذي.
ان العقل الناضج لا ينتابه شك البته في ان لسان المرء وقلمه هما شعار حقيقته
ومخبره، فكما ان في البشر لسان صدق وعفه واناة، فان فيهم لسان كذب وتطفل وطيش.
فلاجل ذلكم قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «تصبح الاعضاء تكفر اللسان، تقول:
اتق الله فينا، فان استقمت استقمنا، وان اعوججت اعوججنا»؛ رواه ابو يعلى بسند حسن.
عباد الله:
لقد علم بدليل الواقع ان تتبع المرء زلات الاخرين انما يصدر منه بسوء علم او
بسوء قصد؛ فالاول فساد في الفهم، والثاني فساد في القلب، وهو الاخطر والاعظم اثما وخطيئة،
فان النيه اذا فسدت لم يصلحها اللسان، لكن صلاح النيه والقصد يجبران زله اللسان.
فكم من عائب قولا صحيحا وافته من الفهم السقيم
ايها الناس:
ان العمر اقصر مما يؤمله الواحد منا، وان من ظلم المرء نفسه ان يستقطع جزءا
كبيرا من وقته في تعقب الاخرين بما قد يضر ولا ينفع، ويفقا العين ولا يقتل
الصيد، وبما يزيد اثمه ويقل اجره، فيكثر بذلك الالتفات اثناء المسير، ومن كثر التفاته تاخر
وصوله، ومن تتبع الصيد غفل، ومن احدق بعينيه في عيوب غيره عمي عن عيوب نفسه،
فجمع على نفسه خطيئتين.
ثم ان الناس بشر ليسوا معصومين ولا ملائكة، وانما هم ياكلون الطعام ويمشون في الاسواق،
يخطئون ويصيبون، وغالبا ما يكون صوابهم اكثر من خطئهم. فلماذا يصر اقوام على ان يكونوا
كالذباب لا يقع الا على الجروح، او كالبعوضه لا يرويها الا الدماء؟! ولربما ادمت مقله
الاسد.
لماذا لا يانس اقوام الا بالغيبه والنميمة، والوشاية، والهمز واللمز، واتهام النوايا والشق عن القلوب؟!
لماذا يفضل اقوام ان يعيشوا مفلسين بالسنتهم وافئدتهم، لا ان يعيشوا اغنياء بها، وقد وصفهم
لسان القائل:
ولو ان واش باليمامه داره وداري باعلى حضر موت اهتدى لي
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «اتدرون من المفلس؟». قالوا: المفلس فينا
م لا درهم له ولا متاع. فقال: «ان المفلس من امتي ياتي يوم القيامه بصلاه
وصيام وزكاة، وياتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، واكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب
هذا. فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فان فنيت حسناته قبل ان يقضى ما
عليه اخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار»؛ رواه مسلم.
فيا لله! ما اكثر المفلسين. ويا لله! ما اشقاهم في الدنيا، وما اعظم حسابهم في
الاخرى، (( خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين (199) واما ينزغنك من الشيطان نزغ
فاستعذ بالله انه سميع عليم )) [الاعراف: 199، 200].
بارك الله لي ولكم في القران العظيم، ونفعني واياكم بما فيه من الايات والذكر الحكيم،
قد قلت ما قلت، ان صوابا فمن الله، وان خطا فمن نفسي والشيطان، واستغفر الله
لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا اليه؛ انه هو الغفور
الرحيم.