حكايه الرسول صلى الله عليه وسلم
نسب النبي صلى الله عليه وسلم
«الصادق المصدوق»
ولد محمد صلى الله عليه وسلم من اسره زكيه المعدن نبيله النسب، جمعت خلاصه ما
في العرب من فضائل، وترفعت عما يشينهم من معائب. ويرتفع نسبه صلى الله عليه وسلم
الى نبي الله اسماعيل بن خليل الرحمن ابراهيم عليهما السلام. قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن نفسه: “ان الله اصطفى كنانه من ولد اسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة،
واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم”. واسم رسول الله صلى الله عليه
وسلم: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. نسب النبي
صلى الله عليه وسلم واسرته: لنسب النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثه اجزاء: جزء اتفق
على صحته اهل السير والانساب وهو الى عدنان، وجزء اختلفوا فيه ما بين متوقف فيه
وقائل به، وهو ما فوق عدنان الى ابراهيم عليه السلام، وجزء لا نشك ان فيه
امورا غير صحيحة، وهو ما فوق ابراهيم الى ادم عليه السلام. الجزء الاول :
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب واسمه شيبه بن هاشم واسمه عمرو بن عبد
مناف واسمه المغيره بن قصي واسمه زيد بن كلاب بن مره بن كعب بن لؤي
بن غالب بن فهر وهو الملقب بقريش واليه تنتسب القبيله بن مالك بن النضر واسمه
قيس بن كنانه بن خزيمه بن مدركه واسمه عامر بن الياس بن مضر بن نزار
بن معد بن عدنان. الجزء الثاني : ما فوق عدنان ،وعدنان هو ابن اد بن
هميسع بن سلامان بن عوص بن بوز بن قموال بن ابي بن عوام بن ناشد
بن حزا بن بلداس بن يدلاف بن طابخ بن جاحم بن ناحش بن ماخي بن
عيض بن عبقر بن عبيد بن الدعا بن حمدان بن سنبر بن يثربي بن يحزن
بن يلحن بن ارعوي بن عيض بن ديشان بن عيصر بن افناد بن ايهام بن
مقصر بن ناحث بن زارح بن سمي بن مزي بن عوضه بن عرام بن قيدار
بن اسماعيل بن ابراهيم عليهما السلام . الجزء الثالث : ما فوق ابراهيم عليه السلام،
وهو ابن تارح واسمه ازر بن ناحور بن ساروع اوساروغ بن راعو بن فالخ بن
عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح عليه السلام بن لامك بن متوشلخ
بن اخنوخ يقال هو ادريس عليه السلام بن يرد بن مهلائيل بن قينان بن انوشه
بن شيث بن ادم عليهما السلام.
عبد المطلب زعيما لقريش
تولى هاشم بن عبد مناف سقايه الحجاج واطعامهم (الرفادة)، كان هاشم موسرا ذا شرف كبير
وهو اول من اطعم الثريد للحجاج بمكه ،وكان اسمه عمرو، وسمى هاشما لهشمه الخبز للناس
واطعامهم في سنه مجدبة، وهو اول من سن الرحلتين لقريش رحله الشتاء ورحله الصيف، ومرت
الايام وتولى عبد المطلب بن هاشم السقايه والرفادة، واقام لقومه ما كان اباؤه يقيمون لقومهم
وشرف في قومه شرفا لم يبلغه احد من ابائه ، واحبه قومه.
»
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
حفر بئر زمزم »
بينما عبد المطلب نائم في حجر الكعبه اذ اتاه هاتف يامره بحفر زمزم يقول عبد
المطلب: اني لنائم في الحجر اذ اتاني ات فقال: احفر طيبة. قلت: وما طيبة؟ ثم
ذهب عني، فلما كان الغد رجعت الى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة. فقلت:
وما المضنونة؟ ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت الى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال:
احفر زمزم. قلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف ابدا ولا تذم، تسقى الحجيج الاعظم (اي
ان ماءها لا ينتهي ابدا) ولما بين له شانها ودله على موضعها وعرف انه قد
صدق، اصبح بمعوله ومعه ابنه الحارث، ليس له يومئذ ولد غيره، فحفر فيها، فلما بدا
لعبد المطلب الحجاره التي تغطي البئر كبر، فعرفت قريش انه قد ادرك حاجته، فقاموا اليه
فقالوا: يا عبد المطلب، انها بئر ابينا اسماعيل، وان لنا فيها حقا، فاشركنا معك فيها.
قال: ما انا بفاعل، ان هذا الامر قد خصصت به دونكم، فقالوا له: فانصفنا فانا
غير تاركيك حتى نخاصمك فيها. قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم احاكمكم اليه، قالوا: كاهنه
بني سعد هذيم، قال: نعم، وكانت على حدود الشام، فركب عبد المطلب ومعه جماعه من
بني عبد مناف، وركب من كل قبيله من قريش جماعة، والارض اذ ذاك صحراء لا
نهايه لها، فخرجوا حتى اذا كانوا ببعض تلك الصحراء بين الحجاز والشام فني ماء عبد
المطلب واصحابه؛ فظمئوا حتى ايقنوا بالهلاك، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش فابوا عليهم وقالوا:
انا بمفازه (اي صحراء) ونحن نخشى على انفسنا مثل ما اصابكم، فلما راى عبد المطلب
ما صنع القوم، وما يتخوف على نفسه واصحابه قال: ماذا ترون؟ قالوا: ما راينا الا
تبع لرايك، فمرنا بما شئت. قال: فاني ارى ان يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه
بما بكم الان من القوة؛ فكلما مات رجل دفعه اصحابه في حفرته ثم واروه حتى
يكون اخركم رجلا واحدا، فضيعه رجل واحد ايسر من ضيعه القافله جميعا. قالوا: نعم ما
امرت به. فقام كل واحد منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا. ثم ان
عبد المطلب قال لاصحابه: والله ان القاءنا بايدينا هكذا للموت، لا نضرب في الارض (اي
لا نسير لطلب الرزق) ولا نبتغى لانفسنا لعجز، فعسى الله ان يرزقنا ماء ببعض البلاد؛
ارتحلوا، فارتحلوا، حتى اذا فرغوا ومن معهم من قبائل قريش ينظرون اليهم ما هم فاعلون،
تقدم عبد المطلب الى راحلته فركبها، فلما قامت به انفجرت من تحت خفها عين من
ماء عذب، فكبر عبد المطلب وكبر اصحابه، ثم نزل فشرب وشرب اصحابه وملاوا اسقيتهم. ثم
دعا القبائل من قريش فقال: هلم الى الماء فقد سقانا الله، فاشربوا واستقوا، فجاءوا وشربوا
واستقوا ثم قالوا: قد والله قضي لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في
زمزم ابدا، ان الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاه لهو الذي سقاك زمزم، فارجع الى
سقايتك راشدا! فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا الى الكاهنة، وخلوا بينه وبين زمزم. وعندئذ نذر
عبد المطلب: لئن ولد له عشره نفر، ثم بلغوا معه حتى يمنعوه (اي حتى يكبروا
ويحموه) لينحرن احدهم لله عند الكعبة.
نجاه عبدالله والد النبي صلى الله عليه وسلم من الذبح
كان عبد المطلب بن هاشم، قد نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر
زمزم، لئن ولد له عشره نفر، ثم كبروا حتى يحموه، لينحرن احدهم لله عند الكعبة،
فلما تكامل بنوه عشره وعرف انهم سيمنعونه، جمعهم ثم اخبرهم بنذره، ودعاهم الى الوفاء لله
بذلك، فاطاعوه، فكتب اسماءهم في القداح (وهي عصي كانوا يقترعون بها عند الهتهم) واقترع فخرج
القدح على عبدالله ،فاخذه عبد المطلب واخذ الشفره ثم اقبل به الى الكعبه ليذبحه، فمنعته
قريش ولاسيما اخواله من بنى مخزوم واخوه ابو طالب، فقال عبد المطلب: فكيف اصنع بنذري؟
فاشاروا عليه ان ياتي عرافه فيستشيرها، فاتاها فامرت ان يضرب القداح على عبدالله وعلى عشر
من الابل، فان خرجت على عبدالله يزيد عشرا من الابل حتى يرضى ربه، فان خرجت
على الابل نحرها، فرجع واقرع بين عبدالله وبين عشر من الابل فوقعت القرعه على عبدالله
،فلم يزل يزيد من الابل عشرا عشرا ولا تقع القرعه الا عليه الى ان بلغت
الابل مائه فوقعت القرعه عليها، فنحرت عنه ثم تركها عبد المطلب لا يرد عنها انسانا
ولا سبعا، وكانت الديه في قريش وفي العرب عشرا من الابل فاصبحت بعد هذه الوقعه
مائه من الابل، واقرها الاسلام بعد ذلك، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه
قال “انا ابن الذبيحين” يعنى نبي الله اسماعيل واباه عبدالله.
وقعه اصحاب الفيل
كان ابرهه الصباح الحبشي النائب العام عن النجاشي على اليمن، فلما راى العرب يحجون الكعبه
بنى كنيسه كبيره بصنعاء سماها القليس، واراد ان يجعل حج العرب اليها، وسمع بذلك رجل
من بني كنانه فدخلها ليلا فقضى حاجته فيها امتهانا لها، ولما علم ابرهه بذلك ثار
غيظه، وسار بجيش عرمرم، عدده ستون الف جندي، الى الكعبه ليهدمها، ومعهم ثلاثه عشر فيلا،
واختار ابرهه لنفسه فيلا من اكبر الفيلة، وهزم كل من حاول الوقوف امامه من قبائل
العرب، وواصل سيره حتى بلغ المغمس وهناك عبا جيشه ،وهيا فيله، ثم بعث بعض رجاله
الى مكه فاستولوا على الاغنام والابل التي وجدوها، وكان فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن
هاشم كبير قريش وسيدها. بعدها بعث ابرهه احد رجاله الى مكه وقال له: سل عن
سيد هذا البلد وشريفها، ثم قل له: ان الملك يقول لك: اني لم ات لحربكم،
انما جئت لهدم هذا البيت، فان لم تتعرضوا لي فلا حاجه لي في دمائكم. فلما
قال ذلك لعبد المطلب قال له: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة،
هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله ابراهيم عليه السلام، فان يمنعه منه فهو حرمه، وان
يخل بينه وبينه فوالله ماعندنا دفع عنه، فقال له رسول ابرهة: فانطلق معي اليه، فانه
قد امرني ان اتيه بك، فذهب اليه مع بعض ابنائه، وكان عبد المطلب وسيما جميلا
مهابا، فلما راه ابرهه اجله واعظمه، ونزل عن كرسيه وجلس بجانبه على الارض، ثم قال
له: ما حاجتك؟ فقال عبد المطلب: حاجتي ان يرد علي الملك مائتي بعير اصابها لي،
فقال ابرهة: قد كنت اعجبتني حين رايتك، ثم زهدت فيك حين كلمتني! اتكلمني في مائتي
بعير اخذت منك وتترك بيتا هو دينك ودين ابائك قد جئت لاهدمه لا تكلمني فيه؟
قال له عبد المطلب: اني انا رب الابل، وان للبيت ربا سيمنعه! قال ابرهة: ما
كان ليمتنع مني، قال: عبد المطلب انت وذلك. فلما اخذ عبد المطلب ابله عاد الى
قريش فاخبرهم الخبر وامرهم بالخروج من مكه والتحصن بالجبال خوفا عليهم من الجيش، ثم قام
عبد المطلب يدعو الله ويستنصره ومعه جماعه من قريش، ثم لحقوا بقومهم في الجبال ينتظرون
ما ابرهه فاعل بمكه اذا دخلها. وتهيا ابرهه لدخول مكه ، فلما كان بين المزدلفه
ومنى برك الفيل ،ولم يقم ليقدم الى الكعبه ،و كانوا كلما وجهوه الى الجنوب او
الشمال او الشرق يقوم يهرول ، واذا صرفوه الى الكعبه برك، فبينا هم كذلك اذ
ارسل الله عليهم طيرا ابابيل ، ترميهم بحجاره من سجيل فجعلهم كعصف ماكول وكانت الطير
امثال الخطاطيف والبلسان (الخطاف طائر اسود، والبلسان: الزرزور) مع كل طائر ثلاثه احجار ،حجر في
منقاره وحجران في رجليه امثال الحمص ،لا تصيب منهم احدا الا صار تتقطع اعضاؤه وهلك،
وخرجوا هاربين يموج بعضهم في بعض فتساقطوا بكل طريق وهلكوا علي كل منهل، واما ابرهه
فبعث الله عليه داء تساقطت بسببه انامله (اي اصابعه) ولم يصل الى صنعاء الا وهو
مثل الفرخ، وانصدع صدره عن قلبه ثم هلك . واما قريش فكانوا قد تفرقوا في
الجبال خوفا على انفسهم من الجيش، فلما نزل بالجيش ما نزل رجعوا الى بيوتهم امنين.
وفاه عبد الله والد الرسول صلى الله عليه وسلم»
اختار عبد المطلب لولده عبدالله امنه بنت وهب بن عبد مناف بن زهره بن كلاب
وهي يومئذ تعد افضل امراه في قريش نسبا وموضعا، وابوها سيد بنى زهره نسبا وشرفا،
فتزوجها عبدالله في مكه وبعد قليل ارسله عبد المطلب الى المدينه يشتري لهم تمرا،فدخل المدينه
وهو مريض، فتوفي بها ودفن في دار النابغه الجعدي، وله اذ ذاك خمس وعشرون سنة،
وكانت وفاته قبل ان يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما بلغ نعيه الى
مكه رثته امنه باروع الاشعار. وجميع ما خلفه عبدالله خمسه جمال وقطعه غنم ،وجاريه حبشيه
اسمها بركه وكنيتها ام ايمن، وهي حاضنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
ولاده الرسول صلى الله عليه وسلم
ولد سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم بشعب بنى هاشم بمكه في صبيحه يوم الاثنين
التاسع من شهر ربيع الاول ،لاول عام من حادثه الفيل ولاربعين سنه خلت من ملك
كسرى انوشروان ،ويوافق ذلك العشرين او الثاني والعشرين من شهر ابريل سنه 571 م (احدى
وسبعين وخمسمائة). ويقال ان امنه بنت وهب ام رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت
تحدث: انها اتيت حين حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها: انك قد
حملت بسيد هذه الامة، فاذا وقع الى الارض فقولي: اعيذه بالواحد من شر كل حاسد!
ثم سميه محمدا. ورات حين حملت به انه خرج منها نور رات به قصور بصرى
من ارض الشام. وقد روي ان ارهاصات بالبعثه قد وقعت عند الميلاد فسقطت اربع عشره
شرفه من ايوان كسرى وخمدت النار التي يعبدها المجوس وانهدمت الكنائس حول بحيره ساوه بعد
ان غاضت (اي جف ماؤها) استقبل “عبد المطلب” ميلاد حفيده باستبشار، ولعله راى في مقدمه
عوضا عن ابنه الذي توفي في ريعان شبابه، فحول مشاعره عن الراحل الذاهب الى الوافد
الجديد يرعاه ويغالي به. ومن الموافقات الجميله ان يلهم “عبد المطلب” تسميه حفيده “محمد”. انها
تسميه اعانه عليها ملك كريم. ولم يكن العرب يالفون هذه الاعلام، لذلك سالوه لم رغب
عن اسماء ابائه؟ فاجاب: اردت ان يحمده الله في السماء، وان يحمده الخلق في الارض،
فكان هذه الاراده كانت استشفافا للغيب، فان احدا من خلق الله لا يستحق ازجاء عواطف
الشكر والثناء على ما ادى واسدى كما يستحق ذلك النبي العربي المحمد.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
الرضاعة
اول من ارضعت الرسول صلى الله عليه وسلم من المراضع بعد امه كانت ثويبه مولاه
ابي لهب بلبن ابن لها يقال له مسروح، و كانت قد ارضعت قبله حمزه بن
عبد المطلب وكانت العاده عند اهل الحضر من العرب (خلاف البدويين) ان يلتمسوا المراضع لاولادهم،
ابتعادا لهم عن امراض المدن؛ لتقوى اجسامهم، وتشتد اعصابهم، ويتقنوا اللسان العربي في مهدهم ،
فالتمس عبد المطلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم المرضعات، واسترضع له امراه من بني
سعد بن بكر وهي حليمه بنت ابي ذؤيب السعديه وكان زوجها الحارث بن عبد العزى
المكنى بابي كبشه من نفس القبيله . واخوته صلى الله عليه وسلم هناك من الرضاعه
عبدالله بن الحارث وانيسه بنت الحارث، وحذافه او جذامه بنت الحارث (وهي الشيماء) وكانت تحضن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ،ابن عم
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رات حليمه من بركته صلى الله عليه وسلم
ما عجبت منه اشد العجب . كانت حليمه تحدث انها خرجت من بلدها مع زوجها
وابن لها صغير ترضعه، في نسوه من بني سعد لجلب الرضعاء، وذلك في سنه مجدبه
شديدة، خرجت على انثى حمار بيضاء، ومعهم ناقه ليس فيها قطره لبن، وانهم لم يناموا
طوال الليل من بكاء الصبي من الجوع، وليس في ثديها ما يكفيه، وما في الناقه
ما يغذيه، وبسبب ضعف الاتان التي كانت تركبها حليمه فقد تاخرت عن باقي المرضعات حتى
ضايقهم ذلك، حتى قدموا مكة، فما منهن امراه الا وقد عرض عليها رسول الله صلى
الله عليه وسلم فتاباه اذا قيل لها انه يتيم، وذلك ان كل واحده منهن كانت
ترجو المعروف من ابي الصبى، فكانت تقول: يتيم! وما عسى ان تصنع امه وجده!. وفي
نهايه اليوم لم تبق امراه ليس معها رضيع، الا حليمة، فلما هموا بالانصراف قالت حليمه
لزوجها: والله اني لاكره ان ارجع من بين صواحبي ولم اخذ رضيعا، والله لاذهبن الى
ذلك اليتيم فلاخذنه! قال: لا عليك ان تفعلي، عسى الله ان يجعل لنا فيه بركة.
قالت: فذهبت اليه فاخذته، وما حملني على اخذه الا اني لم اجد غيره فلما اخذته
رجعت به الى رحلي، فلما وضعته في حجري اقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن؛
فشرب حتى روي، وشرب معه اخوه حتى روي ثم ناما، وما كنا ننام منه قبل
ذلك. وقام زوجها الى ناقتهم فاذا ضرعها مليء باللبن، فحلب منها و شرب، وشربت معه
حليمه حتى انتهيا ريا وشبعا، فبات الجميع بخير ليلة! فقال زوجها: تعلمي والله يا حليمه
لقد اخذت نسمه مباركة! فقالت: والله اني لارجو ذلك. ثم خرجوا وركبت حليمه الاتان العجفاء
التي اتت عليها، وحملت النبي صلى الله عليه وسلم معها، فسبقت جميع المرضعات، حتى ان
صواحبها ليقلن لها: يا ابنه ابي ذؤيب، ويحك اربعي علينا (اي تمهلي) اليست هذه اتانك
التي كنت خرجت عليها؟ فتقول لهن: بلى والله انها لهي ! فيقلن: والله ان لها
لشانا! ثم قدموا منازلهم من بلاد بني سعد، وليس في ارض الله اجدب منها؛ فكانت
غنم حليمه ترعى وتعود شباعا مملوءه لبنا، فيحلبون، ويشربون، وما يحلب انسان قطره لبن، ولا
يجدها في ضرع، حتى كان قومها من بني سعد يقولون لرعيانهم: ويلكم، اسرحوا حيث يسرح
راعي بنت ابي ذؤيب، فتروح اغنامهم جياعا ما فيها قطره لبن، وتروح غنم حليمه شباعا
تمتلىء لبنا. ولم تزل حليمه واهلها ياتيهم من الله الزياده والخير حتى مضت سنتا الرضاعه
وفصلته (اي فطمته). وكان صلى الله عليه وسلم يشب شبابا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ
سنتيه حتى كان غلاما فتيا، فقدموا به على امه وهم احرص شيء على مكثه فيهم؛
لما كانوا يرون من بركته، فقالت حليمه لامه امنة: لو تركت بني عندي حتى غلظ،
فاني اخاف عليه وباء مكة؟ واخذوا يلحون عليها حتى ردته معهم، فرجعوا به.
حادثه شق الصدر
»
بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني سعد، حتى اذا كانت السنه الرابعه
او الخامسه من مولده وقع حادث شق صدره. روى مسلم عن انس ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم اتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان، فاخذه فصرعه، فشق عن قلبه،
فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من
ذهب بماء زمزم، ثم لامه (اي اغلق قلبه) ثم اعاده الى مكانه، وجاء الغلمان يسعون
الى امه (يعني مر ضعته) فقالوا: ان محمدا قد قتل. تقول حليمة: فخرجت انا وابوه
نحوه فوجدته قائما منتقعا وجهه، فالتزمته (اي فاحتضنته) والتزمه ابوه، فقلنا: مالك يا بني؟ قال:
جاءني رجلان عليهما ثياب بيض، فاضجعاني وشقا بطني فالتمسا فيه شيئا لا ادرى ما هو؟
فرجع به الى خبائنا وقال لي ابوه: يا حليمة، لقد خشيت ان يكون هذا الغلام
قد اصيب فالحقيه باهله قبل ان يظهر ذلك به، فاحتملناه فقدمنا به على امه؛ فقالت:
ما اقدمك به يا ظئر (الظئر: المرضعة) وقد كنت حريصه عليه وعلى مكثه عندك؟ فقلت:
قد بلغ الله بابني وقضيت الذي علي، وتخوفت الاحداث عليه، فاديته اليك كما تحبين. قالت:
ما هذا شانك فاصدقيني خبرك. فلم تدعني حتى اخبرتها. قالت: افتخوفت عليه الشيطان؟ قلت: نعم.
قالت: كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل، وان لبني لشانا، افلا اخبرك خبره؟ قلت:
بلى. قالت: رايت حين حملت به انه خرج مني نور اضاء قصور بصرى، من ارض
الشام، ثم حملت به فوالله ما رايت من حمل قط كان اخف على ولا ايسر
منه، ووقع حين ولدته وانه لواضع يديه بالارض، رافع راسه الى السماء، دعيه عنك وانطلقي
راشدة
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
وفاه امنه ام الرسول صلى الله عليه وسلم وكفاله جده له
»
رات امنه وفاء لذكرى زوجها الراحل ان تزور قبره بيثرب فخرجت من مكه قاطعه رحله
تبلغ خمسمائه كيلو مترا ومعها ولدها اليتيم محمد صلى الله عليه وسلم وخادمتها ام ايمن
،وقيمها عبد المطلب، فمكثت شهرا، ثم رجعت، وبينما هي راجعه اذ يلاحقها المرض، ويلح عليها
في اوائل الطريق، فماتت بالابواء بين مكه والمدينة. وعاد به عبد المطلب الى مكه ،وكانت
مشاعر الحنان في فؤاده تزيد نحو حفيده اليتيم ، الذي اصيب بمصاب جديد نكا الجروح
القديمه ، فرق عليه رقه لم يرقها على احد من اولاده ، فكان لا يدعه
لوحدته ، بل يؤثره على اولاده ، وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبه
، وكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج اليه لا يجلس عليه احد من
بنيه اجلالا له ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ياتي وهو غلام صغير
حتى يجلس عليه ، فياخذه اعمامه ليؤخروه عنه ، فيقول عبد المطلب اذا راى ذلك
منهم : دعوا ابني هذا فوالله ان له لشانا ثم يجلس معه على فراشه ،ويمسح
ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع. ولثماني سنوات وشهرين وعشره ايام من عمره صلى الله
عليه وسلم توفي جده عبد المطلب بمكه ، وراى قبل وفاته ان يعهد بكفاله حفيده
الى عمه ابي طالب شقيق ابيه .
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
وفاه جده وكفاله عمه »
نهض ابو طالب بحق ابن اخيه على اكمل وجه ،وضمه الى اولاده ، وقدمه عليهم
، واختصه بفضل احترام وتقدير ، وظل فوق اربعين سنه يعز جانبه ، ويبسط عليه
حمايته ،ويصادق ويخاصم من اجله وظهرت بركه محمد صلى الله عليه وسلم وهو مع عمه
في مواقف عديده منها هذا الموقف: فقد حدث ان اصاب مكه جدب ، فقال بعض
كبراء قريش لابي طالب، يا ابا طالب اقحط الوادي، واجدبت البلاد، فهلم نستسق فقال ابو
طالب: نعم هلم بنا، فاحضر محمدا صلى الله عليه وسلم ليستسقي للقوم، واخذ ابو طالب
النبي صلى الله عليه وسلم والصق ظهره بالكعبة، ثم امسك بيديه ورفعهما الي السماء ودعا،
وبعد ان كانت السماء خاليه ليس فيها سحابه واحدة، اذا بالسحاب يقبل من هنا وهناك
ويملا السماء، واذا بالمطر يفيض على الوادي كله. والى هذا اشار ابو طالب حين قال:
وابيض يستسقى الغمام بوجهه. وقد حج احدهم في الجاهليه فاذا به برجل يطوف بالبيت وهو
يرتجز ويقول: رب رد الي راكبي محمدا رده الي واصطنع عندي يدا فقال:من هذا؟ فقالوا:
عبد المطلب بن هاشم، بعث بابن ابنه محمد في طلب ابل له ولم يبعثه في
حاجه الا نجح فيها، وقد ابطا عليه، فلم يلبث ان جاء محمد والابل فعانقه، وقال:
يا بني لقد جزعت عليك جزعا لم اجزعه على شيء قط، والله لا ابعثك في
حاجه ابدا، ولا تفارقني بعد هذا ابدا
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
بحيرا الراهب
»
خرج ابو طالب في قافله تاجرا الى الشام، فلما تهيا للرحيل تعلق به رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فرق له ابو طالب وقال: والله لاخرجن به معي ولا يفارقني
ولا افارقه ابدا. فخرج به معه، فلما نزلت القافله بصرى وبها راهب يقال له “بحيرا”
في صومعه له، وكان اعلم اهل النصرانية، و كانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك
فلا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام، فلما نزلوا قريبا من صومعته صنع
لهم طعاما كثيرا. وذلك انه راى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صومعته
وفي الركب حين اقبلوا، وغمامه تظله من بين القوم، ثم اقبلوا فنزلوا في ظل شجره
قريبا منه، فنظر الى الغمامه حين اظلت الشجرة، وتدلت اغصان الشجره على رسول الله صلى
الله عليه وسلم حتى استظل تحتها، فلما راى ذلك بحيرا نزل من صومعته، ثم ارسل
اليهم فقال: اني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش فاني احب ان تحضروا كلكم
صغيركم وكبيركم، وعبدكم وحركم. فقال له رجل منهم: والله يا بحيرا ان لك اليوم لشانا،
فما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا، فما شانك اليوم؟ قال له
بحيرا: صدقت، كان قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وقد احببت ان اكرمكم واصنع لكم
طعاما فتاكلوا منه كلكم. فاجتمعوا اليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين
القوم لحداثه سنه في رحال القوم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرا في القوم لم ير
الصفه التي يعرف ويجد عنده، فقال: يا معشر قريش، لا يتخلفن احد منكم عن طعامي،
قالوا: يا بحيرا، ما تخلف عنك احد ينبغي له ان ياتيك الا غلام ، وهو
احدث القوم سنا فتخلف في رحالهم، فقال: لا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم، فقال
رجل من قريش مع القوم: واللات والعزى، ان كان للؤم بنا ان يتخلف ابن عبد
المطلب عن طعام من بيننا ثم قام فاحتضنه واجلسه مع القوم، فلما راه بحيرا جعل
يلحظه لحظا شديدا وينظر الى اشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته، حتى
اذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام اليه بحيرا فقال له: يا غلام، اسالك بحق
اللات والعزى الا ما اخبرتني عما اسالك عنه وانما قال له بحيرا ذلك لانه سمع
قومه يحلفون بهما فزعموا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تسالني
باللات والعزى، فوالله ما ابغضت شيئا قط بغضهما فقال له بحيرا: فبالله الا ما اخبرتني
عما اسالك عنه. فقال له: سلني ما بدا لك. فجعل يساله عن اشياء من حاله
في قومه وهيئته واموره فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فيوافق ذلك ما
عند بحيرا من صفته، ثم نظر الى ظهره فراى خاتم النبوه بين كتفيه على موضعه
من صفته التي عنده. فلما فرغ اقبل على عمه ابي طالب فقال له: ما هذا
الغلام منك؟ قال: ابني قال له بحيرا: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام ان
يكون ابوه حيا. قال: فانه ابن اخي. قال: فما فعل ابوه؟ قال: مات وامه حبلى
به. قال: صدقت، فارجع بابن اخيك الى بلده واحذر عليه يهود، فوالله لئن راوه وعرفوا
منه ما عرفت ليبغنه شرا، فانه كائن لابن اخيك هذا شان عظيم! هذا سيد العالمين،
هذا يبعثه الله رحمه للعالمين .فقال ابو طالب: وما علمك بذلك؟ فقال: انكم حين اشرفتم
من العقبه لم يبق حجر ولا شجر الا وخر ساجدا، ولا تسجد الا لنبي، واني
اعرفه بخاتم النبوه في اسفل غضروف كتفه مثل التفاحة، وانا نجده في كتبنا، وسال ابا
طالب ان يرده، ولا يقدم به الى الشام، خوفا عليه من اليهود فبعثه عمه مع
بعض غلمانه الى مكة.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
حرب الفجار»
ولخمس عشره سنه من عمره صلى الله عليه وسلم كانت حرب الفجار بين قريش ومن
معهم من كنانه وبين قيس عيلان ،وكان قائد قريش وكنانه كلها حرب بن اميه لمكانته
فيهم سنا وشرفا ،وكان الظفر في اول الامر لقيس على كنانه ، وبعد ذلك كان
الظفر لكنانه على قيس، وسميت بحرب الفجار لانتهاك حرمات الحرم والاشهر الحرم فيها ،وقد حضر
هذه الحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان ينبل على عمومته، اي يجهز
لهم النبل للرمي. كانت حرب الفجار بالنسبه الي قريش دفاعا عن قداسه الاشهر الحرم،ومكانه ارض
الحرم .وهذه الشعائر بقيه مما احترم العرب من دين ابراهيم وكان احترامها مصدر نفع كبير
لهم ، وضمانا لانتظام مصالحهم وهدوء عداواتهم، ولكن اهل الجاهليه ما لبثوا ان ابتلوا بمن
استباحها، فظلموا انفسهم بالقتال في تلك الاشهر الحرم، وكانت حرب الفجار من اثار هذه الاستباحه
الجائرة، وقد ظلت اربعه اعوام ،كان عمر محمد صلى الله عليه وسلم اثناءها بين الخمسه
عشر والتسعه عشر.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
حلف الفضول »
على اثر حرب الفجار وقع حلف الفضول في ذي القعده في شهر حرام، تداعت اليه
قبائل من قريش : بنو هاشم وبنو المطلب ،واسد بن عبدالعزى ، وزهره بن كلاب
، وتيم بن مره ، فاجتمعوا في دار عبدالله بن جدعان التيمي لسنه وشرفه ،
فتعاقدوا وتعاهدوا على ان لا يجدوا بمكه مظلوما من اهلها وغيرهم من سائر الناس الا
قاموا معه ،وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته ،وشهد هذا الحلف رسول الله
صلى الله عليه وسلم ،وقال بعد ان اكرمه الله بالرساله : لقد شهدت في دار
عبدالله بن جدعان حلفا ما احب ان لي به حمر النعم ، ولو ادعى به
في الاسلام لاجبت .
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
جد في الصبا وكفاح في الشباب
»
عاش محمد صلى الله عليه وسلم مع عمه حياه الكدح فليس من شان الرجال ان
يقعدوا،.ومن قبله كان المرسلون ياكلون من عمل ايديهم، ويحترفون مهنا شتى ليعيشوا على كسبها. وقد
صح ان محمدا عليه الصلاه والسلام اشتغل صدر حياته برعي الغنم وقال:كنت ارعاها علي قراريط
لاهل مكة، كما ثبت ان عددا من الانبياء اشتغل برعايتها، وقد احاطته العنايه الالهيه وهو
في تلك السن المبكره من جميع مظاهر العبث او اللهو التي كانت شائعه انذاك، لقد
جمع الله لنبيه منذ صغره خير ما في طبقات الناس من ميزات ،وكان طرازا رفيعا
من الفكر الصائب والنظر السديد، ونال حظا وافرا من حسن الفطنه واصاله الفكره وسداد الوسيله
والهدف، وكان يستعين بصمته الطويل على طول التامل وادمان الفكره واستنتاج الحق، وطالع بعقله الخصب
وفطرته الصافيه صحائف الحياه وشئون الناس واحوال الجماعات فابى ما فيها من خرافه وناى عنها،
ثم عايش الناس على بصيره من امره وامرهم ، فما وجد حسنا شارك فيه، والا
عاد الى عزلته العتيده ،فكان لا يشرب الخمر ،ولا ياكل مما ذبح على النصب، ولا
يحضر للاوثان عيدا، ولا احتفالا، بل كان من اول نشاته نافرا من هذه المعبودات الباطله
، حتى لم يكن شيء ابغض اليه منها، وحتى كان لا يصبر على سماع الحلف
باللات والعزى. ولا شك ان القدر حاطه بالحفظ، فعندما تتحرك نوازع النفس لاستطلاع بعض متع
الدنيا ،وعندما يرضى باتباع بعض التقاليد غير المحموده تتدخل العنايه الربانيه للحيلوله بينه وبينها، روى
ابن الاثير ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما هممت بشيء مما كان
اهل الجاهليه يعملون غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت به
حتى اكرمني برسالته، قلت ليله للغلام الذي يرعى معي الغنم باعلى مكة: لو ابصرت لي
غنمي حتى ادخل مكه واسمر بها كما يسمر الشباب ! فقال :افعل ، فخرجت حتى
اذا كنت عند اول دار بمكه سمعت عزفا ، فقلت ما هذا ؟ فقالوا عرس
فلان بفلانه ، فجلست اسمع فضرب الله على اذني فنمت ، فما ايقظني الا حر
الشمس فعدت الى صاحبي فسالني ، فاخبرته ثم قلت ليله اخرى مثل ذلك ،ودخلت بمكه
فاصابني مثل اول ليله .. ثم ما هممت بسوء”. وروى البخاري عن جابر بن عبدالله
قال: لما بنيت الكعبه ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان الحجارة، فقال عباس
للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل ازارك على رقبتك يقيك من الحجاره ففعل فخر الى
الارض، وطمحت عيناه الى السماء (اي نظر لاعلى وتعلقت عيناه بالسماء) ثم افاق فقال: ازاري،
ازاري، فشد عليه ازاره، فما رؤيت له عوره بعد ذلك. وكان النبي صلى الله عليه
وسلم يمتاز في قومه بخلال عذبه واخلاق فاضلة، وشمائل كريمه فكان افضل قومه مروءة، واحسنهم
خلقا، واعزهم جوارا، واعظمهم حلما، واصدقهم حديثا، والينهم عريكه (العريكة: الطبيعه والمعاملة) واعفهم نفسا، واكرمهم
خيرا، وابرهم عملا، واوفاهم عهدا، وامنهم امانة، حتى سماه قومه “الامين”؛ لما جمع فيه من
الاحوال الصالحه والخصال المرضيه ولما بلغ صلى الله عليه وسلم الخامسه والعشرين من سنه خرج
تاجرا الى الشام في مال خديجه رضى الله عنها ، وكانت خديجه بنت خويلد امراه
تاجره ذات شرف ومال ، تستاجر الرجال في مالها ليتاجروا لها، فلما بلغها عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم امانته وكرم اخلاقه بعثت
اليه، فعرضت عليه ان يخرج في مال لها الى الشام تاجرا، وتعطيه افضل ما كانت
تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله رسول الله صلى الله
عليه وسلم منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسره حتى قدما الي الشام.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
زواجه من السيده خديجه رضى الله عنها
»
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم تاجرا في مال السيده خديجة، وخرج معه غلامها
ميسره حتى قدم الشام. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجره قريبا
من صومعه راهب من الرهبان يدعى نسطورا، فاطلع الراهب الى ميسره فقال: من هذا الرجل
الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ قال له ميسرة: هذا رجل من قريش من اهل الحرم.
فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجره قط الا نبي! ثم باع رسول الله
صلى الله عليه وسلم سلعته التي خرج بها، واشترى ما اراد ان يشتري، ثم اقبل
عائدا الى مكه ، فكان ميسره اذا كانت الظهيره واشتد الحر يرى ملكين يظلانه من
الشمس وهو يسير على بعيره، فلما قدم مكه على خديجه بمالها باعت ما جاء به
فربح الضعف او قريبا. ورات خديجه في مالها من الامانه والبركه ما لم تر قبل
هذا، واخبرها غلامها ميسره بما راى فيه صلى الله عليه وسلم من خلال عذبة، وشمائل
كريمة، وفكر راجح، ومنطق صادق، ونهج امين، وعرفت انها وجدت ضالتها المنشوده وكان السادات والرؤساء
يحرصون على زواجها، فتابى عليهم ذلك فتحدثت بما في نفسها الى صديقتها نفيسه بنت منية،
وهذه ذهبت اليه صلى الله عليه وسلم تفاتحه ان يتزوج خديجة، فرضي بذلك، وكلم اعمامه
فذهبوا الى عم خديجه وخطبوها اليه، وعلى اثر ذلك تم الزواج، وحضر العقد بنو هاشم
ورؤساء مضر، وذلك بعد رجوعه من الشام بشهرين، واصدقها عشرين من الابل، وكانت سنها اذ
ذاك اربعين سنة،وكانت يومئذ افضل نساء قومها نسبا وثروه وعقلا، وهي اول امراه تزوجها رسول
الله صلى الله عليه وسلم ،ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت. وقد استانف محمد عليه
الصلاه والسلام ما الفه بعد زواجه من حياه التامل والعزلة. وهجر ما كان عليه العرب
في احتفالاتهم الصاخبه من ادمان ولغو وقمار، وان لم يقطعه ذلك عن اداره تجارته،وتدبير معايشه،
والضرب في الارض والمشي في الاسواق. ان حياه الرجل العاقل وسط جماعه طائشه تقتضي ضروبا
من الحذر والروية، وخصوصا اذا كان الرجل علي خلق عظيم يتسم بلين الجانب وبسط الوجه
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
بناء الكعبه وقضيه التحكيم
»
ولخمس وثلاثين سنه من مولده صلى الله عليه وسلم قامت قريش ببناء الكعبه ،وذلك لان
الكعبه كانت عباره عن حجاره مرصوصه ارتفاعها تسعه اذرع من عهد اسماعيل ،ولم يكن لها
سقف ، فسرق بعض اللصوص كنزها الذي كان في جوفها ، وكانت مع ذلك قد
تعرضت باعتبارها اثرا قديما للعوامل الجويه التي اضعفت بنيانها ، وصدعت جدرانها . وقبل بعثه
صلى الله عليه وسلم بخمس سنين جرف مكه سيل عرم ، انحدر الى البيت الحرام
،فاوشكت الكعبه منه على الانهيار فاضطرت قريش الى تجديد بنائها حرصا على مكانتها ،واتفقوا على
ان لا يدخلوا في بنائها الا طيبا ،فلا يدخلوا فيها مهر بغي ،ولا بيع ربا
،ولا مظلمه احد من الناس ، وكانوا يهابون هدمها ، فابتدا بها الوليد بن المغيره
المخزومي ،وتبعه الناس لما راوا انه لم يصبه شيء ، ولم يزالوا في الهدم حتى
وصلوا الى قواعد ابراهيم ،ثم ارادوا الاخذ في البناء ،فجزاوا الكعبه وخصصوا لكل قبيله جزءا
منها فجمعت كل قبيله حجاره على حده واخذوا يبنونها ،وتولى البناء بناء رومي اسمه باقوم،
ولما بلغ البنيان موضع الحجر الاسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه واستمر النزاع
اربع ليال او خمسا واشتد حتى كاد يتحول الى حرب ضروس في ارض الحرم، الا
ان ابا اميه بن المغيره المخزومي عرض عليهم ان يحكموا فيما شجر بينهم اول داخل
عليهم من باب المسجد فارتضوه ،وشاء الله ان يكون ذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، فلما راوه هتفوا : هذا الامين رضيناه ، هذا محمد ، فلما انتهى
اليهم واخبروه الخبر طلب رداء ،فوضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين ان يمسكوا
جميعا باطراف الرداء ،وامرهم ان يرفعوه ، حتى اذا اوصلوه الى موضعه اخذه بيده فوضعه
في مكانه، وكان هذا حلا حصيفا رضى به القوم. ولم تكف النفقه الطيبه التي اخرجتها
قريش تكاليف البناء، فاخرجوا من الجهه الشماليه نحوا من سته اذرع ،وهي التي تسمي بالحجر
والحطيم ،ورفعوا بابها من الارض لئلا يدخلها الا من ارادوا ،ولما بلغ البناء خمسه عشر
ذراعا سقفوه على سته اعمدة.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
الصلاة»
كان في اوائل ما نزل في الاسلام الامر بالصلاه ، قال مقاتل بن سليمان: فرض
الله في اول الاسلام الصلاه ركعتين بالغداه وركعتين بالعشى ،لقوله تعالى : ( وسبح بحمد
ربك بالعشي والابكار) وعن زيد بن حارثه : ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
في اول ما اوحي اليه اتاه جبريل ، فعلمه الوضوء ، فلما فرغ من الوضوء
اخذ غرفه من ماء فنضح بها فرجه ،وكان ذلك من اول الفريضه . وذكر بعض
اهل العلم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اذا حضرت الصلاه خرج الى
شعاب مكة، وخرج معه على بن ابي طالب مستخفيا من ابيه ومن جميع اعمامه وسائر
قومه فيصليان الصلوات فيها، فاذا امسيا رجعا، فمكثا كذلك ما شاء الله ان يمكثا، ثم
ان ابا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا ابن اخي، ما هذا الدين الذي اراك تدين به؟ قال: اي عم، هذا دين
الله ودين ملائكته ودين رسله ودين ابينا ابراهيم بعثني الله به رسولا الى العباد، وانت
يا عم احق من بذلت له النصيحة، ودعوته الى الهدى، واحق من اجابني اليه واعانني
عليه، فقال ابو طالب: اي ابن اخي، اني لا استطيع ان افارق دين ابائي وما
كانوا عليه، ولكن والله لا يخلص اليك بشيء تكرهه ما بقيت.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
خبر الدعوه يصل الي قريش اجمالا»
ترامت انباء الدعوه الى قريش فلم تعرها اهتماما ،ولعلها حسبت محمدا صلى الله عليه وسلم
احد اولئك الديانين الذين يتكلمون في الالوهيه وحقوقها ، كما صنع اميه بن ابي الصلت
،وقس بن ساعده ،وعمرو بن نفيل واشباههم ، الا انها توجست خيفه من ذيوع خبره
وامتداد اثره ،واخذت ترقب على الايام مصيره ودعوته . وظل النبي صلي الله عليه وسلم
يدعو الي الاسلام سرا مده ثلاث سنوات.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
الجهر بالدعوة
»
مرت ثلاث سنين والدعوه لم تزل سريه وفرديه ،وخلال هذه الفتره تكونت جماعه من المؤمنين
تقوم على الاخوه والتعاون ،وتبليغ الرساله وتمكينها من مقامها، ثم نزل الوحي يكلف رسول الله
صلى الله عليه وسلم بمعالنه قومه ، ومجابهه باطلهم ومهاجمه اصنامهم . واول ما فعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الايه انه دعا بني هاشم فحضروا
ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف فكانوا خمسه واربعين رجلا . فبادره ابو
لهب وقال : وهؤلاء هم عمومتك وبنو عمك فتكلم ودع الصباه واعلم انه ليس لقومك
بالعرب قاطبه طاقه ، وانا احق من اخذك، فحسبك بنو ابيك (اي اقصر دعوتك على
اهلك فقط) ،وان اقمت على ما انت عليه فهو ايسر عليهم من ان يثب بك
بطون قريش ، وتمدهم العرب ، فما رايت احدا جاء على بني ابيه بشر مما
جئت به ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولم يتكلم في ذلك المجلس
. ثم دعاهم ثانيه وقال ” الحمد لله احمده واستعينه ،واومن به ، واتوكل عليه
، واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له ثم قال : ان
الرائد لا يكذب اهله والله الذي لا اله الا هو ، انى رسول الله اليكم
خاصه والى الناس عامه ،والله لتموتن كما تنامون ، ولتبعثن كما تستيقظون ، ولتحاسبن بما
تعملون ،وانها الجنه ابدا او النار ابدا ، “فقال ابو طالب “: ما احب الينا
معاونتك ،واقبلنا لنصيحتك ,واشد تصديقنا لحديثك ،وهؤلاء بنو ابيك مجتمعون ، وانما انا احدهم غير
اني اسرعهم الى ما تحب ، فامض لما امرت به فوالله لا ازال احوطك وامنعك
، غير ان نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب . فقال ابو لهب
: هذه والله السوءه ، خذوا على يديه قبل ان ياخذ غيركم ، فقال ابو
طالب :والله لنمنعه ما بقينا
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
على جبل الصفا
»
وبعدما تاكد النبي صلى الله عليه وسلم من تعهد ابي طالب بحمايته ، وهو يبلغ
عن ربه ، قام يوما على الصفا فصرخ : يا صباحاه : فاجتمع اليه بطون
قريش، فدعاهم الى التوحيد والايمان برسالته وباليوم الاخر. وقد روى البخاري طرفا من هذه القصه
عن ابن عباس . قال: لما نزلت (وانذر عشيرتك الاقربين) صعد النبي صلى الله عليه
وسلم على الصفا ، فجعل ينادي يا بني فهر يا بنى عدي لبطون قريش، حتى
اجتمعوا فجعل الرجل اذا لم يستطع ان يخرج ارسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء ابو
لهب وقريش .فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم :ارايتكم لو اخبرتكم ان خيلا بالوادي
تريد ان تغير عليكم ، اكنتم مصدقي؟ قالوا : نعم ، ما جربنا عليك الا
صدقا ،قال : فانى نذير لكم بين يدي عذاب شديد . فقال ابو لهب تبا
لك سائر اليوم الهذا جمعتنا ؟ فنزلت ( تبت يدا ابي لهب ) . هذه
الصيحه العاليه هي غايه البلاغ ، فقد اوضح الرسول صلى الله عليه وسلم لاقرب الناس
اليه ان التصديق بهذه الرساله هو حياه الصلات بينه وبينهم . وان عصبيه القرابه التي
يقوم عليها العرب ذابت في حراره هذا الانذار الاتي من عند الله. ولم يزل هذا
الصوت يرتج دويه في ارجاء مكه حتى نزل قوله تعالى : ( فاصدع بما تؤمر
واعرض عن المشركين ) [15 : 94] فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يعكر
على خرافات الشرك وترهاته ،ويذكر حقائق الاصنام وما لها من قيمه في الحقيقه ،يضرب بعجزها
الامثال ، ويبين بالبينات ان من عبدها وجعلها وسيله بينه وبين الله فهو في ضلال
مبين
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
رد فعل المشركين »
انفجرت مكه بمشاعر الغضب ، وماجت بالغرابه والاستنكار ، حين سمعت صوتا يجهر بتضليل المشركين
وعباد الاصنام كانه صاعقه قصفت السحاب ، فرعدت وبرقت وزلزلت الجو الهادئ وقامت قريش تستعد
لحسم هذه الثوره التي اندلعت بغته ، ويخشي ان تاتى على تقاليدها وموروثاتها . ولكن
ماذا سيفعلون امام رجل صادق امين ، اعلى مثل للقيم البشريه ولمكارم الاخلاق ، لم
يعرفوا له نظيرا ولا مثيلا خلال فتره طويله من تاريخ الاباء والاقوام ؟ ماذا سيفعلون
؟ تحيروا في ذلك وحق لهم ان يتحيروا . فاجتمعت قريش للنبي صلي الله عليه
وسلم يوما ، فقالوا : انظروا اعلمكم بالسحر والكهانه والشعر ، فليات هذا الرجل الذي
قد فرق جماعتنا ، وشتت امرنا ، وعاب ديننا ، فليكلمه ولينظر ما يرد عليه
، قالوا : ما نعلم احدا غير عتبه بن ربيعه ، قالوا : انت يا
ابا الوليد ، فاتاه عتبه فقال : يا محمد انت خير ام عبد الله ؟
فسكت الرسول صلي الله عليه وسلم قال : انت خير ام عبد المطلب ؟ فسكت
الرسول صلي الله عليه وسلم قال : فان كنت تزعم ان هؤلاء خير منك فقد
عبدوا الالهه التي عبت ، وان كنت تزعم انك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك
، اما والله ما راينا سخطه اشام علي قومك منك ، فرقت جماعتنا ، وشتت
امرنا ، وعبت ديننا ، وفضحتنا في العرب حتى طار فيهم ان في قريش ساحرا
، وان في قريش كاهنا ، ما ينتظر الا مثل صيحه الحبلى بان يقوم بعضنا
لبعض بالسيوف حتى نتفانى ، ايها الرجل : ان كان انما بك الحاجه جمعنا لك
من اموالنا حتى تكون اغني قريشا رجلا, وان كان انما بك الباءه فاختر اي نساء
قريش فنزوجك عشرا ، فقال له الرسول صلي الله عليه وسلم : افرغت ؟ قال
: نعم فقال رسول صلي الله عليه وسلم : ( حم * تنزيل من الرحمن
الرحيم ) حتى بلغ ( فان اعرضوا فقل انذرتكم صاعقه مثل صاعقه عاد وثمود )
فقال عتبه : حسبك ، ما عندك غير هذا ؟ قال : لا، فرجع الي
قريش فقالوا : ما وراءك ؟ فقال : ما تركت شيئا ارى انكم تكلمونه به
الا كلمته ، قالوا : هل اجابك ؟ قال : نعم ، قال : والذي
نصبها بنيه ما فهمت شيئا مما قال غير انه قال انذرتكم صاعقه مثل صاعقه عاد
وثمود ، قالوا : ويلك يكلمك رجل بالعربيه فلا تدرى ما قال ، قال :
لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقه . وبعد اداره فكرتهم لم
يجدوا سبيلا الا ان ياتوا الى عمه ابي طالب فيطلبوا منه ان يكف ابن اخيه
عما هو فيه ، وراوا لالباس طلبهم لباس الجد والحقيقه ان يقولوا ان الدعوه الى
ترك الهتهم ، والقول بعدم نفعها وقدرتها سبه قبيحه واهانه شديده لها ، وفيه تسفيه
وتضليل لابائهم الذين كانوا على هذا الدين ، وجدت قريش هذا السبيل فتسارعوا الى سلوكها
. فمشى رجال من اشراف قريش الى ابي طالب ، فقالوا : يا ابا طالب
ان ابن اخيك قد سب الهتنا وعاب ديننا وسفه احلامنا ، وضلل اباءنا فاما ان
تكفه عنا ، واما تخلي بيننا وبينه ، فانك على مثل ما نحن عليه من
خلافه ، فنكفيكه فقال ابو طالب قولا رقيقا وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه ، ومضى
رسول صلي الله عليه وسلم على ما هو عليه ، يظهر دين الله ويدعو اليه
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
دار الارقم»
كان من الحكمه تلقاء هذه الاضطهادات ان يمنع رسول الله صلى الله عليه المسلمين عن
اعلان اسلامهم قولا او فعلا ، وان لا يجتمع بهم الا سرا ؛ لانه اذا
اجتمع بهم علنا فلا شك ان المشركين يحولون بينه وبين ما يريد من تزكيه المسلمين
وتعليمهم الكتاب والحكمه ، وربما يفضي ذلك الى تصادم الفريقين ، بل وقع ذلك فعلا
في السنه الرابعه من النبوه ، وذلك ان اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
كانوا يجتمعون في الشعاب ، فيصلون فيها سرا فراهم نفر من كفار قريش ، فسبوهم
وقاتلوهم ، فضرب سعد بن ابي وقاص رجلا فسال دمه ، وكان اول دم اهريق
في الاسلام . ومعلوم ان المصادمه لو تعددت وطالت لافضت الى تدمير المسلمين وابادتهم ،
فكان من الحكمه الاختفاء ، فكان عامه الصحابه يخفون اسلامهم وعبادتهم ودعوتهم واجتماعهم ، اما
الرسول صلى الله عليه وسلم فكان يجهر بالدعوه والعباده بين ظهراني المشركين ،لا يصرفه عن
ذلك شئ ، ولكن كان يجتمع مع المسلمين سرا ؛ نظرا لصالحهم وصالح الاسلام ،وكانت
دار الارقم بن ابي الارقم المخزومي على الصفا ،وكانت بمعزل عن اعين الطغاه ومجالسهم ،
فاتخذها مركزا لدعوته ،ولاجتماعه بالمسلمين من السنه الخامسه من النبوه . وفي هذه الدار تربى
الجيل الذي حمل لواء الاسلام بعد ذلك
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
الحبشة»
كانت بدايه الاضطهادات في اواسط او اواخر السنه الرابعه من النبوة، بدات ضعيفه ثم لم
تزل يوما فيوما وشهرا فشهرا حتى اشتدت وتفاقمت في اواسط السنه الخامسه ، حتى ضاق
بهم المقام في مكه ، وراحوا يفكرون في حيله تنجيهم من هذا العذاب الاليم وفي
رجب سنه خمس من النبوه هاجر اول فوج من الصحابه الى الحبشة، كان مكونا من
اثني عشر رجلا واربع نسوه ،رئيسهم عثمان بن عفان ، ومعه السيده رقيه بنت رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم: انهما اول
بيت هاجر في سبيل الله بعد ابراهيم ولوط عليهما السلام . كان رحيل هؤلاء تسللا
في ظلمه الليل حتى لا تفطن لهم قريش، خرجوا الى البحر ، واتجهوا الى ميناء
شعيبة، وقيضت لهم الاقدار سفينتين تجاريتين ابحرتا بهم الى الحبشة، وفطنت لهم قريش ، فخرجت
في اثارهم ،لكن لما بلغت الى الشاطئ كانوا قد انطلقوا امنين ،واقام المسلمون في الحبشه
في احسن جوار. وفي رمضان من نفس السنه خرج النبي صلى الله عليه وسلم الى
الحرم ، وهناك جمع كبير من قريش ، كان فيه ساداتها وكبراؤها ،فقام فيهم ،
واخذ يتلو سوره النجم بغته ، ان اولئك الكفار لم يكونوا سمعوا كلام الله قبل
ذلك ،لان اسلوبهم كان هو العمل بما تواصى به بعضهم بعضا، من قولهم: (لا تسمعوا
لهذا القران والغوا فيه لعلكم تغلبون ) [26:41] فلما باغتهم بتلاوه هذه السوره ، وقرع
اذانهم كلام الهي رائع خلاب، لا يحيط بروعته وجلالته البيان، بقي كل واحد مصغيا اليه
، لا يخطر بباله شئ سواه ، حتى اذا تلا في خواتيم هذه السوره قوارع
تطير لها القلوب ثم قرا ( فاسجدوا لله واعبدوا ) [62:53] ثم سجد ، لم
يتمالك احد نفسه حتى خر ساجدا، وفي الحقيقه كانت روعه الحق قد صدعت العناد في
نفوس المستكبرين والمستهزئين، فما تمالكوا ان يخروا لله ساجدين. واسقط في ايديهم لما احسوا ان
جلال كلام الله لوى زمامهم ، فارتكبوا عين ما كانوا يبذلون قصارى جهدهم في محوه
وافنائه ،وقد توالى عليهم اللوم والعتاب من كل جانب ، ممن لم يحضر هذا المشهد
من المشركين، وعند ذلك كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافتروا عليه انه
عطف على اصنامهم بكلمه تقدير ، وانه قال عنها: “تلك الغرانقه العلى، وان شفاعتهن لترتجى”
جاءوا بهذا الافك المبين ، ليعتذروا عن سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وليس
يستغرب هذا من قوم كانوا يؤلفون الكذب ، ويطيلون الدس والافتراء. وبلغ هذا الخبر الى
مهاجري الحبشه ،ولكن في صوره تختلف تماما عن صورته الحقيقيه ، بلغهم ان قريشا اسلمت
، فرجعوا الى مكه في شوال من نفس السنه ، فلما كانوا دون مكه ساعه
من نهار ، وعرفوا جليه الامر ، رجع منهم من رجع الى الحبشه ، ولم
يدخل مكه منهم احد الا مستخفيا ، او في جوار رجل من قريش . ثم
اشتد عليهم وعلى المسلمين البلاء والعذاب من قريش وسطت بهم عشائرهم ، فقد كان صعب
على قريش ما بلغها عن النجاشي من حسن الجوار ،ولم ير رسول الله صلى الله
عليه وسلم بدا من ان يشير على اصحابه بالهجره الى الحبشه مره اخرى ،وكانت هذه
الهجره الثانيه اشق من سابقتها ، فقد تيقظت لها قريش وقررت احباطها ، بيد ان
المسلمين كانوا اسرع ويسر الله لهم السفر ، فانحازوا الى نجاشي الحبشه قبل ان يدركوا.
وفي هذه المره هاجر من الرجال ثلاثه وثمانون رجلا ،وثمان عشره او تسع عشره امراة
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
قريش تحاول اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم
»
وبعد فشل قريش وخيبتهم مع ابي طالب عادوا الى ضراوتهم وتنكيلهم باشد مما كان قبل
ذلك ، وخلال هذه الايام نشات في طغاتهم فكره اعدامه صلى الله عليه وسلم، وكانت
هذه الفكره وتلك الضراوه هي التي تسببت في تقويه الاسلام ببطلين جليلين من ابطال مكة،
وهما: حمزه بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضى الله عنهما. فمن تلك الضراوه ان
عتيبه بن ابي لهب اتى يوما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
انا اكفر ب (النجم اذا هوي) و (بالذي دنا فتدلى ) ثم تسلط عليه بالاذى
، وشق قميصه ، وتفل في وجهه ، الا ان البزاق لم يقع عليه ،
وحينئذ دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال اللهم سلط عليه كلبا من كلابك
،وقد استجيب دعاؤه صلى الله عليه وسلم ، فقد خرج عتيبه مره في نفر من
قريش ، حتى نزلوا في مكان من الشام يقال له الزرقاء ، فطاف بهم الاسد
تلك الليله ، فجعل عتيبه يقول : يا ويل اخي ، وهو والله اكلي كما
دعا محمد علي، قتلني وهو بمكة، وانا بالشام، فغدا عليه الاسد من بين القوم واخذ
براسه فقتله. ومنها ما ذكر ان عقبه بن ابي معيط وطئ على رقبته الشريفه وهو
ساجد حتى كادت عيناه تبرزان . ومما يدل على ان طغاتهم كانوا يريدون قتله صلى
الله عليه وسلم ما رواه ابن اسحاق في حديث طويل قال : قال ابوجهل :
يا معشر قريش ان محمدا قد ابى الا ما ترون من عيب ديننا ، وشتم
ابائنا ،وتسفيه احلامنا ،وشتم الهتنا ، واني اعاهد الله لاجلسن له بحجر ما اطيق حمله
، فاذا سجد في صلاته فضخت به راسه ، فاسلموني عند ذلك او امنعوني ،
فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم ، قالوا: والله لا نسلمك لشيء
ابدا، فامض لما تريد . فلما اصبح ابو جهل، اخذ حجرا كما وصف، ثم جلس
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما
كان يغدو، فقام يصلي، وقد غدت قريش فجلسوا في انديتهم ، ينتظرون ما ابوجهل فاعل
، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل ابو جهل الحجر ثم اقبل
نحوه حتى اذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره
، حتى قذف الحجر من يده وقامت اليه رجال قريش فقالوا له: ما لك يا
ابا الحكم ؟قال قمت اليه لافعل به ما قلت لكم البارحه ، فلما دنوت منه
عرض لي دونه فحل من الابل ، ولا والله ما رايت مثل هامته ، ولا
مثل قصرته (اي عنقه) ولا انيابه لفحل قط فهم بي ان ياكلني . فذكر ان
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ذلك جبريل عليه السلام لو دنا لاخذه
. اما طغاه فريش فلم تزل فكره الاعدام تنضج في قلوبهم ، روى ابن اسحاق
عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال : حضرتهم وقد اجتمعوا في الحجر ، فذكروا
رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فقالوا : ما راينا مثل ما صبرنا عليه من
امر هذا الرجل ، لقد صبرنا منه على امر عظيم ، فبينا هم كذلك اذ
طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاقبل يمشي حتى استلم الركن ،ثم مر
بهم طائفا بالبيت ، فغمزوه ببعض القول ، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فلما مر بهم الثانيه غمزوه بمثلها ، فعرفت ذلك في وجهه ،
ثم مر بهم الثالثه فغمزوه بمثلها ، فوقف ثم قال : اتسمعون يا معشر قريش
، اما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح ، فاخذت القوم كلمته ، حتى ما
منهم رجل الا كانما على راسه طائر واقع حتى ان اشدهم فيه ليرفؤه باحسن ما
يجد ،ويقول : انصرف يا ابا القاسم ، فوالله ما كنت جهولا . فلما كان
الغد اجتمعوا كذلك يذكرون امره اذ طلع عليهم ، فوثبوا اليه وثبه رجل واحد ،
واحاطوا به ، فلقد رايت رجلا منهم اخذ بمجمع ردائه ، وقام ابو بكر دونه
، وهو يبكي ويقول : اتقتلون رجلا ان يقول ربي الله؟
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
وفاه ابي طالب
»
الح المرض بابي طالب ، فلم يلبث ان وافته المنيه ،وكانت وفاته في رجب سنه
عشر من النبوه بعد الخروج من الشعب بسته اشهر ولما حضرته الوفاه دخل عليه النبي
صلى الله عليه وسلم وعنده ابو جهل ، فقال : اي عم قل : لا
اله الا الله، كلمه احاج لك بها عند الله ، فقال ابو جهل وعبد الله
بن ابي اميه : يا ابا طالب ترغب عن مله عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلماه
حتى قال اخر شئ كلمهم به : على مله عبد المطلب فقال النبي صلى الله
عليه وسلم لاستغفرن لك ما لم انه عنك ،فنزلت : ( ما كان للنبي والذين
امنوا ان يستغفروا للمشركين ولو كانوا اولي قربى من بعد ما تبين لهم انهم اصحاب
الجحيم ) ونزلت (انك لا تهدي من احببت ) ومع ان ابا طالب كان الحصن
الذي تحتمي به الدعوه الاسلاميه من هجمات الكبراء والسفهاء ، الا انه بقي على مله
الاشياخ من اجداده ، فلم يفلح كل الفلاح . ففي الصحيح عن العباس بن عبدالمطلب
انه قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما اغنيت عن عمك ، فانه كان يحوطك
ويغضب لك ؟قال : هو في ضحضاح من نار ، ولولا انا لكان في الدرك
الاسفل من النار.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
وفاه ام المؤمنين خديجه بنت خويلد
»
وبعد وفاه ابي طالب بنحو شهرين توفيت ام المؤمنين خديجه رضي الله عنها، كانت وفاتها
في شهر رمضان في السنه العاشره من النبوه ولها خمس وستون سنة، ورسول الله صلى
الله عليه وسلم اذ ذاك في الخمسين من عمره . ان خديجه كانت من نعم
الله الجليله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقيت معه ربع قرن تحن عليه
ساعه قلقه وتؤازره في احرج اوقاته، وتعينه على ابلاغ رسالته، وتشاركه في مغارم الجهاد المر
وتواسيه بنفسها ومالها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: امنت بي حين كفر بي
الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، واشركتني في مالها حين حرمني الناس ، ورزقني الله ولدها،
وحرم ولد غيرها. وفي الصحيح عن ابي هريره قال : اتى جبريل النبي صلى الله
عليه وسلم، فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه خديجة، قد اتت، معها
اناء فيه ادام او طعام او شراب، فاذا هي اتتك فاقرا عليها السلام من ربها،
وبشرها ببيت في الجنه من قصب لا صخب فيه ولا نصب
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
عام الحزن
»
وفيه وقعت حادثتان مؤلمتان، وفاه ابي طالب ثم خديجه ام المؤمنين، خلال ايام معدوده ،فاهتزت
مشاعر الحزن والالم في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لم تزل
تتوالى عليه المصائب من قومه ، فقد تجراوا عليه ،وكاشفوه بالاذى بعد موت ابي طالب
،فازداد غما على غم ،حتى يئس منهم ,وخرج الى الطائف ، رجاء ان يستجيبوا لدعوته
او يئووه وينصروه على قومه ، فلم ير من يئوي ولم ير ناصرا، واذوه مع
ذلك اشد الاذى ونالوا منه ما لم ينله قومه. وكما اشتدت وطاه اهل مكه على
النبي صلى الله عليه وسلم اشتدت على اصحابه، حتى التجا رفيقه ابو بكر الصديق رضي
الله عنه الى الهجره عن مكه فخرج حتى بلغ برك الغماد ، يريد الحبشه فارجعه
ابن الدغنه في جواره قال ابن اسحاق : لما هلك ابو طالب نالت قريش من
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاذى ما لم تطمع به في حياه ابي
طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على راسه ترابا ، ودخل بيته والتراب
على راسه، فقامت اليه احدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ، ورسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول لها:لا تبكي يا بنيه فان الله مانع اباك، قال ويقول
بين ذلك : ما نالت مني قريش شيئا اكرهه حتى مات ابو طالب . ولاجل
توالي مثل هذا الالام في هذا العام سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عام
الحزن، وبهذا اللقب صار معروفا في التاريخ ومع هذا كله كان المسلمون يعرفون منذ اول
يوم لاقوا فيه الشده والاضطهاد بل ومن قبله ان الدخول في الاسلام ليس معناه جر
المصائب والحتوف، بل ان الدعوه الاسلاميه تهدف منذ اول يومها الى القضاء على الجاهليه الجهلاء
ونظامها الغاشم، وان من اهدافها الاساسيه بسط النفوذ على الارض والسيطره على الموقف السياسي في
العالم ، لتقود الامه الانسانيه والجمعيه البشريه الى مرضاه الله . وتخرجهم من عباده العباد
الى عباده الله . وكان القران ينزل بهذه البشارات مره بالتصريح واخرى بالكنايه ففي تلك
الفترات القاصمه التي ضيقت الارض على المسلمين وكادت تخنقهم ،وتقضي على حياتهم ،كانت تنزل الايات
بما جرى بين الانبياء السابقين وبين اقوامهم الذين قاموا بتكذيبهم والكفر بهم ، وكانت تشتمل
هذه الايات على ذكر الاحوال التي تطابق تماما احوال مسلمي مكه وكفارها، ثم تذكر هذه
الايات ما تمخضت عنه تلك الاحوال من اهلاك الكفره والظالمين وايراث عباد الله الارض والديار،
فكانت في هذه القصص اشارات واضحه الى فشل اهل مكه في المستقبل ونجاح المسلمين مع
نجاح الدعوه الاسلامية. قال خباب بن الارت: اتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد
برده ، وهو في ظل الكعبه ،وقد لقينا من المشركين شده ، فقلت: الا تدعو
الله ، فقعد وهو محمر وجهه ، فقال : لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط
الحديد ما دون عظامه من لحم وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه ،وليتمن الله هذا
الامر حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت ما يخاف الا الله والذئب على غنمه
ولكنكم تستعجلون . ولم تكن هذه البشارات مخفيه مستوره بل كانت فاشيه مكشوفه ، يعلمها
الكفره ، كما كان يعلمها المسلمون ، حتى كان الاسود بن المطلب وجلساؤه اذا راوا
اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تغامزوا بهم، وقالوا: قد جاءكم ملوك الارض سيغلبون على
ملوك كسرى وقيصر ثم يصفرون ويصفقون . واما هذه البشارات بالمستقبل المجيد المستنير في الدنيا
، مع ما فيه من الرجاء الصالح الكبير البالغ الى النهايه في الفوز بالجنه ،
كان الصحابه يرون ان الاضطهادات التي تتوالى عليهم من كل جانب ،والمصائب التي تحيط بهم
من كل الارجاء ، ليست الا “سحابه صيف عن قليل تقشع ” هذا ولم يزل
الرسول صلى الله عليه وسلم يغذي ارواحهم برغائب الايمان ، ويزكي نفوسهم بتعليم الحكمه والقران
، ويربيهم تربيه دقيقه عميقه ، يعلو بنفوسهم الى منازل سمو الروح ونقاء القلب ،
ونظافه الخلق ، والتحرر من سلطان الماديات ،والمقاومه للشهوات ، والنزوع الى رب الارض والسماوات
،ويذكي جمره قلوبهم ، ويخرجهم من الظلمات الى النور ،وياخذهم بالصبر على الاذى والصفح الجميل
وقهر النفس، فازدادوا رسوخا في الدين ،وعزوفا عن الشهوات ،وتفانيا في سبيل مرضاه الله، وحنينا
الى الجنه ،وحرصا على العلم ، وفقها في الدين ومحاسبه للنفس ، وقهرا للشهوات، وغلبه
على العواطف ، وتسيطرا على الثائرات والهائجات، وتقيدا بالصبر والهدوء والوقار.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
استماع الجن للنبي صلى الله عليه وسلم وايمانهم
»
عندما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعا الي مكه مكث بوادي
نخله اياما، وحدث ان قام صلى الله عليه وسلم، من جوف الليل يصلي، فمر به
النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى وهم سبعه نفر من جن اهل نصيبين
فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولوا الى قومهم منذرين، قد امنوا واجابوا الى ما
سمعوا. وقد ذكرهم الله في موضعين من القران في سوره الاحقاف ( واذ صرفنا اليك
نفرا من الجن يستمعون القران فلما حضروه قالوا انصتوا فلما قضي ولوا الى قومهم منذرين
قالوا يا قومنا انا سمعنا كتابا انزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي
الى الحق والى طريق مستقيم يا قومنا اجيبوا داعي الله وامنوا به يغفر لكم من
ذنوبكم ويجركم من عذاب اليم وفي سوره الجن ( قل اوحي الي انه استمع نفر
من الجن فقالوا انا سمعنا قرانا عجبا يهدى الى الرشد فامنا به ولن نشرك بربنا
احدا) الى تمام الايه الخامسه عشره . وحقا كان هذا الحادث نصرا اخر امده الله
من كنوز غيبه المكنون بجنوده التي لا يعلمها الا هو، ثم ان الايات التي نزلت
بصدد هذا الحادث كانت في طيها بشارات بنجاح دعوه النبي صلى الله عليه وسلم، وان
اي قوه من قوات الكون لا تستطيع ان تحول بينها وبين نجاحها ( ومن لا
يجب داعي الله فليس بمعجز في الارض وليس له من دونه اولياء ،واولئك في ضلال
مبين ) ( وانا ظننا ان لن نعجز الله في الارض ولن نعجزه هربا)
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
عرض الاسلام على القبائل
»
في ذي القعده سنه عشر من النبوه في اواخر يونيو او اوائل يوليو لسنه 619
م عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الى مكه ؛ليستانف عرض الاسلام على القبائل
والافراد ،ولاقتراب الموسم كان الناس ياتون الى مكه رجالا ، وعلى كل ضامر ياتين من
كل فج عميق ، لقضاء فريضه الحج وليشهدوا منافع لهم ،ويذكروا الله في ايام معلومات،
فانتهز رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الفرصه كالعادة، فاتاهم قبيله قبيله يعرض عليهم
الاسلام ، ويدعوهم اليه ،كما كان يدعوهم منذ السنه الرابعه من النبوه .. و من
القبائل الذين اتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعاهم وعرض نفسه عليهم بنو
عامر بن صعصعه ، ومحارب بن خصفه وفزاره ،وغسان ، ومره ، وحنيفة، وسليم ،وعبس
، وبنو نصر ، وبنو البكاء ،،وكنده ،وكلب ،والحارث بن كعب ،وعذره ،والحضارمه ، فلم
يستجب منهم احد يقول ربيعه بن عباد. وهو احد من حضر ذلك الموسم: اني لغلام
شاب مع ابي بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من
العرب، فيقول: يا بني فلان، اني رسول الله اليكم، يامركم ان تعبدوا الله ولا تشركوا
به شيئا، وان تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الانداد، وان تؤمنوا بي وتصدقوا
بي وتمنعوني، حتى ابين عن الله ما بعثني به. وخلفه رجل احول وضيء (اي جميل
نظيف) له غديرتان (اي ضفيرتان) عليه حله عدنية، فاذا فرغ رسول الله صلى الله عليه
وسلم من قوله وما دعا اليه، قال هذا الرجل: يا بني فلان، ان هذا انما
يدعوكم الى ان تسلخوا اللات والعزى من اعناقكم، وحلفاءكم من بني مالك بن اقيش، الى
ما جاء به من البدعه والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه. فقلت لابي: من هذا
الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول؟ قال: هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب، ابو
لهب. واتى كنده في منازلهم، وفيهم سيد يقال له مليح، فدعاهم الى الله عز وجل،
وعرض عليهم نفسه فابوا عليه. واتى بني عامر بن صعصعه فدعاهم الى الله عز وجل
وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له “بيحره بن فراس”: والله لو اني
اخذت هذا الفتى من قريش لاكلت به العرب، ثم قال له: ارايت ان نحن بايعناك
على امرك ثم اظهرك الله على من خالفك، ايكون لنا الامر (اي الحكم والملك) من
بعدك؟ قال: الامر الى الله يضعه حيث يشاء، فقال له: افنهدف نحورنا للعرب دونك، فاذا
اظهرك الله كان الامر لغيرنا؟ لا حاجه لنا بامرك، فابوا عليه. فلما عاد الناس رجعت
بنو عامر الى شيخ لهم قد كانت ادركته السن حتى لا يقدر ان يحضر معهم
المواسم، فكانوا اذا رجعوا اليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك
العام سالهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش، ثم احد بني عبد
المطلب، يزعم انه نبي، يدعونا الى ان نمنعه ونقوم معه ونخرج به الى بلادنا، فوضع
الشيخ يديه على راسه ثم قال: يا بني عامر هل لها من تلاف، هل لذناباها
من مطلب (يقصد هل هناك سبيل لتدارك الموقف واللحاق بهذا الشرف) والذي نفس فلان بيده
ما تقولها اسماعيلي قط (اي من بني اسماعيل بن ابراهيم عليهما السلام) وانها لحق فاين
رايكم كان عنكم. كذلك اتى صلى الله عليه وسلم بني حنيفه في منازلهم فدعاهم الى
الله، وعرض عليهم نفسه، فلم يكن احد من العرب اقبح عليه ردا منهم. واتى بطنا
من بني كلب يقال لهم بنو عبد الله،فدعاهم الى الله،وعرض عليهم نفسه، حتى انه ليقول
لهم: يا بني عبد الله،ان الله قد احسن اسم ابيكم، فلم يقبلوا منه ما عرض
عليهم . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من امره، كلما اجتمع
له الناس بالموسم اتاهم يدعو القبائل الى الله والى الاسلام ويعرض عليهم نفسه وما جاء
به من الله من الهدى والرحمة، ولا يسمع بقادم يقدم مكه من العرب، له اسم
وشرف الا تصدى له فدعاه وعرض عليه ما عنده.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
الاسراء والمعراج وفرض الصلاة
»
وبينما النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرحله التي كانت دعوته تشق فيها طريقا
بين النجاح والاضطهاد ،وكانت تتراءى نجوم ضئيله تتلمح في افاق بعيده ،وقع حادث الاسراء والمعراج
. وقد اختلف في تعيين زمنه،والراجح ان الاسراء انما وقع اما قبيل بيعه العقبه الاولى
او بين بيعتي العقبه الاولى والثانية، وفي هذه الحادثه اسري برسول الله صلى الله عليه
وسلم ، بجسده على الصحيح ، من المسجد الحرام الى بيت المقدس راكبا على البراق
صحبه جبريل عليهما الصلاه والسلام ، فنزل هناك ، وصلى بالانبياء اماما ، وربط البراق
بحلقه باب المسجد ، وقد حكى النبي صلى الله عليه وسلم تفاصيل تلك الرحلة، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينا انا نائم في الحجر اذ جاءني جبريل فهمزني
بقدمه، فجلست فلم ار شيئا فعدت الى مضجعي؛ فجاءني الثانيه فهمزني بقدمه، فجلست فلم ار
شيئا، فعدت الى مضجعي؛ فجاءني الثالثه فهمزني بقدمه، فجلست فاخذ بعضدي، فقمت معه، فخرج بي
الى باب المسجد، فاذا دابه ابيض، بين البغل والحمار، في فخذيه جناحان يحفز بهما (اي
يدفع) رجليه، يضع يده في منتهى طرفه، فحملني عليه ثم خرج معي لا يفوتني ولا
افوته. قال الحسن في حديثه: فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى جبريل عليه
السلام معه حتى انتهى به الى بيت المقدس، فوجد فيه ابراهيم وموسى وعيسى في نفر
من الانبياء عليهم السلام فامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ثم عرج
به في تلك الليله من بيت المقدس الى السماء الدنيا ، فاستفتح له جبريل ففتح
له ، فراى هنالك ادم ابا البشر ، فسلم عليه فرحب به ،ورد عليه السلام
، واقر بنبوته ، واراه الله ارواح الشهداء عن يمينه وارواح الاشقياء عن يساره .
ثم عرج به الى السماء الثانيه ، فاستفتح له ، فراى فيها يحيى بن زكريا
وعيسى بن مريم ، فلقيهما وسلم عليهما فردا عليه ، ورحبا به ،واقرا بنبوته .
ثم عرج به الى السماء الثالثه ، فراى فيها يوسف ، فسلم عليه ،فرد عليه
ورحب به واقر بنبوته . ثم عرج به الى السماء الرابعه ، فراى فيها ادريس
،فسلم عليه ،ورحب به واقر بنبوته . ثم عرج به الى السماء الخامسه فراى فيها
هارون بن عمران ، فسلم عليه ، ورحب به ، واقر بنبوته. ثم عرج به
الى السماء السادسه فلقي فيها موسى بن عمران ، فسلم عليه ورحب به ، واقر
بنبوته . فلما جاوزه بكى موسى ، فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال :
ابكي لان غلاما بعث من بعدي يدخل من الجنه من امته اكثر مما يدخلها من
امتي . ثم عرج الى السماء السابعه ، فلقي فيها ابراهيم عليه السلام ، فسلم
عليه ، ورحب به واقر بنبوته . ثم رفع الى سدره المنتهى ، ثم رفع
له البيت المعمور . ثم عرج به الى الجبار جل جلاله ،فدنا منه حتى كان
قاب قوسين او ادنى ، فاوحى الى عبده ما اوحى ، وفرض عليه خمسين صلاه
، فرجع حتى مر على موسى ، فقال له : بم امرك ؟ قال بخمسين
صلاه : قال : ان عشيرتك لا تطيق ذلك ، ارجع الى ربك فاساله التخفيف
لامتك ،فالتفت الى جبريل كانه يستشيره في ذلك فاشار ان نعم ، ان شئت، فعلا
به جبريل حتى اتى به الجبار تبارك وتعالى، وهو في مكانه، فوضع عنه عشرا ،
ثم انزل حتى مر بموسى ،فاخبره ،فقال : ارجع الى ربك فاساله التخفيف ، فلم
يزل يتردد بين موسى وبين الله عز وجل ،حتى جعلها خمسا ،فامره موسى بالرجوع وسؤال
التخفيف ، فقال قد استحييت من ربي ، ولكني ارضى واسلم، فلما بعد نادى مناد
: قد امضيت فريضتي وخففت عن عبادي وقد وقع حادث شق صدره صلى الله عليه
وسلم هذه المره ايضا، وقد راى ضمن هذه الرحله امورا عديدة: عرض عليه اللبن والخمر
فاختار اللبن فقيل: هديت الفطره اما انك لو اخذت الخمر غوت امتك. وراى اربعه انهار
في الجنه نهرين ظاهران ونهران باطنان، والظاهران هما النيل والفرات، ومعنى ذلك ان رسالته ستتوطن
الاوديه الخصبه في النيل والفرات، وسيكون اهلها حمله الاسلام جيلا بعد جيل، وليس معناه ان
مياه النهرين تنبع من الجنة، وراى مالك خازن النار، وهو لا يضحك، وليس على وجهه
بشر وبشاشه وكذلك راى الجنه والنار. وراى اكله اموال اليتامى ظلما لهم مشافر كمشافر الابل،
يقذفون في افواههم قطعا من نار كالافهار(اي كالاحجار) فتخرج من ادبارهم. وراى اكله الربا لهم
بطون كبيرة، لا يقدرون لاجلها ان يتحولوا عن مكانهم، ويمر بهم ال فرعون حين يعرضون
على النار فيطئونهم. وراى الزناه بين ايديهم لحم سمين طيب الى جنبه لحم غث منتن،
ياكلون من الغث المنتن، ويتركون الطيب السمين. وراى النساء اللاتي يدخلن على الرجال من ليس
من اولادهم، راهن معلقات بثديهن. وراى عيرا من اهل مكه في الاياب والذهاب وقد دلهم
على بعير ند لهم (اي تاه) ، وشرب ماءهم من اناء مغطى وهم نائمون ثم
ترك الاناء مغطى، وقد صار ذلك دليلا على صدق دعواه في صباح ليله الاسراء. قال
ابن القيم: فلما اصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه اخبرهم بما اراه
الله عز وجل من اياته الكبرى فاشتد تكذيبهم له واذاهم واستضرارهم عليه، وسالوه ان يصف
لهم بيت المقدس فجلاه الله له، حتى عاينه، فطفق يخبرهم عن اياته، ولا يستطيعون ان
يردوا عليه شيئا، واخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه، واخبرهم عن وقت قدومها واخبرهم عن
البعير الذي يقدمها وكان الامر كما قال، فلم يزدهم ذلك الا نفورا، وابى الظالمون الا
كفورا. فقال اكثر الناس: “هذا والله الامر البين (الامر اي العجيب المنكر) والله ان العير
لتطرد شهرا من مكه الى الشام مدبره وشهرا مقبلة، افيذهب ذلك محمد في ليله واحده
ويرجع الى مكة. قال: فارتد كثير ممن كان اسلم، وذهب الناس الى ابي بكر فقالوا
له: هل لك يا ابا بكر في صاحبك، يزعم انه قد جاء هذه الليله بيت
المقدس وصلى فيه ورجع الى مكة، فقال لهم ابو بكر: انكم تكذبون عليه. فقالوا: بلى
هاهو ذاك في المسجد يحدث به الناس، فقال ابو بكر: والله لئن كان قاله لقد
صدق، فما يعجبكم من ذلك، فوالله انه ليخبرني ان الخبر لياتيه من الله من السماء
الى الارض في ساعه من ليل او نهار فاصدقه، فهذا ابعد مما تعجبون منه ثم
اقبل حتى انتهى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، احدثت
هؤلاء القوم انك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: نعم. قال: يا نبي الله فصفه
لي، فاني قد جئته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرفع لي حتى نظرت
اليه. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفه لابي بكر ويقول ابو بكر صدقت،
اشهد انك رسول الله. حتى اذا انتهى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابي
بكر: وانت يا ابا بكر الصديق. فيومئذ سماه “الصديق”.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
الهجره الى المدينة»
هجره الرسول صلى الله عليه وسلم عندما اشتد اذى قريش لرسول الله صلى الله عليه
وسلم اذن الله لرسوله بالهجره الى المدينه حيث انصار الله ورسوله.وفى الليله التى اختارتها قريش
لتنفيذ جريمه القتل فى سيد ولد ادم صلى الله عليه وسلم وبعد ان حاصروه فى
بيته ليقتلوه، اعمى جبار السموات والارض اعينهم عن نبيه عليه افضل الصلاه واتم التسليم واخرجه
من بينهم دون ان يروه،وقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ابى بكر فاصطحبه
معه فى طريق هجرته. ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم ان قريشا
ستتبعه لتقتله وانهم لا شك سيفكرون انه خرج يقصد اصحابه فى المدينه الى الشمال من
مكه فقد اتجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكمته جنوبا ليضللهم حتى وصل الى
جبل ثور، وكمن هو وابو بكر فى غار فى قمه الجبل ثلاثه ايام حتى يهدا
الطلب. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وابو بكر قد استاجرا عبد الله بن
اريقط ليدلهما على الطريق، فخرج بهما بعد ثلاثه ايام الى المدينه متجنبا فى ذلك الطريق
الطبيعى اليها وسالكا طريقا اخرى مهجوره لا يعرفها الا قليل من الناس، حتى وصل الى
قباء فتلقاه المسلمون هناك وقد حملوا السلاح ايذانا ببدء عهد النصره والمنعة.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
طلائع الهجرة»
وبعد ان تمت بيعه العقبه الثانية، ونجح الاسلام في تاسيس وطن له وسط صحراء تموج
بالكفر والجهاله وهو اخطر كسب حصل عليه الاسلام منذ بدايه دعوته اذن رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالهجره الى هذا الوطن. ولم يكن معنى الهجره الا اهدار المصالح، والتضحيه
بالاموال، والنجاه بالنفس فحسب، مع الاشعار بانه مستباح منهوب، قد يهلك في اوائل الطريق او
نهايتها، وبانه يسير نحو مستقبل مبهم، لا يدري ما يسفر عنه من قلاقل واحزان. وبدا
المسلمون يهاجرون وهم يعرفون كل ذلك، واخذ المشركون يحولون بينهم وبين خروجهم، لما كانوا يحسون
من الخطر، وهاك نماذج من ذلك: 1 كان من اول المهاجرين ابو سلمة، هاجر قبل
العقبه الكبرى بسنه هو وزوجته وابنه، فلما اجمع على الخروج قال له اصهاره: هذه نفسك
غلبتنا عليها، ارايت صاحبتنا هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ فاخذوا منه زوجته، وغضب
ال ابي سلمه لرجلهم، فقالوا: لا نترك ابننا معها اذ نزعتموها من صاحبنا، وتجاذبوا الغلام
بينهم فخلعوا يده، وذهبوا به. وانطلق ابو سلمه وحده الى المدينة، وكانت ام سلمه بعد
ذهاب زوجها وضياع ابنها تخرج كل غداه بالابطح تبكي حتى تمسى، ومضى على ذلك نحو
سنة، فرق لها احد ذويها وقال: الا تخرجون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها وولدها
فقالوا لها: الحقي بزوجك ان شئت، فاسترجعت ابنها من عصبته، وخرجت تريد المدينه رحله تبلغ
خمسمائه كيلو متر وليس معها احد من خلق الله، حتى اذا كانت بالتنعيم لقيها عثمان
بن طلحه بن ابى طلحة، وبعد ان عرف حالها شيعها حتى اقدمها الى المدينة، فلما
نظر الى قباء قال: زوجك في هذه القريه فادخليها على بركه الله، ثم انصرف راجعا
الى مكة. 2 ولما اراد صهيب الهجره قال له كفار قريش: اتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر
مالك عندنا وبلغت الذي بلغت، ثم تريد ان تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك.
فقال لهم صهيب: ارايتم ان جعلت لكم مالي، اتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فاني قد
جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ربح صهيب ربح
صهيب. 3 وتواعد عمر بن الخطاب، وعياش بن ابي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل
موضعا يصبحون عنده، ثم يهاجرون الى المدينة، فاجتمع عمر وعياش وحبس عنهما هشام. ولما قدما
المدينه ونزلا بقباء قدم ابو جهل واخوه الحارث الى عياش وام الثلاثه واحده فقالا له:
ان امك قد نذرت ان لا يمس راسها مشط ، ولا تستظل بشمس حتى تراك،
فرق لها. فقال له عمر: يا عياش، انه والله ان يريدك القوم الا ليفتنوك عن
دينك فاحذرهم ، فوالله لو اذى امك القمل لامتشطت، ، ولو قد اشتد عليها حر
مكه لاستظلت، فابي عياش الا الخروج معهما؛ ليبر قسم امه، فقال له عمر: اما اذ
قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فانها ناقه نجيبه ذلول، فالزم ظهرها، فان رابك
من القوم ريب فانج عليها، فخرج عليها معهما، حتى اذا كانوا ببعض الطريق قال له
ابو جهل: يا ابن اخي والله لقد استغلظت بعيري هذا، افلا تعقبني على ناقتك هذه؟
قال: بلى، فاناخ واناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالارض عدوا عليه فاوثقاه وربطاه، ثم دخلا
به مكه نهارا موثقا، وقالا: يا اهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا.
هذه ثلاثه نماذج لما كان المشركون يفعلونه بمن يريد الهجره اذا علموا بذلك. ولكن مع
كل ذلك خرج الناس ارسالا يتبع بعضهم بعضا. وبعد شهرين وبضعه ايام من بيعه العقبه
الكبرى لم يبق بمكه من المسلمين الا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابوبكر وعلي
اللذان اقاما بامره لهما، والا من احتبسه المشركون كرها، وقد اعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم جهازه ينتظر متى يؤمر بالخروج واعد ابو بكر جهازه. روى البخاري عن عائشه
قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين، اني اريت دار هجرتكم ذات نخل
بين لابتين (اللابة: ارض يعلوها حجاره سود، وكان يحيط بالمدينه جبلان من الحجاره السود) فهاجر
من هاجر الى المدينة، ورجع عامه من كان هاجر بارض الحبشه الى المدينة، وتجهز ابو
بكر للهجرة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلك فاني ارجو ان
يؤذن لي، فقال له ابو بكر: وهل ترجو ذلك بابي انت؟ قال: نعم، فحبس ابو
بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
مطارده قريش للنبي صلي الله عليه وسلم
»
غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته في ليله 27 من شهر صفر سنه
14 من النبوه الموافق 13 سبتمبر سنه 622 م. واتى الى دار رفيقه ابي بكر
رضي الله عنه. ثم غادرا منزل الاخير من باب خلفي ليخرجا من مكه على عجل،
وقبل ان يطلع الفجر. ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ان قريشا ستجتهد
في الطلب، وان الطريق الذي ستتجه اليه الانظار لاول وهله هو طريق المدينه الرئيسي المتجه
شمالا، فقد سلك الطريق الذي يضاده تماما، وهو الطريق الواقع جنوب مكة، والمتجه نحو اليمن.
سلك هذا الطريق نحو خمسه اميال، حتى بلغ جبلا يعرف بجبل ثور، وهذا جبل شامخ،
وعر الطريق، صعب المرتقى، ذا احجار كثيرة، فحفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فحمله ابو بكر حتى انتهى به الى غار في قمه الجبل، عرف في التاريخ بغار
ثور. ولما انتهيا الى الغار قال ابو بكر: والله لا تدخله حتى ادخله قبلك، فان
كان فيه شئ اصابني دونك، فدخل فنظر فيه، ووجد في جانبه ثقبا فشق ازاره وسدها
به، وبقي منها اثنان فوضع فيهما رجليه، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
ادخل. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع راسه في حجرابي بكر ونام، فلدغ
ابو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافه ان ينتبه رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مالك يا
ابا بكر؟ قال: لدغت، فداك ابي وامي، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب
ما يجده. وكمنا في الغار ثلاث ليال، ليله الجمعه وليله السبت وليله الاحد. وكان عبد
الله بن ابي بكر يبيت عندهما. وامر ابو بكر ابنه عبد الله ان يتسمع لهما
ما يقول الناس فيهما نهارا ثم ياتيهما اذا امسى بما يكون في ذلك اليوم من
الخبر. وامر عامر بن فهيره مولاه ان يرعى غنمه نهارا ثم يريحها عليهما،وياتيهما اذا امسى
في الغار، وكانت اسماء بنت ابي بكر تاتيهما من الطعام اذا امست بما يصلحهما. اما
قريش فقد جن جنونها حينما تاكد لديها افلات رسول الله صلى الله عليه وسلم صباح
ليله تنفيذ المؤامرة. فاول ما فعلوا بهذا الصدد انهم ضربوا عليا، وسحبوه الى الكعبه وحبسوه
ساعة، علهم يظفرون بخبرهما. ولما لم يحصلوا من علي على شيء جاءوا الى بيت ابي
بكر، وطرقوا بابه، فخرجت اليهم اسماء بنت ابي بكر، فقالوا لها: اين ابوك؟ قالت: لا
ادري والله اين ابي؟ فرفع ابو جهل يده فلطم خدها لطمه طرح منها قرطها. وقررت
قريش في جلسه طارئه مستعجله استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها القبض على الرجلين، فوضعت
جميع الطرق النافذه من مكه (في جميع الجهات) تحت المراقبه المسلحه الشديدة، كما قررت اعطاء
مكافاه ضخمه قدرها مائه ناقه بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما الى قريش حيين او
ميتين، كائنا من كان. وحينئذ هب الفرسان والمشاه وقصاص الاثر، وانتشروا في الجبال والوديان، والوهاد
والهضاب، لكن دون جدوى وبغير عائد. وقد وصل المطاردون الى باب الغار، ولكن الله غالب
على امره، روى البخاري عن انس عن ابي بكر قال: كنت مع النبي صلى الله
عليه وسلم في الغار فرفعت راسي، فاذا انا باقدام القوم، فقلت: يا نبي الله لو
ان بعضهم طاطا بصره رانا. قال: اسكت يا ابا بكر، ما ظنك يا ابا بكر
باثنين الله ثالثهما. وقد كانت معجزه اكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد
رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم الا خطوات معدودة.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
في الطريق الي المدينه »
بعد ان خمدت نار الطلب، وتوقفت اعمال دوريات التفتيش، وهدات ثائرات قريش بعد استمرار المطارده
الحثيثه ثلاثه ايام بدون جدوى، تهيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه للخروج الى
المدينة. وكانا قد استاجرا عبدالله بن اريقط الليثي، وكان دليلا ماهرا بالطريق، وكان على دين
كفار قريش، وامناه على الرغم من ذلك، وسلما اليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث
ليال براحلتيهما، فلما كانت ليله الاثنين غره ربيع الاول سنه 1 ه / 16 سبتمبر
سنه 622 م جاءهما عبدالله بن اريقط بالراحلتين وحينئذ قال ابو بكر للنبي صلى الله
عليه وسلم: بابي انت يا رسول الله، خذ احدى هاتين، وقرب اليه افضلهما. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالثمن. واتتهما اسماء بنت ابي بكر رضي الله عنهما بسفرتهما،
ونسيت ان تجعل لها رباطا، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفره فاذا ليس لها رباط، فشقت
نطاقها باثنين (النطاق ما يربط به الوسط كالحزام) فعلقت السفره بواحد، وانتطقت بالاخر، فسميت ذات
النطاقين. ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وابو بكر رضي الله عنه، وارتحل
معهما عامر بن فهيرة، واخذهم الدليل عبدالله بن اريقط على طريق السواحل. واول ما سلك
بهم بعد الخروج من الغار انه سار في اتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم اتجه غربا
نحو الساحل، حتى اذا وصل الى طريق لم يالفه الناس اتجه شمالا على مقربه من
شاطئ البحر الاحمر، وسلك طريقا لم يكن يسلكه احد الا نادرا. ووقع لهم في الطريق
بعض الاحداث منها ما رواه 1لبخاري عن ابي بكر الصديق رضي الله عنه قال: اسرينا
ليلتنا (اي سرنا تلك الليلة) ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق، لا يمر
فيه احد، فرفعت لنا صخره طويله لها ظل لم تات عليها الشمس، فنزلنا عندها، وسويت
للنبي صلى الله عليه وسلم مكانا بيدي، ينام عليه، وبسطت عليه فروة، وقلت: نم يا
رسول الله، وانا انفض (اي اراقب) لك ما حولك، فنام، وخرجت انفض ما حوله، فاذا
انا براع مقبل بغنمه الى الصخرة، يريد منها مثل الذي اردنا (اي الراحة) فقلت له:
لمن انت يا غلام؟ فقال رجل من اهل المدينه او مكة. قلت: افي غنمك لبن؟
قال: نعم. قلت: افتحلب ؟ قال: نعم. فاخذ شاة، فقلت: انفض الضرع من التراب والشعر
والقذى، فحلب في كعب كثبه من لبن (الكثبة: القليل من الماء او اللبن او الطعام)
ومعي اداوه (وعاء) حملتها للنبي صلى الله عليه وسلم يرتوي منها يشرب ويتوضا، فاتيت النبي
صلى الله عليه وسلم فكرهت ان اوقظه، فوافقته حين استيقظ، فصببت من الماء على اللبن
حتى برد اسفله، فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قال: الم يان
الرحيل؟ قلت: بلى، قال: فارتحلنا. وكان من عاده ابي بكر رضي الله عنه انه كان
يركب خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وكان شيخا يعرف، ونبي الله صلى الله عليه
وسلم شاب لا يعرف، فيلقى الرجل ابا بكر فيقول: من هذا الرجل الذي بين يديك؟
فيقول هذا الرجل يهديني الطريق، فيحسب الحاسب انه يعني به الطريق، وانما يعني سبيل الخير.
وتبعهما في الطريق سراقه بن مالك،اتاه رجل وهو جالس في مجلس من مجالس قومه بني
مدلج، فقال: يا سراقه اني رايت انفا خيالا بالساحل، اراه محمدا واصحابه. قال سراقة: فعرفت
انهم هم ولكنني قلت له: انهم ليسوا هم، ولكنك رايت فلانا وفلانا انطلقوا الان امام
اعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، فامرت جاريتي ان تخرج فرسي، واخذت
رمحي فخرجت به من ظهر البيت، ثم اتيت فرسي، فركبتها، حتى دنوت منهم، فعثرت بي
فرسي فخررت عنها، فقمت، ففتحت كنانتي، فاستخرجت منها الازلام (وهي عصي كان يصنعها المشركون يستشيرون
بها الهتهم) فاستقسمت بها (اي عملت قرعة) اضرهم ام لا؟ فخرج الذي اكره فركبت فرسي
وعصيت الازلام، واقتربت حتى اذا سمعت قراءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا
يلتفت، وابو بكر يكثر الالتفات غاصت يدا فرسي في الارض، ، حتى بلغتا الركبتين، فخررت
عنها، ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمه اذا لاثر يديها غبار
ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالازلام، فخرج الذي اكره، فناديتهم بالامان، فوقفوا، فركبت فرسي
حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم ان امر رسول
الله صلى الله عليه وسلم ظاهر وانه ممنوع مني، فقلت له: ان قومك قد جعلوا
فيك الدية، واخبرتهم اخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزاني (اي
لم ياخذا مني شيئا) ولم يسالاني الا ان قال: اخف عنا، فسالته ان يكتب لي
كتابا بالامن يكون ايه بيني وبينه، فامر عامر بن فهيرة، فكتب له، ثم مضى رسول
الله صلى الله عليه وسلم. ومر صلى الله عليه وسلم في مسيره ذلك حتى مر
بخيمتي ام معبد الخزاعية، وكانت امراه تطعم وتسقي من مر بها، فسالاها: هل عندها شئ؟
فقالت: والله لو كان عندنا شئ ما حجبته عنكم فنظر رسول الله صلى الله عليه
وسلم الى شاه في جانب الخيمة، فقال: ما هذه الشاه يا ام معبد؟ قالت: شاه
ضعيفه ليس بها لبن، فقال: اتاذنين لي ان احلبها؟ قالت: نعم بابي وامي، ان رايت
بها حلبا فاحلبها. فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها، وسمى الله ودعا،
فدر اللبن بغزارة، فدعا باناء كبير يكفي جماعة، فحلب فيه حتى علته الرغوة، فسقاها، فشربت
حتى رويت، وسقى اصحابه حتى رووا، ثم شرب، وحلب فيها ثانيا، حتى ملا الاناء، ثم
غادره عندها فارتحلوا. فما لبثت ان جاء زوجها ابو معبد يسوق عنزات عجافا، فلما راى
اللبن عجب، فقال: من اين لك هذا ولا حلوبه في البيت؟ فقالت: لا والله الا
انه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، ومن حاله كذا وكذا، قال:
اني والله اراه صاحب قريش الذي تطلبه، صفيه لي يا ام معبد، فوصفته بصفاته الرائعه
بكلام رائع كان السامع ينظر اليه وهو امامه فقال ابو معبد: والله هذا صاحب قريش
الذي ذكروا من امره ما ذكروا، لقد هممت ان اصحبه ولافعلن ان وجدت الى ذلك
سبيلا، واصبح صوت بمكه عاليا يسمعونه ولا يرون القائل: جزى الله رب العرش خير جزائه
رفيقين حلا خيمتي ام معبد هما نزلا بالبر وارتحلا به وافلح من امسى رفيق محمد
فيا لقصي ما روى الله عنكم به من فعال لا يحاذى وسؤدد ليهن بني كعب
مكان فتاتهم ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا اختكم عن شاتها وانائها فانكم ان تسالوا الشاه تشهد
قالت اسماء: ما درينا اين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ اقبل رجل
من الجن من اسفل مكه فانشد هذه الابيات، والناس يتبعونه ويسمعون صوته ولا يرونه، حتى
خرج من اعلاها. قالت: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وان وجهته الى المدينة. وفي الطريق لقي النبي صلى الله عليه وسلم ابا بريدة،
وكان رئيس قومه، خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وابي بكر؛ رجاء ان
يفوز بالمكافاه الكبيره التي كانت قد اعلنت عنها قريش، ولما واجه رسول الله صلى الله
عليه وسلم وكلمه اسلم مكانه مع سبعين رجلا من قومه، ثم نزع عمامته وعقدها برمحه،
فاتخذه رايه تعلم بان ملك الامن والسلام قد جاء ليملا الدنيا عدلا وقسطا. وفي الطريق
لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير، و هو في ركب المسلمين، كانوا تجارا
قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وابا بكر ثيابا بيضاء.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
النبي صلى الله عليه وسلم ينزل قباء ويبنى بها اول مسجد في الاسلام
»
وفي يوم الاثنين 8 ربيع الاول سنه 14 من النبوه وهي السنه الاولى من الهجره
الموافق 23 سبتمبر سنه 622 م نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء. وكان
المسلمون بالمدينه قد علموا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يخرجون
كل صباح الى اطراف المدينة، فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فرجعوا يوما بعد ما اطالوا
انتظارهم. فلما دخلوا الى بيوتهم طلع رجل من يهود على قلعه من قلاعهم لامر ينظر
اليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه يرتدون ثيابا بيضا، فلم يملك اليهودي
ان قال باعلى صوته: يا معاشر العرب، هذا جدكم (اي حظكم) الذي تنتظرون، وكبر المسلمون
فرحا بقدومه، وخرجوا للقائه، وتجمعوا حوله، والسكينه تغشاه، والوحي نزل عليه: { فان الله هو
مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكه بعد ذلك ظهير} [ 4:66] فقام ابو بكر للناس، وجلس
رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فاخذ من جاء من الانصار ممن لم ير
رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيى ابا بكر، حتى اصابت الشمس رسول الله صلى
الله عليه وسلم فاقبل ابوبكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله
عليه وسلم عند ذلك. وكانت المدينه كلها قد زحفت للاستقبال، وكان يوما مشهودا لم تشهد
المدينه مثله في تاريخها. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن
الهدم، ومكث علي بن ابي طالب بمكه ثلاثا، حتى ادى عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، ثم هاجر ماشيا على قدميه، حتى لحقهما بقباء،
ونزل على كلثوم بن الهدم. واقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء اربعه ايام:
الاثنين والثلاثاء والاربعاء والخميس. واسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو اول مسجد اسس على التقوى
بعد النبوة، فلما كان اليوم الخامس يوم الجمعه ركب بامر الله له، وابو بكر خلفه،
وارسل الى بني النجار اخواله فجاءوا متقلدين سيوفهم، فسار نحو المدينة، فادركته الجمعه في بني
سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي فى بطن الوادى وكانو مائه رجل
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة»
وبعد الجمعه دخل النبي صلي الله عليه وسلم المدينة، ومن ذلك اليوم سميت بلده يثرب
بمدينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يوما تاريخيا اغر، فقد كانت البيوت والسكك ترتج
باصوات التحميد والتقديس، وكانت بنات الانصار تتغنى بهذه الابيات فرحا وسرورا: اشرق البدر علينا من
ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع ايها المبعوث فينا جئت بالامر المطاع
والانصار وان لم يكونوا اصحاب ثروات طائلة؛ الا ان كل واحد منهم كان يتمنى ان
ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم،عليه. فكان لايمر بدار من دور الانصار الا اخذوا خطام
راحلته: هلم الى العدد والعده والسلاح والمنعة، فكان يقول لهم: خلوا سبيلها فانها مامورة، فلم
تزل سائره به حتى وصلت الى موضع المسجد النبوى اليوم فبركت، ولم ينزل عنها حتى
نهضت وسارت قليلا، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الاول، فنزل عنها، وذلك في بني
النجار اخواله صلى الله عليه وسلم وكان من توفيق الله لها، فانه احب ان ينزل
على اخواله يكرمهم بذلك، فجعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول
عليهم، وبادر ابو ايوب الانصارى الى رحله، فادخله بيته، فجعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: المرء مع رحله، وجاء اسعد بن زراره فاخذ بزمام راحلته، وكانت عنده. فاقام
رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ابي ايوب حتى بني له مسجده ومساكنه،
ثم انتقل الى مساكنه من بيت ابي ايوب، رحمه الله عليه ورضوانه قال ابو ايوب:
لما نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل السفل، وانا وام
ايوب في العلو، ، فقلت له: يا نبي الله، بابي انت وامي، اني لاكره واعظم
ان اكون فوقك وتكون تحتي، فاظهر انت فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل،
فقال: يا ابا ايوب ان ارفق بنا وبمن يغشانا ان نكون في سفل البيت. قال:
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفله وكنا فوقه في المسكن، فلقد انكسر
حب لنا (اي اناء) فيه ماء، فقمت انا وام ايوب بقطيفه لنا ما لنا لحاف
غيرها، ننشف بها الماء تخوفا ان يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه
شيء يؤذيه قال: وكنا نصنع له العشاء ثم نبعث به اليه، فاذا رد علينا فضله
تيممت انا وام ايوب موضع يده، فاكلنا منه نبتغي بذلك البركة. وبعد ايام وصلت اليه
زوجته سودة، وبنتاه فاطمه وام كلثوم، واسامه بن زيد، وام ايمن، وخرج معهم عبدالله بن
ابي بكر بعيال ابي بكر ومنهم عائشة، وبقيت زينب عند ابي العاص لم يمكنها من
الخروج حتى هاجرت بعد بدر. قال ابن اسحاق :وتلاحق المهاجرون الي رسول الله صلي الله
عليه وسلم ولم يبق بمكه منهم احد الا مفتون او محبوس.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
بناء المسجد النبوي»
واول خطوه خطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك هو اقامه المسجد النبوي.
ففى المكان الذي بركت فيه ناقته امر ببناء هذا المسجد واشتراه من غلامين يتيمين كانا
يملكانه، وساهم في بنائه بنفسه، فكان ينقل اللبن والحجاره ويقول: اللهم لا عيش الا عيش
الاخره فاغفر للانصار والمهاجره وكان يقول: هذا الحمال لا حمال خيبر هذا ابر ربنا واطهر
وكان ذلك مما يزيد نشاط الصحابه في البناء حتى ان احدهم ليقول: لئن قعدنا والنبي
يعمل لذاك منا العمل المضلل وكانت في ذلك المكان قبور المشركين، وكان فيه خرب ونخل
وشجره من غرقد، فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنشبت، وبالخرب فسويت،
وبالنخل والشجره فقطعت، وصفت في قبله المسجد، وكانت القبله الى بيت المقدس، وجعلت عضادتاه (اي
عموداه) من حجارة، واقيمت حيطانه من الطوب اللبن والطين، وجعل سقفه من جريد النخل، وعمده
الجذوع، وفرشت ارضه من الرمال والحصباء (اي الحجارة) وجعلت له ثلاثه ابواب، وطوله مما يلي
القبله الى مؤخره مائه ذراع، والجانبان مثل ذلك او دونه، وكان اساسه قريبا من ثلاثه
اذرع. وبنى بيوتا الى جانبه، وسقفها بالجريد والجذوع، وهي حجرات ازواجه صلى الله عليه وسلم،
وبعد تكامل الحجرات انتقل اليها من بيت ابي ايوب. ولم يكن المسجد موضعا لاداء الصلوات
فحسب، بل كان جامعه يتلقى فيها المسلمون تعاليم الاسلام وتوجيهاته، ومنتدى تلتقي وتتالف فيه العناصر
القبليه المختلفه التي طالما باعدت بينها النزعات الجاهليه وحروبها، وقاعده لاداره جميع الشئون وبث الانطلاقات،
وبرلمانا لعقد المجالس الاستشاريه والتنفيذية.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
المؤاخاه بين المهاجرين والانصار
»
وكما قام النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد مركز التجمع والتالف؛ قام بعمل اخر
من اروع ما يحفظه التاريخ، وهو عمل المؤاخاه بين المهاجرين والانصار. قال ابن القيم: ثم
اخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والانصار، في دار انس بن مالك،
وكانوا تسعين رجلا نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الانصار، اخى بينهم على المواساة، ويتوارثون بعد
الموت دون ذوي الارحام الى حين وقعه بدر، فلما انزل الله عز وجل {واولوا الارحام
بعضهم اولى ببعض } [ 75:8] رد التوارث دون عقد الاخوة. وقد جعل الرسول صلى
الله عليه وسلم هذه الاخوه عقدا نافذا، لا لفظا فارغا، وعملا يرتبط بالدماء والاموال لا
تحيه تثرثر بها الالسنه ولا يقوم لها اثر. وكانت عواطف الايثار والمواساه والمؤانسه تمتزج في
هذه الاخوه وتملا المجتمع الجديد باروع الامثال. فقد روى البخاري انهم لما قدموا المدينه اخى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع فقال
سعد لعبد الرحمن: اني اكثر الانصار مالا، فاقسم مالي نصفين، ولى امراتان فانظر اعجبهما اليك
فسمها لي، اطلقها، فاذا انقضت عدتها فتزوجها، قال: بارك الله لك في اهلك ومالك، واين
سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب الا ومعه فضل من اقط (طعام من
لبن الابل) وسمن، ثم تابع الغدو، ثم جاء يوما وبه اثر صفرة، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: مهيم ؟ (كلمه يمانيه معناها ما الذي ارى بك) قال: تزوجت. قال:
كم سقت اليها؟ قال: نواه من ذهب. وروى البخاري عن ابي هريره قال: قالت الانصار
للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين اخواننا النخيل. قال: لا، فقالوا: فتكفونا المؤنة،
ونشرككم في الثمرة. قالوا: سمعنا واطعنا. وهذا يدلنا على ما كان عليه الانصار من الحفاوه
البالغه باخوانهم المهاجرين، ومن التضحيه والايثار والود والصفاء وما كان عليه المهاجرون من تقدير هذا
الكرم حق قدره، فلم يستغلوه ولم ينالوا منه الا بقدر ما يحفظ حياتهم. وحقا فقد
كانت هذه المؤاخاه حكمه فذة، وسياسه صائبه حكيمة، وحلا رائعا لكثير من المشاكل التي كان
يواجهها المسلمون، والتي اشرنا اليها. وكما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقد المؤاخاه
بين المؤمنين قام بعقد معاهده ازاح بها كل ما كان من حزازات الجاهليه والنزعات القبلية،
ولم يترك مجالا لتقاليد الجاهلية، وهاك بنودها ملخصا: هذا كتاب من محمد النبي صلى الله
عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم: 1
انهم امه واحده من دون الناس. 2 المهاجرون من قريش على ربعتهم (اي حالتهم التي
وجدها عليهم الاسلام) يتعاقلون بينهم (اي يعقل بعضهم عن بعض، والعقل: الدية) وهم يفدون عانيهم
(اي اسيرهم) بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وكل قبيله من الانصار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى،
وكل طائفه منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 3 وان المؤمنين لا يتركون مفرحا
بينهم (اي المثقل بالدين) ان يعطوه بالمعروف في فداء او عقل(اي دية). 4 وان المؤمنين
المتقين على من بغى عليهم، او ابتغى ظلما (اي طلب اتاوه بالظلم) او اثم او
عدوان او فساد بين المؤمنين. 5 وان ايديهم عليه جميعا، ولو كان ولد احدهم. 6
ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر. 7 ولا ينصر كافرا على مؤمن. 8 وان ذمه
الله واحده يجير عليهم ادناهم. 9 وان من تبعنا من يهود فان له النصر والاسوة،
غير مظلومين ولا متناصرين عليهم. 10 وان سلم المؤمنين واحدة، ولا يسالم مؤمن دون مؤمن
في قتال في سبيل الله الا على سواء وعدل بينهم. 11 وان المؤمنين يبيء بعضهم
على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله (البواء: المساواة، والمقصود انهم يد واحده يثارون
لبعضهم). 12 وانه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن.
13 وانه من اعتبط مؤمنا قتلا (اي قتله بلا جناية) عن بينه فانه قود به
(اي عليه الدية) الا ان يرضى ولي المقتول. 14 وان المؤمنين عليه كافه ولا يحل
لهم الا قيام عليه. 15 وانه لا يحل لمؤمن ان ينصر محدثا (اي مجرما) ولا
يؤويه، وانه من نصره او اواه فان عليه لعنه الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ
منه صرف ولا عدل. 16 وانكم مهما اختلفتم فيه من شئ فان مرده الى الله
عز وجل والى محمد صلى الله عليه وسلم.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
خبر الاذان »
لما اطمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، واجتمع اليه اخوانه من المهاجرين، واجتمعت
كلمه الانصار، استحكم امر الاسلام فقامت الصلاة، وفرضت الزكاه والصيام وقامت الحدود، وفرض الحلال والحرام.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها انما يجتمع الناس اليه للصلاه
لحين مواقيتها بغير دعوة، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها ان يجعل
بوقا كبوق يهود الذي يهرعون به لصلاتهم، ثم كرهه، ثم امر بالناقوس فنحت ليضرب به
للمسلمين للصلاة. فبينما هم على ذلك اذ راى عبدالله بن زيد بن ثعلبه اخو بلحارث
بن الخزرج في منامه الاذان، فاتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا
رسول الله انه طاف بي هذه الليله طائف، مر بي رجل عليه ثوبان اخضران، يحمل
ناقوسا في يده، فقلت له: يا عبدالله، اتبيع هذا الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت:
ندعو به الى الصلاه قال: افلا ادلك على خير من ذلك؟ قلت: وما هو؟ قال:
تقول: الله اكبر الله اكبر الله اكبر الله اكبر، اشهد ان لا اله الا الله،
اشهد ان لا اله الا الله. اشهد ان محمدا رسول الله اشهد ان محمدا رسول
الله. حي على الصلاه حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح. الله اكبر،
الله اكبر. لا اله الا الله. فلما اخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: انها لرؤيا حق ان شاء الله، فقم مع بلال فالقها عليه فليؤذن بها، فانه
اندى صوتا منك، فلما اذن بها بلال سمعها عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج
الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر رداءه، وهو يقول: يا نبي الله،
والذي بعثك بالحق لقد رايت مثل الذي راى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فلله الحمد علي ذلك.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
التهيؤ لفتح مكه ومحاوله الاخفاء»
روى الطبراني ان رسول الله صلى الله عليه وسلم امر عائشه قبل ان ياتي اليه
خبر نقض قريش للميثاق بثلاثه ايام ان تجهز ادوات الحرب الخاصه به، ولا يعلم احد،
فدخل عليها ابو بكر، فقال: يا بنيه ما هذا الجهاز؟ قالت: والله ما ادري. فقال:
والله ما هذا زمان غزو بني الاصفر، فاين يريد رسول الله؟ قالت: والله لا علم
لي. وفي صباح اليوم الثالث جاء عمرو بن سالم الخزاعي في اربعين راكبا، واستنجد برسول
الله صلى الله عليه وسلم، فعلم الناس بنقض الميثاق، وبعد عمرو جاء بديل ثم ابو
سفيان وتاكد عند الناس الخبر، فامرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، واعلمهم انه
سائر الى مكة، وقال: اللهم خذ العيون والاخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. وزياده
في الاخفاء والتعمية، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريه قوامها ثمانيه رجال تحت
قياده ابي قتاده بن ربعي الى بطن اضم فيما بين ذي خشب وذي المروه على
ثلاثه برد (البريد: اثنا عشر ميلا تقريبا) من المدينة، في اول شهر رمضان سنه 8
ه ليظن الظان انه صلى الله عليه وسلم يتوجه الى تلك الناحية، ولتذهب بذلك الاخبار،
وواصلت هذه السريه سيرها، حتى اذا وصلت حيثما امرت بلغها ان رسول الله صلى الله
عليه وسلم خرج الى مكة، فسارت اليه حتى لحقته. وحدث ان كتب حاطب بن ابي
بلتعه الى قريش كتابا يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهم، ثم اعطاه
امراة، وجعل لها مالا على ان تبلغه قريشا، فجعلته في قرون راسها، ثم خرجت به،
واتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث عليا
والمقداد، فقال: انطلقا حتى تاتيا روضه خاخ، فان بها ظعينه (اي مسافرة) معها كتاب الى
قريش، فانطلقا تعادي بهما خيلهما حتى وجدا المراه بذلك المكان، فاستنزلاها، وقالا: معك كتاب؟ فقالت:
ما معي كتاب، ففتشا رحلها فلم يجدا شيئا، فقال لها علي: احلف بالله، ما كذب
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، والله لتخرجن الكتاب او لنجردنك. فلما رات
الجد منه قالت: اعرض، فاعرض، فحلت قرون راسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته اليهما، فاتيا به
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاذا فيه: (من حاطب بن ابي بلتعه الى قريش)
يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم
حاطبا، فقال: ما هذا يا حاطب؟ فقال:لا تعجل علي يا رسول الله، والله اني لمؤمن
بالله ورسوله، وما ارتددت ولا بدلت، ولكني كنت امرءا ملصقا في قريش، لست من انفسهم،
ولي فيهم اهل وعشيره وولد، وليس لي فيهم قرابه يحمونهم، وكان من معك لهم قرابات
يحمونهم، فاحببت اذ فاتني ذلك ان اتخذ عندهم يدا (اي معروفا) يحمون بها قرابتي، فقال
عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله اضرب عنقه، فانه قد خان الله ورسوله، وقد
نافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انه قد شهد بدرا، و ما يدريك
يا عمر، لعل الله قد اطلع على اهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت
لكم، فذرفت عينا عمر، وقال: الله ورسوله اعلم. وهكذا اخذ الله العيون، فلم يبلغ الى
قريش اي خبر من اخبار تجهز المسلمين وتهيئهم للزحف والقتال.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
الجيش الاسلامي يتحرك نحو مكة»
لعشر ليال خلون من شهر رمضان المبارك سنه 8ه غادر رسول الله صلى الله عليه
وسلم المدينه متجها الى مكة، في عشره الاف من الصحابه رضي الله عنهم، واستخلف على
المدينه ابا رهم الغفاري. ولما كان بالجحفه او فوق ذلك لقيه عمه العباس بن عبد
المطلب، وكان قد خرج باهله وعياله مسلما مهاجرا، ثم لما كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالابواء لقيه ابن عمه ابو سفيان بن الحارث وابن عمته عبدالله بن ابي
امية، فاعرض عنهما؛ لما كان يلقاه منهما من شده الاذى، فقالت له ام سلمة: لايكن
ابن عمك وابن عمتك اشقى الناس بك، وقال علي لابي سفيان بن الحارث: ائت رسول
الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال اخوه يوسف ليوسف:
{قالوا تالله لقد اثرك الله علينا وان كنا لخاطئين} فانه لا يرضى ان يكون احد
احسن منه قولا،ففعل ذلك ابو سفيان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا
تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين} فانشده ابو سفيان ابياتا منها: لعمرك
اني حين احمل رايه لتغلب خيل اللات خيل محمد لكالمدلج الحيران اظلم ليله فهذا اواني
حين اهدى فاهتدي هداني هاد غير نفسي ودلني على الله من طردت كل مطرد (المدلج:
السائر ليلا) فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: انت طردتني كل مطرد!
وقد حسن اسلام ابي سفيان بن الحارث بعد ذلك، ويقال انه ما رفع راسه الى
رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ اسلم حياء منه. وواصل رسول الله صلى الله
عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى بلغ ماء الكديد فافطر وافطر الناس معه،
ثم واصل سيره حتى نزل بمر الظهران عشاء، فامر الجيش فاوقدوا النار، فاوقدت عشره الاف
نار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله
عنه. وركب العباس بعد نزول المسلمين بمر الظهران بغله رسول الله صلى الله عليه وسلم
البيضاء، وخرج يلتمس لعله يجد بعض الحطابه او احدا يخبر قريشا؛ ليخرجوا يستامنون رسول الله
صلى الله عليه وسلم قبل ان يدخلها.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل مكه »
مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه لدخول مكه حتى انتهى الى ذي
طوى، وكان يخفض راسه تواضعا لله حين راى ما اكرمه الله به من الفتح، حتى
ان شعر لحيته ليكاد يمس راحلته، وهناك وزع جيشه، وكان خالد بن الوليد على ميمنه
الجيش وفيها قبائل اسلم وسليم وغفار ومزينه وجهينه وقبائل من قبائل العرب فامره ان يدخل
مكه من اسفلها، وقال: ان عرض لكم احد من قريش فاحصدوهم حصدا، حتى توافوني على
الصفا. وكان الزبير بن العوام على الميسرة، وكان معه رايه رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فامره ان يدخل مكه من اعلاها من ناحيه كداء، وان يغرز رايته بالحجون، ولا
يبرح حتى ياتيه. وكان ابو عبيده على المشاه والحسر (وهم الذين لا سلاح معهم) فامره
ان ياخذ بطن الوادي، حتى يدخل مكه امام رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتحركت
كل كتيبه من الجيش الاسلامي على الطريق التي كلفت الدخول منها، فاما خالد واصحابه فلم
يلقهم احد من المشركين الا قتلوه، وقتل من اصحابه من المسلمين كرز بن جابر الفهري
وخنيس بن خالد بن ربيعة، كانا قد شذا عن الجيش، وسلكا طريقا غير طريقه فقتلهما
المشركون، وقابل خالد واصحابه سفهاء قريش الذين تجمعوا لحرب المسلمين بالخندمه فقتلوا من المشركين اثني
عشر رجلا فانهزم المشركون، وانهزم حماس بن قيس الذي كان يعد السلاح لقتال المسلمين حتى
دخل بيته، فقال لامراته اغلقي علي بابي، فقالت: واين ما كنت تقول ؟ فقال: انك
لو شهدت يوم الخندمه اذ فر صفوان وفر عكرمه واستقبلتنا بالسيوف المسلمه يقطعن كل ساعد
وجمجمه ضربا فلا يسمع الا غمغمه لهم نهيت خلفنا وهمهمه لم تنطقي في اللوم ادنى
كلمه (الغمغمه والهمهمة: الصوت غير المفهوم، يعني اصوات ابطال المسلمين في القتال، والنهيت: الزئير) واقبل
خالد يجوس مكه حتى وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا. واما الزبير
فتقدم حتى نصب رايه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجون عند مسجد الفتح، وضرب
له هناك قبة، فلم يبرح حتى جاءه رسول الله
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
الرسول يطهر المسجد الحرام من الاصنام ويعفو عن القرشيين
»
نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والانصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل
المسجد، فاقبل الى الحجر الاسود، فاستلمه (استلم الحجر يعني لمسه وبدا الطواف من عنده) ثم
طاف بالبيت وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائه وستون صنما، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول:
{جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا} {جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد}.
والاصنام تتساقط على وجوهها. عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم
مكه يوم الفتح على راحلته فطاف عليها، وحول البيت اصنام مشدوده بالرصاص، فجعل النبي صلى
الله عليه وسلم يشير بقضيب في يده الى الاصنام ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل ان
الباطل كان زهوقا} فما اشار الى صنم منها في وجهه الا وقع لقفاه، ولا اشار
الى قفاه الا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم الا وقع. وكان طوافه على
راحلته، ولم يكن محرما يومئذ، فاقتصر على الطواف، فلما اكمل الطواف دعا عثمان بن طلحة،
فاخذ منه مفتاح الكعبة، فامر بها ففتحت، فدخلها، فراى فيها الصور، وراى فيها صوره ابراهيم
واسماعيل عليهما السلام يستقسمان بالازلام (الازلام سهام كانوا يستشيرون الاصنام بعمل قرعه بينها، والاستقسام اصلا
الحلف) فقال: قاتلهم الله، والله ما استقسما بها قط، وراى في الكعبه حمامه من عيدان،
فكسرها بيده، وامر بالصور فمحيت. ثم اغلق الرسول صلى الله عليه وسلم باب الكعبه عليه
وعلى اسامه وبلال، ثم صلى هناك، ثم دار في البيت وكبر في نواحيه، ووحد الله،
ثم فتح الباب، وقريش قد ملات المسجد صفوفا ينتظرون ماذا يصنع. وكان الباب مرتفعا عن
الارض قليلا، فوقف وامسك بجانبي الباب وهم تحته، فقال: لااله الا الله وحده لا شريك
له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الاحزاب وحده، الا ان كل ماثره كانت في الجاهليه
تذكر وتدعى من دم او مال تحت قدمي (الماثرة: ما كان العرب يفتخرون به ويتخذونه
وسيله للتكبر) ، الا سدانه البيت (اي خدمه البيت الحرام) وسقايه الحاج، الا وقتيل الخطا
شبه العمد ما كان بالسوط والعصا ففيه الديه مغلظة، مائه من الابل اربعون منها في
بطونها اولادها. يا معشر قريش، ان الله قد اذهب عنكم نخوه (اي فخر) الجاهليه وتعاظمها
بالاباء، الناس من ادم وادم من تراب، ثم تلا هذه الاية: (يا ايها الناس، انا
خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله
عليم خبير). ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون اني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، اخ
كريم وابن اخ كريم، قال: فاني اقول لكم ما قال يوسف لاخوته: (لا تثريب عليكم
اليوم) اذهبوا فانتم الطلقاء.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
رد الامانات واعلان شعار الاسلام
»
جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد بعد ان اعلن العفو العام ،
فقام اليه علي رضي الله عنه، ومفتاح الكعبه في يده، فقال: يا رسول الله، اجمع
لنا (اي لبني هاشم) الحجابه مع السقاية، صلى الله عليك، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: اين عثمان بن طلحة؟ فدعي له، فقال له: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم
يوم بر ووفاء. وروي انه قال له حين دفع المفتاح اليه: خذوها يا بني شيبه
خالده مخلدة، لا ينزعها منكم الا ظالم. وقال ايضا: يا عثمان، ان الله استامنكم على
بيته، فكلوا مما يصل اليكم من هذا البيت بالمعروف. وحانت الصلاة، فامر رسول الله صلى
الله عليه وسلم بلالا ان يصعد فيؤذن على الكعبة، وابو سفيان بن حرب، وعتاب بن
اسيد، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب: لقد اكرم الله اسيدا ان لا
يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه، فقال الحارث: اما والله لو اعلم انه حق
لاتبعته، فقال ابو سفيان: اما والله لا اقول شيئا، لو تكلمت لاخبرت عني هذه الحصى،
فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: لقد علمت الذي قلتم، ثم ذكر
ذلك لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد انك رسول الله، والله ما اطلع على هذا احد
كان معنا فنقول: اخبرك. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ دار ام هانئ
بنت ابي طالب، فاغتسل وصلى ثماني ركعات في بيتها، وكان ضحى، فظنها من ظنها صلاه
الضحى، وانما هذه صلاه الفتح. واجارت ام هانئ حموين لها، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: قد اجرنا من اجرت يا ام هانئ، وقد كان اخوها علي بن ابي
طالب اراد ان يقتلهما، فاغلقت عليهما باب بيتها، وسالت النبي صلى الله عليه وسلم ان
يعفو عنهما، فقال لها ذلك.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
خطبه الرسول صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني من الفتح»
لما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس
خطيبا، فحمد الله واثنى عليه، ومجده بما هو اهله، ثم قال: ايها الناس، ان الله
حرم مكه يوم خلق السموات والارض، فهي حرام بحرمه الله الى يوم القيامة، فلا يحل
لامرئ يؤمن بالله واليوم الاخر ان يسفك فيها دماء او يعضد بها شجره (اي يقطع)
فان احد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اي ان قال احد ساقاتل
في مكه مثلما قاتل فيها الرسول) فقولوا: ان الله اذن لرسوله ولم ياذن لكم، وانما
حلت لي ساعه من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالامس، فليبلغ الشاهد الغائب
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
سريه ذات السلاسل
»
لما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بموقف القبائل العربيه التي تقطن مشارف الشام
في معركه مؤتة، من اجتماعهم الى الرومان ضد المسلمين، شعر بمسيس الحاجه الى القيام بعمل
حكيم يوقع الفرقه بينها وبين الرومان، وتكون سببا للائتلاف بينها وبين المسلمين، حتى لا تحتشد
مثل هذه الجموع الكبيره مره اخرى. واختار لتنفيذ هذه الخطه عمرو بن العاص ؛ لان
ام ابيه كانت امراه من بلي، فبعثه اليهم في جمادي الاخره سنه 8 ه على
اثر معركه مؤته ليستالفهم ويستميلهم، وفي ذات الوقت نقلت الاستخبارات ان جمعا من قضاعه قد
تجمعوا، يريدون ان يدنوا من اطراف المدينة، فاصبحت الحاجه اشد لبعث عمرو بن العاص اليهم.
وعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص لواء ابيض وجعل معه رايه
سوداء، وبعثه في ثلاثمائه من سراه (اي اشراف) المهاجرين والانصار، ومعهم ثلاثون فرسا، وامره ان
يستعين بمن مر به من بلي وعذره وبلقين، فسار الليل وكمن النهار، فلما قرب من
القوم بلغه ان لهم جمعا كثيرا، فبعث رافع بن مكيث الجهني الى رسول الله صلى
الله عليه وسلم يستمده (اي يطلب منه مددا) فبعث اليه ابا عبيده بن الجراح في
مائتين وعقد له لواء، وبعث له سراه من المهاجرين والانصار فيهم ابو بكر وعمر وامره
ان يلحق بعمرو، وان يكونا جميعا ولا يختلفا، فلما لحق به اراد ابو عبيده ان
يؤم الناس، فقال عمرو: انما قدمت علي مددا، وانا الامير، فاطاعه ابو عبيدة، فكان عمرو
يصلي بالناس. وسار حتى وطئ بلاد قضاعة، فدوخها حتى اتى اقصى بلادهم، ولقي في اخر
ذلك جمعا، فحمل عليهم المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا. وبعث عوف بن مالك الاشجعي بريدا
الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاخبره بعودتهم وسلامتهم، وما كان في غزاتهم. وسميت
الغزوه بذات السلاسل نسبه للمكان الذي نزل به المسلمون، بينه وبين المدينه مسيره عشره ايام.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
ابو بكر امير على الحج في العام التاسع للهجرة»
وفي ذي القعده او ذي الحجه من السنه التاسعه للهجرة، بعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم ابا بكر الصديق رضي الله عنه اميرا على الحج، ليقيم بالمسلمين المناسك. ثم
نزلت اوائل سوره براءه ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن ابي
طالب ليبلغ الناس الاحكام التي جاءت فيها، وذلك تمشيا منه على عاده العرب في عهود
الدماء والاموال، فالتقى علي بابي بكر ببعض الطريق، فقال ابو بكر:امير او مامور؟ قال علي:لا
بل مامور، ثم مضيا، واقام ابو بكر للناس حجهم، حتى اذا كان يوم النحر، قام
علي بن ابي طالب عند الجمرة، فاذن في الناس بالذي امره رسول الله صلى الله
عليه وسلم. عن زيد بن يفيع قال: سالنا عليا باي شيء بعثت في الحجة؟ قال:
بعثت باربع: لا يدخل الجنه الا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع مسلم
وكافر في المسجد الحرام بعد عامه هذا، ومن كان بينه وبين النبي عهد فعهده الى
مدته، ومن لم يكن له عهد فاجله الى اربعه اشهر. وبعث ابو بكر رضي الله
عنه رجالا ينادون في الناس: الا لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت
عريان. وكان هذا النداء بمثابه اعلان نهايه الوثنيه في جزيره العرب، وانها لا تبدئ ولا
تعيد بعد هذا العام. اله الي الرفيق الاعلى
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
حجه الوداع»
تمت اعمال الدعوه وابلاغ الرساله وبناء مجتمع جديد، على اساس اثبات الالوهيه لله ونفيها عن
غيره، وعلى اساس رساله محمد صلى الله عليه وسلم، وكان هاتفا خفيا انبعث في قلب
رسول الله صلى الله عليه وسلم يشعره ان مقامه في الدنيا قد اوشك على النهاية،
حتى انه حين بعث معاذا على اليمن سنه 10 ه قال له فيما قال: يا
معاذ انك عسى ان لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك ان تمر بمسجدي هذا وقبري،
فبكى معاذ جزعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وشاء الله ان يرى رسوله
ثمار دعوته، التي عانى في سبيلها الوانا من المتاعب بضعا وعشرين عاما، فيجتمع في اطراف
مكه بافراد قبائل العرب وممثليها، فياخذوا منه شرائع الدين واحكامه، وياخذ منهم الشهاده على انه
ادى الامانة، وبلغ الرساله ونصح الامة. فلما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذو القعده تجهز للحج، وامر الناس بالجهاز له، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
الى الحج لخمس ليال بقين من ذى القعدة. ثم مضى رسول الله صلى الله عليه
وسلم على حجه، فارى الناس مناسكهم، واعلمهم سنن حجهم، وخطب في الناس خطبته التي ضمنها
اواخر وصاياه، فحمد الله واثنى عليه، ثم قال: “ايها الناس اسمعوا قولى: فاني لا ادرى
لعلى لا القاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف ابدا، ايها الناس ان دماءكم واموالكم عليكم
حرام الى ان تلقوا ربكم، كحرمه يومكم هذا وكحرمه شهركم هذا، وانكم ستلقون ربكم فيسالكم
عن اعمالكم وقد بلغت؛ فمن كانت عنده امانه فليؤدها الى من ائتمنه عليها، وان كل
ربا موضوع (وضع عنه الدين والدم وجميع انواع الجنايه اي اسقطه عنه) ولكن لكم رءوس
اموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله انه لا ربا وان ربا عباس بن عبد
المطلب موضوع كله، وان كل دم كان في الجاهليه موضوع، وان اول دمائكم اضع دم
ابن ربيعه بن الحارث بن عبد المطلب وكان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل فهو
اول ما ابدا به من دماء الجاهلية. اما بعد، ايها الناس، فان الشيطان قد يئس
من ان يعبد بارضكم هذه ابدا، ولكنه ان يطع فيما سوى ذلك فقد رضى به
مما تحقرون من اعمالكم، فاحذروه على دينكم. ايها الناس، ان النسئ زياده في الكفر يضل
به الذين كفروا، يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليوطئوا عده ما حرم الله، فيحلوا ما حرم
الله ويحرموا ما احل الله. وان الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والارض، وان
عده الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها اربعه حرم: ثلاثه متوالية، ورجب مضر الذي
بين جمادى وشعبان. اما بعد ايها الناس، فان لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقا،
لكم عليهن ان لا يوطئن فرشكم احدا تكرهونه وعليهن ان لا ياتين بفاحشه مبينة، فان
فعلن فان الله قد اذن لكم ان تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح (اي
غير شديد) فان انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف. واستوصوا بالنساء خيرا فانهن، عندكم عوان (اي
اسيرات) لا يملكن لانفسهن شيئا، وانكم انما اخذتموهن بامانه الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله. فاعقلوا
ايها الناس قولى فاني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما ان اعتصمتم به فلن تضلوا
ابدا، امرا بينا: كتاب الله وسنه نبيه. ايها الناس، اسمعوا قولى واعقلوه، تعلمن ان كل
مسلم اخ للمسلم وان المسلمين اخوة، فلا يحل لامرئ من اخيه الا ما اعطاه عن
طيب نفس منه، فلا تظلمن انفسكم، اللهم هل بلغت؟”. فذكر لي ان الناس قالوا: اللهم
نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد. وبعد ان فرغ النبي صلى
الله عليه وسلم من القاء الخطبه نزل عليه قوله تعالى:{اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم
نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا}. وعندما سمعها عمر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: انه
ليس بعد الكمال الا النقصان. ويقال ان عدد المسلمين الذين ادوا حجه الوداع مائه واربعه
وعشرون الفا، او مائه واربع واربعون الفا.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
اخر البعوث»
كانت كبرياء دوله الروم على الاسلام قد جعلتها تابى عليه حق الحياة، وحملها ذلك على
ان تقتل من اتباعها من يدخل فيه، كما فعلت بفروه بن عمرو الجذامي الذي كان
واليا على معان من قبل الروم، فقد غضبوا عليه وسجنوه، ثم حكموا عليه بالقتل فاعدموه،
ثم صلبوه وتركوه مصلوبا ليرهب غيره ان يسلك مسلكه. ونظرا الى هذه الجراءه والغطرسه اخذ
رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهز جيشا كبيرا في صفر سنه 11 ه، وامر
عليه اسامه بن زيد بن حارثة، وامره ان يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من ارض
فلسطين، يبغي بذلك ارهاب الروم، واعاده الثقه الى قلوب العرب الضاربين على الحدود، حتى لا
يحسبن احد ان بطش الكنيسه لا معقب له، وان الدخول في الاسلام يجر على اصحابه
الهلاك فحسب. وتكلم الناس في قائد الجيش لحداثه سنه، واستبطاوا في بعثه، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ان تطعنوا في امارته، فقد كنتم تطعنون في اماره ابيه من
قبل، وايم الله ان كان خليقا للاماره (اي جديرا) وان كان من احب الناس الي،
وان هذا من احب الناس الى بعده. واطاع الناس امر النبي صلى الله عليه وسلم،
واخذوا يلتفون حول اسامة، وينتظمون في جيشه، حتى خرجوا ونزلوا الجرف، على فرسخ من المدينه
(الفرسخ ثلاثه اميال تقريبا) الا ان الاخبار المقلقه عن مرض رسول الله صلى الله عليه
وسلم اكرهتهم على التريث، حتى يعرفوا ما يقضي الله به، وقد قضى الله ان يكون
هذا اول بعث في خلافه ابي بكر الصديق.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
ابتداء شكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم»
لما تكاملت الدعوة، وسيطر الاسلام على الموقف، اخذت طلائع التوديع للحياه والاحياء تطلع من مشاعره
صلى الله عليه وسلم، وتنضح بعباراته وافعاله. فقد اعتكف في رمضان من السنه العاشره عشرين
يوما، بينما كان لا يعتكف الا عشره ايام فحسب، وتدارسه جبريل القران مرتين، وقال في
حجه الوداع: اني لا ادري لعلي لا القاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف ابدا، وقال
وهو عند جمره العقبة: خذوا عني مناسككم لعلي لا احج بعد عامي هذا، وانزلت عليه
سوره النصر في اوسط ايام التشريق، فعرف انه الوداع، وانه نعيت اليه نفسه. وفي اوائل
صفر سنه 11 ه خرج النبي صلى الله عليه وسلم الى احد، فصلى على الشهداء
كالمودع للاحياء والاموات، ثم انصرف الى المنبر فقال: اني فرطكم (فرط القوم: تقدمهم الى موضع
الماء ليجهزه لهم) واني شهيد عليكم، واني والله لانظر الى حوضي الان، واني اعطيت مفاتيح
خزائن الارض، او مفاتيح الارض، واني والله ما اخاف ان تشركوا بعدي، ولكني اخاف عليكم
ان تنافسوا فيها. وخرج في منتصف احدى الليالي الى البقيع فاستغفر للاموات، وقال: السلام عليكم
يا اهل المقابر، ليهن لكم ما اصبحتم فيه بما اصبح الناس فيه، اقبلت الفتن كقطع
الليل المظلم، يتبع اخرها اولها، الاخره شر من الاولى، وبشرهم قائلا: انا بكم للاحقون. وفي
اليوم التاسع والعشرين من شهر صفر سنه 11 ه وكان يوم الاثنين شهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم جنازه في البقيع، فلما كان في طريق الرجوع اخذه صداع في
راسه، واتقدت الحرارة، حتى انهم كانوا يجدون شدتها فوق العصابه التي تعصب بها راسه. وقد
صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض احد عشر يوما، وجميع ايام المرض
كانت ثلاثه عشر او اربعه عشر يوما.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
الاسبوع الاخير في حياه الرسول صلى الله عليه وسلم»
ثقل برسول الله صلى الله عليه وسلم المرض، فجعل يسال ازواجه: اين انا غدا؟ اين
انا غدا؟ ففهمن مراده فاذن له يكون حيث شاء، فانتقل الى عائشة، يمشي بين الفضل
بن عباس وعلي بن ابي طالب، عاصبا راسه تخط قدماه حتى دخل بيتها، فقضى عندها
اخر اسبوع من حياته. وكانت عائشه تقرا بالمعوذات والادعيه التي حفظتها من رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فكانت تنفث على نفسه (النفث: اخراج بعض الريق من الفم عن طريق
النفخ) وتمسحه بيده رجاء البركة. ويوم الاربعاء قبل خمسه ايام من الوفاه اتقدت حراره العله
في بدنه صلى الله عليه وسلم، فقال: هريقوا علي سبع قرب (جمع قربة) من ابار
شتى، حتى اخرج الى الناس فاعهد اليهم، فاقعدوه في مخضب (اي طست) وصبوا عليه الماء،
حتى طفق يقول، “حسبكم، حسبكم” وعند ذلك احس بخفة، فدخل المسجد وهو معصوب الراس حتى
جلس على المنبر، وخطب الناس والناس مجتمعون حوله فقال صلى الله عليه وسلم: “لعنه الله
على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور انبيائهم مساجد، وقال صلى الله عليه وسلم: لا تتخذوا قبري
وثنا يعبد. وعرض نفسه للقصاص قائلا “من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه
(اي فليقتص) ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه”. الا وان الشحناء (اي
العداوه والبغضاء) ليست من طبعي ولا من شاني، الا وان احبكم الي من اخذ مني
حقا ان كان له، او احلني منه فلقيت الله وانا طيب النفس. ثم نزل فصلى
الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، وعاد لمقالته الاولى في الشحناء وغيرها، فقال رجل: ان
لي عندك ثلاثه دراهم، فقال اعطه يا فضل. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:
ايها الناس، من كان عنده شيء فليؤده، ولا يقل: فضوح الدنيا، الا وان فضوح الدنيا
ايسر من فضوح الاخرة! فقام رجل فقال: يا رسول الله عندي ثلاثه دراهم غللتها في
سبيل الله، قال: ولم غللتها؟ قال: كنت محتاجا، قال: خذها منه يا فضل. ثم قال:
ايها الناس، من خشي من نفسه شيئا فليقم ادع له. فقام رجل فقال: يا رسول
الله، اني لكذاب، اني لفاحش، اني لنئوم (اي كثير النوم) فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: اللهم ارزقه صدقا وايمانا واذهب عنه النوم. ثم قام رجل اخر فقال: يا رسول
الله، اني لكذاب،
واني لمنافق، وما من شيء الا قد جنيته. فقام عمر بن الخطاب فقال له: فضحت
نفسك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن الخطاب، فضوح الدنيا اهون من فضوح
الاخرة، اللهم ارزقه صدقا وايمانا وصير امره الى خير. ثم اوصى بالانصار قائلا: “اوصيكم بالانصار
فانهم كرشي وعيبتي (اي موضع سري وامانتي) وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا
من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم”. ثم قال “ان عبدا خيره الله ان يؤتيه من زهره
الدنيا ما شاء، وبين ما عنده فاختار ما عنده”. قال ابو سعيد الخدري: فبكى ابو
بكر قال: فديناك بابائنا وامهاتنا، فعجبنا له، فقال الناس: انظروا الى هذا الشيخ، يخبر رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين ان يؤتيه من زهره الدنيا،
وبين ما عنده، وهو يقول:فديناك بابائنا وامهاتنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو
المخير، وكان ابو بكر اعلمنا. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ان
امن الناس علي في صحبته وماله ابو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت
ابا بكر خليلا، ولكن اخوه الاسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب الا سد الا
باب ابي بكر. ويوم الخميس قبل الوفاه باربعه ايام، قال صلى الله عليه وسلم وقد
اشتد به الوجع: هلموا اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده وفي البيت رجال فيهم عمر
فقال عمر: قد غلب عليه الوجع وعندكم القران، حسبكم كتاب الله، فاختلف اهل البيت واختصموا،
فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول
ما قال عمر، فلما اكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا
عني. واوصى ذلك اليوم بثلاث، اوصى باخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيره العرب، واوصى باجازه
الوفود بنحو ما كان يجيزهم، اما الثالث فنسيه الراوي، ولعله الوصيه بالاعتصام بالكتاب والسنة، او
تنفيذ جيش اسامة، او هي “الصلاه وما ملكت ايمانكم”. والنبي صلى الله عليه وسلم مع
ما كان به من شده المرض كان يصلي بالناس جميع صلواته حتى ذلك اليوم يوم
الخميس قبل الوفاه باربعه ايام وقد صلى بالناس ذلك اليوم صلاه المغرب، فقرا فيها بالمرسلات
عرفا. وعند العشاء زاد ثقل المرض، بحيث لم يستطع الخروج الى المسجد، قالت عائشة: فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: اصلى الناس؟ قلنا: لا يا رسول الله وهم ينتظرونك، قال:
ضعوا لي ماء في المخضب (اي الطست) ففعلنا، فاغتسل فذهب لينوء (اي لينهض بجهد ومشقة)
فاغمي عليه، ثم افاق فقال: اصلى الناس؟ ووقع ثانيا وثالثا ما وقع في المره الاولى،
من الاغتسال ثم الاغماء حينما اراد ان ينوء، فارسل الى ابي بكر ان يصلي بالناس،
فصلى ابوبكر تلك الايام سبع عشره صلاه في حياته. عن عائشه قالت: لما استعز رسول
الله صلى الله عليه وسلم (اي اشتد عليه مرضه) قال: ” مروا ابا بكر فليصل
بالناس “. قلت: يا نبي الله! ان ابا بكر رجل رقيق، ضعيف الصوت كثير البكاء
اذا قرا القران، قال:” مروه فليصل بالناس “. فعدت بمثل قولى، الا اني كنت احب
ان يصرف ذلك عن ابى بكر، وعرفت ان الناس لا يحبون رجلا قام مقامه ابدا،
وان الناس سيتشاءمون به في كل حدث كان، فكنت احب ان يصرف ذلك عن ابي
بكر. عن عبدالله بن زمعه بن الاسود بن المطلب قال: لما استعز برسول الله صلى
الله عليه وسلم وانا عنده في نفر من المسلمين، دعاه بلال الى الصلاه فقال: ”
مروا من يصلى بالناس “. فخرجت فاذا عمر في الناس، وكان ابو بكر غائبا، فقلت:
قم يا عمر فصل بالناس، فقام، فلما كبر سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
صوته وكان عمر رجلا مجهرا (اي شديد الصوت) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
” فاين ابو بكر؟ يابى الله ذلك والمسلمون، يابى الله ذلك والمسلمون!” فبعث الى ابى
بكر، فجاء بعد ان صلى عمر تلك الصلاه فصلى بالناس. قال عبدالله بن زمعه قال
لي عمر: ويحك!! ماذا صنعت بي يا ابن زمعه ؟ والله ما ظننت حين امرتنى
الا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم امرك بذلك، ولولا ذلك ما صليت بالناس،
قلت: والله ما امرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكني حين لم ار
ابا بكر رايتك احق من حضر بالصلاه بالناس. ويوم السبت او الاحد وجد النبي صلى
الله عليه وسلم في نفسه خفة، فخرج بين رجلين لصلاه الظهر، وابو بكر يصلي بالناس،
فلما راه ابو بكر ذهب ليتاخر، فاوما (اي فاشار) اليه بان لا يتاخر، قال: اجلساني
الى جنبه، فاجلساه الى يسار ابي بكر، فكان ابو بكر يقتدي بصلاه رسول الله صلى
الله عليه وسلم ويسمع الناس التكبير. وقبل يوم من الوفاه يوم الاحد اعتق النبي صلى
الله عليه وسلم غلمانه، وتصدق بسبعه دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين اسلحته، وفي الليل استعارت
عائشه الزيت للمصباح من جارتها، وكانت درعه صلى الله عليه وسلم مرهونه عند يهودي بثلاثين
صاعا من الشعير.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
اخر يوم من حياته صلى الله عليه وسلم»
روى انس بن مالك ان المسلمين بينا هم في صلاه الفجر يوم الاثنين وابو بكر
يصلي بهم لم يفجاهم الا رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف ستر حجره عائشه
فنظر اليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص ابو بكر على عقبيه؛ ليصل
الصف، وظن ان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد ان يخرج الى الصلاة، فقال
انس: وهم المسلمون ان يفتتنوا في صلاتهم، فرحا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشار
اليهم بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم ان اتموا صلاتكم، ثم دخل الحجره وارخى
الستر.ثم لم يات على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت صلاه اخرى. ولما ارتفع
الضحى، دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمه فسارها بشئ فبكت، ثم دعاها فسارها بشئ
فضحكت، قالت عائشة: فسالنا عن ذلك اي فيما بعد فقالت: سارني النبي صلى الله عليه
وسلم انه يقبض في وجعه الذي توفي فيه، فبكيت، ثم سارني فاخبرني اني اول اهله
يتبعه، فضحكت. وبشر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمه بانها سيده نساء العالمين. ورات فاطمه
ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه، فقالت: واكرب ابتاه،
فقال لها صلى الله عليه وسلم: ليس على ابيك كرب بعد اليوم. ودعا الحسن والحسين
فقبلهما، واوصى بهما خيرا ودعا ازواجه فوعظهن وذكرهن. وطفق الوجع يشتد ويزيد، وقد ظهر اثر
السم الذي اكله بخيبر، حتى كان يقول: يا عائشة، ما ازال اجد الم الطعام الذي
اكلت بخيبر، فهذا اوان وجدت انقطاع ابهري (الابهر: شريان بالقلب) من ذلك السم. واوصى الناس،
فقال: “الصلاه الصلاه وما ملكت ايمانكم” كرر ذلك مرارا.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
الاحتضار»
حين بدا احتضار النبي صلى الله عليه وسلم اسندته عائشه اليها، وكانت تقول: ان من
نعم الله علي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي، وفي يومي،
وبين سحري ونحري (السحر: الرئة، والنحر: اعلى الصدر) وان الله جمع بين ريقي وريقه عند
موته، دخل عبدالرحمن بن ابي بكر وبيده السواك، وانا مسنده رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فرايته ينظر اليه، وعرفت انه يحب السواك، فقلت اخذه لك؟ فاشار صلى الله عليه
وسلم براسه ان نعم، فلينته، وبين يديه ركوه (اي اناء) فيها ماء، فجعل يدخل يديه
في الماء فيمسح بها وجهه، يقول: لا اله الا الله، ان للموت سكرات. وما عدا
ان فرغ من السواك حتى رفع يده او اصبعه، وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه،
فاصغت اليه عائشه وهو يقول: مع الذين انعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم
اغفر لي وارحمني، والحقني بالرفيق الاعلى، اللهم الرفيق الاعلى. كرر الكلمه الاخيره ثلاثا،وماتت يده (يعني
سقطت) ولحق بالرفيق الاعلى. انا لله وانا اليه راجعون. وقع هذا الحادث حين اشتدت الضحى
من يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الاول في السنه الحاديه عشره ه. وقد
تم له ثلاث وستون سنه وزادت اربعه ايام.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
حزن الصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم»
تسرب النبا الفادح واظلمت على المدينه ارجاؤها وافاقها. قال انس: ما رايت يوما قط كان
احسن ولا اضوا من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما
رايت يوما كان اقبح ولا اظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقالت فاطمه تنعاه: يا ابتاه اجاب رباه دعاه، يا ابتاه من جنه الفردوس ماواه،
يا ابتاه الى جبريل ننعاه. ووقف عمر بن الخطاب وقد اخرجه الخبر عن وعيه يقول:
ان رجالا من المنافقين يزعمون ان رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي، وان رسول
الله صلى الله عليه وسلم ما مات، لكن ذهب الى ربه كما ذهب موسى بن
عمران، فغاب عن قومه اربعين ليلة، ثم رجع اليهم بعد ان قيل قد مات. و
والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقطعن ايدي رجال وارجلهم يزعمون انه مات.
واقبل ابو بكر بعدما سمع الخبر على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد،
فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، فتيمم (اي قصد) رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو مغشى بثوب حبره (ثوب من ثياب اليمن) فكشف عن وجهه، ثم قبله وبكى،
ثم قال: بابي انت وامي، لا يجمع الله عليك موتتين، اما الموته التي كتبت عليك
فقد متها. ثم خرج ابو بكر وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فابي عمر
ان يجلس، فاقبل الناس اليه وتركوا عمر، فقال ابو بكر: اما بعد، من كان منكم
يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم فان محمدا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله
فان الله حي لا يموت. قال الله: {وما محمد الا رسول قد خلت من قبله
الرسل افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله
شيئا وسيجزي الله الشاكرين} قال ابن عباس:والله لكان الناس لم يعلموا ان الله انزل هذه
الايه حتى تلاها ابو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما اسمع بشرا من الناس الا
يتلوها. قال عمر: والله ما هو الا ان سمعت ابا بكر تلاها فعرفت حتى ماتقلنى
(اي ما تحملني) رجلاي، وحتى اهويت الى الارض حين سمعته تلاها، وعلمت ان النبي صلى
الله عليه وسلم قد مات
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
دفن الرسول صلى الله عليه وسلم»
•
وتاخر دفن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حتى تم اختيار الخليفه الاول للمسلمين، وهو
ابو بكر الصديق رضي الله عنه، باتفاق المهاجرين والانصار في سقيفه بني ساعدة. وشغل الناس
عن تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم للدفن حتى كان اخر الليل ليله الثلاثاء
مع الصبح، بقي جسده المبارك على فراشه، مغشي بثوب حبرة، قد اغلق دونه الباب اهله.
ويوم الثلاثاء غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير ان يجردوه من ثيابه،
وكان القائمون بالغسل العباس وعليا والفضل وقثم ابني العباس، وشقران مولى رسول الله صلى الله
عليه وسلم، واسامه بن زيد، واوس بن خولي، فكان العباس والفضل وقثم يقلبونه، واسامه وشقران
يصبان الماء، وعلى يغسله، واوس اسنده الى صدره. ثم كفنوه في ثلاثه اثواب بيض سحوليه
(سحول قريه باليمن تصنع الثياب) من كرسف (اي قطن) ليس فيها قميص ولا عمامة، ادرجوه
فيها ادراجا. واختلفوا في موضع دفنه، فقال ابو بكر اني سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: ما قبض نبي الا دفن حيث قبض، فرفع ابو طلحه فراشه الذي
توفي عليه، فحفر تحته، وجعل القبر لحدا. ودخل الناس الحجره ارسالا (اي جماعات) عشره فعشرة،
يصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يؤمهم احد، وصلى عليه اولا اهل
عشيرته، ثم المهاجرون، ثم الانصار، وصلت عليه النساء بعد الرجال، ثم صلى عليه الصبيان. ومضى
في ذلك يوم الثلاثاء كاملا، حتى دخلت ليله الاربعاء، قالت عائشة: ما علمنا بدفن رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي (جمع مسحاة، وهي مجرفه من حديد)
من جوف الليل من ليله الاربعاء.
قصه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كاملة
من صفاته واخلاقه صلى الله عليه وسلم»
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز من جمال خلقه وكمال خلقه بما لا يحيط
بوصفه البيان، وكان من اثره ان القلوب فاضت باجلاله، والرجال تفان وا في حياطته واكباره،
بما لا تعرف الدنيا لرجل غيره، فالذين عاشروه احبوه الى حد الهيام، ولم يبالوا ان
تندق اعناقهم ولا يخدش له ظفر. وصدق فيه قول الشاعر: خلقت مبرا من كل عيب
كانك قد خلقت كما تشاء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتدل الطول، فلم
يكن قصيرا، ولم يكن طويلا طولا مفرطا، وكانت بشرته بيضاء مشربه بحمرة، عيونه سوداء واسعة،
جفونه طويله الشعر. وكان مستدير الوجه، سواء البطن والصدر، عريض الصدر، عظيم رءوس العظام كالمرفقين
والكتفين والركبتين، مع تناسب ذلك مع باقي اعضاء جسمه. قالت ام معبد الخزاعيه ضمن ما
قالت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تصفه لزوجها، حين مر بخيمتها مهاجرا
: ظاهر الوضاءة، ابلج (اي مضيء) الوجه، حسن الخلق، اذا صمت علاه الوقار، وان تكلم
علاه البهاء، اجمل الناس وابهاهم من بعيد، واحسنهم واحلاهم من قريب، حلو المنطق، له رفقاء
يحفون به، اذا قال استمعوا لقوله، واذا امر تبادروا الى امره. وقال علي بن ابي
طالب وهو ينعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم
النبيين، اجود الناس كفا، واجرا الناس صدرا، واصدق الناس لهجة، واوفي الناس ذمة، والينهم عريكه
(اي سلس المعاملة) واكرمهم عشرة، من راه بديهه (اي فجاة) هابه، ومن خالطه معرفه احبه،
يقول ناعته (يعني كل من يصفه): لم ار قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه
وسلم. وقال البراء: كان احسن الناس وجها، واحسنهم خلقا. وسئل: اكان وجه النبي صلى الله
عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر. وقالت الربيع بنت معوذ: لو رايته
رايت الشمس طالعة. وقال ابو هريرة: ما رايت شيئا احسن من رسول الله صلى الله
عليه وسلم، كان الشمس تجري في وجهه، وما رايت احدا اسرع في مشيه من رسول
الله صلى الله عليه وسلم، كانما الارض تطوي له، وانا لنجهد انفسنا، وانه لغير مكترث.
وقال كعب بن مالك: كان اذا سر استنار وجهه، حتى كانه قطعه قمر. وعرق مره
وهو عند عائشة، فجعلت تبرق اسارير وجهه، فتمثلت له بقول ابي كبير الهذلي. واذا نظرت
الى اسره وجهه برقت كبرق العارض المتهلل (اسره وجهه: اي محاسن وجهه والخدان والوجنتان، والعارض:
السحاب) وكان ابو بكر اذا راه يقول: امين مصطفى بالخير يدعو كضوء البدر زايله الظلام
وكان عمر ينشد قول زهير في هرم بن سنان: لو كنت من شئ سوى البشر
كنت المضئ ليله البدر ثم يقول: كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان
اذا غضب احمر وجهه حتى كانما فقئ في وجنتيه حب الرمان وقال جابر بن سمرة:
كان لا يضحك الا تبسما، وكنت اذا نظرت قلت: اكحل العينين، وليس باكحل. قال ابن
العباس: كان اذا تكلم رؤي كالنور يخرج من بين ثناياه. وقال انس: ما مسست حريرا
ولا ديباجا الين من كف النبي صلى الله عليه وسلم، وما شممت عنبرا قط ولا
مسكا ولا شيئا اطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابو جحيفة:
اخذت بيده، فوضعتها على وجهي، فاذا هي ابرد من الثلج واطيب رائحه من المسك. وقال
انس:كان عرقه اللؤلؤ. وقالت ام سليم: هو من اطيب الطيب. وقال جابر: لم يسلك طريقا
فيتبعه احد الا عرف انه قد سلكه من طيب عرفه (اي رائحته). اما عن كمال
النفس ومكارم الاخلاق، فهذا ما لا سبيل للاحاطه به، فقد كان النبي صلى الله عليه
وسلم يمتاز بفصاحه اللسان، وبلاغه القول، وكان من ذلك بالمحل الافضل، والموضع الذي لا يجهل،
سلاسه طبع، ونصاعه لفظ، وجزاله (اي فصاحة) قول، وصحه معان، وقله تكلف، اوتي جوامع الكلم،
وخص ببدائع الحكم، وعلم السنه العرب، يخاطب كل قبيله بلسانها، ويحاورها بلغتها، اجتمعت له قوه
عارضه الباديه وجزالتها، ونصاعه الفاظ الحاضره ورونق كلامها، الى التاييد الالهي الذي مدده الوحي. وكان
الحلم والاحتمال والعفو عند المقدرة، والصبر على المكاره، صفات ادبه الله بها، وكل حليم قد
عرفت منه زلة، وحفظت عنه هفوة، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يزد مع كثره
الاذى الا صبرا، وعلى اسراف الجاهل الا حلما. قالت عائشة: ما خير رسول الله صلى
الله عليه وسلم بين امرين الا اختار ايسرهما ما لم يكن اثما، فان كان اثما
كان ابعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه الا ان تنتهك حرمه الله فينتقم بها، وكان
ابعد الناس غضبا واسرعهم رضا. وكان من صفه الجود والكرم على ما لا يقادر قدره،
كان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه
وسلم اجود الناس، واجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في
كل ليله من رمضان، فيدارسه القران، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم اجود بالخير من
الريح المرسلة، وقال جابر: ما سئل شيئا قط فقال لا. وكان من الشجاعه والنجده والباس
بالمكان الذي لا يجهل، كان اشجع الناس، حضر المواقف الصعبة، وفر عنه الكماه (اي الشجعان)
والابطال غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر، ولا يتزحزح، وما شجاع الا
وقد احصيت له فره (اي موقف جبن فيه) وحفظت عنه جوله سواه صلى الله عليه
وسلم، قال علي: كنا اذا حمي الباس واحمرت الحدق (الحدق: العيون، كنايه عن شده الخوف)
اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون احد اقرب الى العدو منه. قال
انس: فزع اهل المدينه ذات ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم راجعا وقد سبقهم الى الصوت، وهو على فرس لابي طلحه عرى، في عنقه
السيف، وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا. وكان اشد الناس حياء، قال ابو سعيد الخدري:
كان اشد حياء من العذراء في خدرها (اي فراشها) واذا كره شيئا عرف في وجهه،
وكان لا يثبت نظره في وجه احد، خافض الطرف، نظره الى الارض اطول من نظره
الى السماء، جل (اي اكثر) نظره الملاحظة، لا يشافه احدا بما يكره حياء وكرم نفس،
وكان لا يسمي رجلا بلغ عنه شئ يكرهه، بل يقول: ما بال اقوام يصنعون كذا
وكذا، وكان احق الناس بقول الفرزدق: يغضي حياء ويغضي من مهابته فلا يكلم الا حين
يبتسم وكان اعدل الناس، واعفهم، واصدقهم لهجة، واعظمهم امانة، اعترف له بذلك محاوروه واعداؤه، وكان
يسمى قبل نبوته الامين، ويتحاكم اليه في الجاهليه قبل الاسلام، وروى الترمذي عن علي ان
ابا جهل قال له: انا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فانزل الله تعالى
فيهم {فانهم لايكذبونك ولكن الظالمين بايات الله يجحدون} وسال هرقل ابا سفيان: هل تتهمونه بالكذب
قبل ان يقول ما قال؟ قال: لا. وكان اشد الناس تواضعا وابعدهم عن الكبر، يمنع
عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوه العبد، ويجلس
في اصحابه كاحدهم، قالت عائشة: كان يخصف نعله (اي يصلح) ويخيط ثوبه، ويعمل بيده كما
يعمل احدكم في بيته، وكان بشرا من البشر يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه. وكان
اوفي الناس بالعهود، واوصلهم للرحم، واعظم شفقه ورافه ورحمه بالناس، احسن الناس عشره وادبا، وابسط
الناس خلقا، ابعد الناس من سوء الاخلاق، لم يكن فاحشا، ولا متفحشا ولا لعانا، ولا
صخابا في الاسواق، ولا يجزي بالسيئه السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وكان لايدع احدا يمشي خلفه،
وكان لا يترفع على عبيده وامائه في ماكل ولا ملبس، ويخدم من خدمه، ولم يقل
لخادمه اف قط، ولم يعاتبه على فعل شئ او تركه، وكان يحب المساكين ويجالسهم،
ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيرا لفقره. كان في بعض اسفاره فامر باصلاح شاه (يعني بتجهيزها
للاكل) فقال رجل: علي ذبحها وقال اخر: علي سلخها، وقال اخر: علي طبخها، فقال صلى
الله عليه وسلم: وعلي جمع الحطب، فقالوا: نحن نكفيك، فقال: قد علمت انكم تكفوني، ولكني
اكره ان اتميز عليكم، فان الله يكره من عبده ان يراه متميزا بين اصحابه، وقام
وجمع الحطب. ولنترك هند بن ابي هاله يصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
قال هند فيما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الاحزان دائم الفكرة،
ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه باشداقه لا
باطراف فمه ويتكلم بجوامع الكلم، فصلا (اي كلاما محددا واضحا) لا فضول فيه (الفضول: ما
يمكن الاستغناء عنه) ولا تقصير، دمثا ليس بالجافي ولا بالمهين، يعظم النعمه وان دقت (اي
قلت) لا يذم شيئا، ولم يكن يذم ذواقا (اي طعاما) ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه
اذا تعرض للحق بشئ، حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها سماحه واذا
اشار اشار بكفه كلها، واذا تعجب قلبها، واذا غضب اعرض واشاح، واذا فرح غض طرفه،
جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام (يصف اسنانه بانها شديده البياض كالسحاب) وكان
يخزن لسانه (اي يكفه) الا عما يعنيه، يؤلف اصحابه ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم
ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير ان يطوي عن احد منهم بشره. يتفقد
اصحابه ويسال الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الامر، غير
مختلف، لا يغفل مخافه ان يغفلوا او يملوا، لكل حال عنده عتاد (يعني انه حسن
التصرف في كل المواقف) لا يقصر على الحق، ولا يجاوزه الى غيره، الذين يلونه من
الناس خيارهم، وافضلهم عنده اعمهم نصيحة، واعظمهم عنده منزله احسنهم مواساه ومؤازرة. كان لا يجلس
ولا يقوم الا على ذكر، ولا يوطن الاماكن (اي لا يميز لنفسه مكانا) اذا انتهى
الى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويامر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه؛ حتى لا
يحسب جليسه ان احدا اكرم عليه منه، من جالسه او اقامه لحاجته صابره حتى يكون
هو المنصرف عنه، ومن ساله حاجه لم يرده الا بها او بميسور من القول، وقد
وسع الناس خلقه فصار لهم ابا، وصاروا عنده في الحق متقاربين، يتفاضلون عنده بالتقوى، ويوقرون
الكبير، ويرحمون الصغير، ويرفدون (اي يعطون) ذا الحاجة، ويؤنسون الغريب. كان دائم البشر، سهل الخلق،
لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحاش، ولاعتاب، ولا مداح، يتغافل عما
لا يشتهي، ولا يقنط منه (القنوط: الياس) قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والاكثار (يعني
من عرض الدنيا) وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: لايذم احدا، ولا يعيره، ولا
يطلب عورته (اي لا يسعى لفضحه) ولا يتكلم الا فيما يرجو ثوابه، اذا تكلم اطرق
جلساؤه كانما على رءوسهم الطير (يعني شد انتباههم) واذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث،
من تكلم عنده انصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث اولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب
مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوه في المنطق، ويقول: اذا رايتم صاحب الحاجه يطلبها
فارفدوه (اي اعطوه) ولا يطلب الثناء الا من مكافئ. وقال خارجه بن زيد: كان النبي
صلى الله عليه وسلم اوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئا من اطرافه، وكان
كثير السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم من غير جميل، وكان ضحكه
تبسما، وكلامه فصلا، لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك اصحابه عنده التبسم، توقيرا له واقتداء
به. وعلى الجملة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم محلى بصفات الكمال المنقطعه النظير،
ادبه ربه فاحسن تاديبه، حتى خاطبه مثنيا عليه فقال: {وانك لعلى خلق عظيم} وكانت هذه
الخلال مما قرب اليه النفوس، وحببه الى القلوب، وصيره قائدا تهوى اليه الافئدة، والان من
شكيمه قومه (اي الان طباعهم) بعد الاباء حتى دخلوا في دين الله افواجا. وهذه الخلال
التي اتينا على ذكرها خطوط قصار من مظاهر كمال وعظيم صفاته، اما حقيقه ما كان
عليه من الامجاد والشمائل فامر لا تدرك حقيقته، ومن يستطيع معرفه كنه اعظم بشر في
الوجود بلغ اعلى قمه من الكمال، استضاء بنور ربه، حتى صار خلقه القران؟! اللهم صل
على محمد وعلى ال محمد، كما صليت على ابراهيم وعلى ال ابراهيم، انك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى ال محمد، كما باركت على ابراهيم وعلى ال ابراهيم، انك
حميد مجيد