الشكوى لغير الله مذله هل هو حديث
الاصل ان الشكوى الى المخلوق تنافي كمال الصبر؛ لان فيها رجاء للمخلوق، وقد يكون فيها
شيء من التسخط من قدر الله، فالمشروع للعبد ان يجعل شكواه الى الله وحده، قال
ابن تيمية: والصبر الجميل صبر بلا شكوى قال يعقوب عليه الصلاه والسلام انما اشكو بثي
وحزني الى الله مع قوله فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، فالشكوى الى الله
لا تنافي الصبر الجميل، ويروى عن موسى عليه الصلاه والسلام انه كان يقول اللهم لك
الحمد واليك المشتكى وانت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ومن دعاء النبي صلى الله عليه
وسلم اللهم اليك اشكو ضعف قوتي وقله حيلتي وهواني على الناس انت رب المستضعفين وانت
ربي الله الى من تكلني الى بعيد يتجهمني ام الى عدو ملكته امري، ان لم
يكن بك غضب علي فلا ابالي غير ان عافيتك هي اوسع لي، اعوذ بنور وجهك
الذي اشرقت له الظلمات وصلح عليه امر الدنيا والاخره ان ينزل بي سخطك او يحل
علي غضبك لك العتبى حتى ترضى، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرا في
صلاه الفجر انما اشكو بثي وحزني الى الله ويبكي حتى يسمع نشيجه من اخر الصفوف،
بخلاف الشكوى الى المخلوق، قرئ على الامام احمد في مرض موته ان طاووسا كره انين
المريض وقال انه شكوى، فما ان حتى مات، وذلك ان المشتكي طالب بلسان الحال اما
ازاله ما يضره او حصول ما ينفعه، والعبد مامور ان يسال ربه دون خلقه، كما
قال تعالى فاذا فرغت فانصب والى ربك فارغب، وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس:
اذا سالت فاسال الله واذا استغنت فاستعن بالله. اه من مجموع الفتاوى .
لكن ليست كل شكوى الى المخلوق محرمة، بل ان كانت لغرض صحيح كالاستعانه به على
زوال الضرر، فلا باس بها، واما الشكوى دون حاجة فهي مكروهة، وقد تصل الى التحريم ان
اقترن بها تسخط من قدر الله، قال ابن تيمية: والصبر ان يصبر عن شكوى ما
به الى غير الله فان هذا هو الصبر الجميل، واما الكتمان فيراد به شيئان: احدهما:
ان يكتم بثه والمه ولا يشكو الى غير الله فمتى شكا الى غير الله نقص
صبره، وهذا اعلى الكتمانين؛ لكن هذا لا يصبر عليه كل احد، بل كثير من الناس
يشكو ما به، وهذا على وجهين: فان شكا ذلك الى طبيب يعرف طب النفوس ليعالج
نفسه بعلاج الايمان فهو بمنزله المستفتي وهذا حسن، وان شكا الى من يعينه على المحرم
فهذا حرام، وان شكا الى غيره لما في الشكوى من الراحه كما ان المصاب يشتكي
مصيبته الى الناس من غير ان يقصد تعلم ما ينفعه ولا الاستعانه على معصيه فهذا
ينقص صبره، لكن لا ياثم مطلقا الا اذا اقترن به ما يحرم كالمصاب الذي يتسخط.
اه. من مجموع الفتاوى
.
وقال ابن القيم: لما كان الصبر حبس اللسان عن الشكوى الى غير الله، والقلب عن
التسخط، والجوارح عن اللطم وشق الثياب ونحوها، كان ما يضاده واقعا على هذه الجملة، فمنه
الشكوى الى المخلوق فاذا شكى العبد ربه الى مخلوق مثله فقد شكى من يرحمه الى
من لا يرحمه، ولا تضاده الشكوى الى الله كما تقدم في شكايه يعقوب الى الله
مع قوله فصبر جميل، واما اخبار المخلوق بالحال فان كان للاستعانه بارشاده او معاونته والتوصل
الى زوال ضرره لم يقدح ذلك في الصبر كاخبار المريض للطبيب بشكايته، واخبار المظلوم لمن
ينتصر به بحاله، واخبار المبتلى ببلائه لمن كان يرجو ان يكون فرجه على يديه، وقد
كان النبي اذا دخل على المريض يساله عن حاله، ويقول كيف تجدك؟ وهذا استخبار منه
واستعلام بحاله، واما الانين فهل يقدح في الصبر فيه روايتان عن الامام احمد، والتحقيق ان
الانين على قسمين انين شكوى فيكره، وانين استراحه وتفريج فلا يكره، وقد روى في اثر:
ان المريض اذا بدا بحمد الله ثم اخبر بحاله لم يكن شكوى، وقال شقيق البلخي:
من شكى من مصيبه نزلت به الى غير الله لم يجد في قلبه حلاوه لطاعه
الله ابدا. اه. من عده الصابرين باختصار .
وفي الاداب الشرعيه لابن مفلح: قال الشيخ مجد الدين في شرح الهدايه ولا باس ان
يخبر بما يجده من الم ووجع لغرض صحيح، لا لقصد الشكوى، واحتج احمد بقول النبي
صلى الله عليه وسلم لعائشه لما قالت: «واراساه. قال: بل انا واراساه» واحتج ابن المبارك
بقول ابن مسعود للنبي صلى الله عليه وسلم «انك لتوعك وعكا شديدا، فقال اجل اني
اوعك كما يوعك رجلان منكم» متفق عليه وقال ابن عقيل في الفنون قوله تعالى: {لقد
لقينا من سفرنا هذا نصبا} [الكهف: 62] يدل على جواز الاستراحه الى نوع من الشكوى
عند امساس البلوى ونظيره {يا اسفى على يوسف} [يوسف: 84] {مسني الضر} [الانبياء: 83] «ما
زالت اكله خيبر تعاودني» انتهى كلام ابن عقيل. وقال رجل للامام احمد: كيف تجدك يا
ابا عبد الله؟ قال: بخير في عافية، فقال: حممت البارحه قال اذا قلت لك: انا
في عافيه فحسبك لا تخرجني الى ما اكره، قال ابن الجوزي: اذا كانت المصيبه مما
يمكن كتمانها فكتمانها من اعمال الله الخفية، وقال ابن الجوزي في موضع اخر: شكوى المريض
مخرجه من التوكل، وقد كانوا يكرهون انين المريض لانه يترجم عن الشكوى، وذكر هذا النص
عن احمد وقال: فاما وصف المريض للطبيب ما يجده، فانه لا يضره. انتهى كلامه. وقال
عبد الله ان اخت بشر بن الحارث قلت للامام احمد: يا ابا عبد الله انين
المريض شكوى قال: ارجو انه لا يكون شكوى ولكنه اشتكى الى الله، وذكر غير واحد
في كراهه الانين في المرض روايتين، ورويت الكراهه عن طاوس .اه.
واما مقوله (الشكوى لغير الله مذلة) فهي صحيحه اذا كانت الشكوى من النوع المكروه او
المحرم، قال الغزالي: فالاحرى بالعبد ان لم يحسن الصبر على البلاء والقضاء وافضى به الضعف
الى الشكوى ان تكون شكواه الى الله تعالى فهو المبتلي والقادر على ازاله البلاء وذل
العبد لمولاه عز والشكوى الى غيره ذل واظهار الذل للعبد مع كونه عبدا مثله ذل
قبيح. اه. من الاحياء .
وقال ابن الجوزي: وقد كان السلف يكرهون الشكوى الى الخلق، والشكوى وان كان فيها راحه
الا انها تدل على ضعف وذل والصبر عنها دليل على قوه وعز. اه. من الثبات
عند الممات .
والله اعلم.