تفسير القران للشيخ الشعراوي صوت وصورة
{يا ايها الذين امنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى
فمن عفي له من اخيه شيء فاتباع بالمعروف واداء اليه باحسان ذلك تخفيف من ربكم
ورحمه فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب اليم (178)}
وساعه ينادي الله {ياايها الذين امنوا} فهذا النداء هو حيثيه الحكم الذي سياتي، ومعنى هذا
القول: انا لم اكلفكم اقتحاما على ارادتكم؛ او على اختياركم، وانما كلفتكم لانكم دخلتم الى
من باب الايمان بي، ومادمتم قد امنتم بي فاسمعوا مني التكليف.
فالله لم يكلف من لم يؤمن به، ومادام الله لا يكلف الا من امن به
فايمانك به جعلك شريكا في العقد، فان كتب عليك شيئا فانت شريك في الكتابة، لانك
لو لم تؤمن لما كتب، فكان الصفقه انعقدت، ومادامت الصفقه قد انعقدت فانت شريك في
التكليف، ولذلك يقول الله: {كتب} بضم الكاف. ولم يقل (كتب) بفتح الكاف. وتلحظ الفرق جليا
في الاشياء التي للانسان دخل فيها، فهو سبحانه يقول: {كتب الله لاغلبن انا ورسلي} [المجادلة:
21].
انه سبحانه هنا الذي كتب، لانه لا شريك له. عندما تقرا {كتب عليكم} فافهم ان
فيها الزاما ومشقة، وهي على عكس (كتب لكم) مثل قوله تعالى: {قل لن يصيبنا الا
ما كتب الله لنا} [التوبة: 51].
ان (كتب لنا) تشعرنا ان الشيء لمصلحتنا. وفي ظاهر الامر يبدو ان القصاص مكتوب عليك،
وساعه يكتب عليك القصاص وانت قاتل فيكون ولي المقتول مكتوبا له القصاص، اذن كل (عليك)
مقابلها (لك)، وانت عرضه ان تكون قاتلا او مقتولا. فان كنت مقتولا فالله كتب لك.
وان كنت قاتلا فقد كتب الله عليك. لان الذي (لي) لابد ان يكون (على) غيري،
والذي (علي) لابد ان يكون (لغيري). فالتشريع لا يشرع لفرد واحد وانما يشرع للناس اجمعين.
عندما يقول: {كتب عليكم القصاص}، ثم يقول في الايه التي بعدها: {ولكم في القصاص حياة}،
فهو سبحانه قد جاء ب (لكم)، و(عليكم). (عليكم) للقاتل، و(لكم) لولي المقتول. فالتشريع عادلا لانه
لم يات لاحد على حساب احد، والعقود دائما تراعي مصلحه الطرفين. {ياايها الذين امنوا كتب
عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر}.
ومن هو الحر؟ الحر ضد العبد وهو غير مملوك الرقبة، والحر من كل شيء هو
اكرم ما فيه، ويقال: حر المال يعني اكرم ما في المال. و(الحر) في الانسان هو
من لا يحكم رقبته احد. و(الحر) من البقول هو ما يؤكل غير ناضج، اي غير
مطبوخ على النار، كالفستق واللوز.
والحق سبحانه يقول: {الحر بالحر}، وظاهر النص ان الحر لا يقتل بالعبد، لانه سبحانه يقول:
{الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى}، لكن ماذا يحدث لو ان عبدا قتل حرا، او
قتلت امراه رجلا؛ هل نقتلهما ام لا؟
ان الحق يضع لمساله الثار الضوابط، وهو سبحانه لم يشرع ان الحر لا يقتل الا
بالحر، وانما مقصد الايه ان الحر يقتل ان قتل حرا، والعبد يقتل ان قتل عبدا،
والانثى مقابل الانثى، هذا هو اتمام المعادلة، فجزاء القاتل من جنس ما قتل، لا ان
يتعداه القتل الى من هو افضل منه.
ان الحق سبحانه وتعالى يواجه بذلك التشريع في القصاص قضيه كانت قائمه بين القبائل، حيث
كان هناك قتل للانتقام والثار.
ففي الزمن الجاهلي كانت اذا نشات معركه بين قبيلتين، فمن الطبيعي ان يوجد قتلى وضحايا
لهذا الاقتتال، فاذا قتل عبد من قبيله اصرت القبيله التي تملك هذا العبد ان تصعد
الثار فتاخذ به حرا، وكذلك اذا قتلت في تلك الحرب انثى، فان قبيلتها تصعد الثار
فتاخذ بها ذكرا.
والحق سبحانه وتعالى اراد ان يحسم قضيه الثار حسما تدريجيا، لذلك جاء بهذا الامر {الحر
بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى}. اذن، فالحق هنا يواجه قضيه تصعيديه في الاخذ بالثار، ويضع
منهجا يحسم هذه المغالاه في الثار.
وفي صعيد مصر، مازلنا نعاني من الغفله في تطبيق شريعه الله، فحين يقتل رجل من
قوم فهم لا يثارون من القاتل، وانما يذهبون الى اكبر راس في عائله القاتل ليقتلوه.
فالذين ياخذون الثار يريدون النكايه الاشد، وقد يجعلون فداء المقتول عشره من العائله الاخرى، وقد
يمثلون بجثثهم ليتشفوا، وكل ذلك غير ملائم للقصاص. وفي ايام الجاهليه كانوا يغالون في الثار،
والحق سبحانه وتعالى يبلغ البشريه جمعاء بان هذه المغالاه في الثار تجعل نيران العداوه لا
تخمد ابدا. لذلك فالحق يريد امر الثار الى حده الادنى، فاذا قتلت قبيله عبدا فلا
يصح ان تصعد القبيله الاخرى الامر فتاخذ بالعبد حرا.
اذن، فالحق يشرع امرا يخص تلك الحروب الجماعيه القديمة، وما كان يحدث فيها من قتل
جماعي، وما ينتج عنها بعد ذلك من مغالاه في الثار، وهذا هو التشريع التدريجي، وقضى
سبحانه ان يرد امر الثار الى الحد الادنى منه، فاذا قتلت قبيله عبدا فلا يصح
ان تصعد القبيله الاخرى الثار بان تقتل حرا. والحق يشرع بعد ذلك ان القاتل في
الاحوال العاديه يتم القصاص منه بالقتل له او بالدية.
فقد جاءت ايه اخرى يقول فيها الحق: {وكتبنا عليهم فيها ان النفس بالنفس والعين بالعين
والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفاره له ومن
لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الظالمون} [المائدة: 45].
وهكذا يصبح القصاص في قتل النفس يتم بنفس اخرى، فلا تفرقه بين العبد او الحر
او الانثى، بل مطلق نفس بمطلق نفس.
وهاهو ذا الحق سبحانه وتعالى يواجه بتقنين تشريع القصاص قضيه يريد ان يميت فيها لدد
الثار وحنق الحقد. فساعه تسمع كلمه قصاص وقتل، فمعنى ذلك ان النفس مشحونه بالبغضاء والكراهية،
ويريد ان يصفي الضغن والحقد الثاري من نفوس المؤمنين. ان الحق جل وعلا يعط لولي
الدم الحق في ان يقتل او ان يعفو، وحين يعطي الله لولي الدم الحق في
ان يقتل، فان امر حياه القاتل يصبح بيد ولي الدم، فان عفا ولي الدم لا
يكون العفو بتقنين، وانما بسماحه نفس، وهكذا يمتص الحق الغضب والغيظ.
وبعد ذلك يرقق الله قلب ولي الدم فيقول: {فمن عفي له من اخيه شيء فاتباع
بالمعروف واداء اليه باحسان}.
واذا تاملنا قوله: {فمن عفي له من اخيه} فلنلاحظ النقله من غليان الدم الى العفو.
ثم المبالغه في التحنن، كانه يقول: لا تنس الاخوه الايمانيه {فمن عفي له من اخيه
شيء فاتباع بالمعروف}.
وساعه يقول الحق كلمه (اخ) فانظر هل هذا الاخ اشترك في الاب؟ مثل قوله تعالى:
{وجاء اخوه يوسف}. ثم يرتقى بالنسب الايماني الى مرتبه الاخوه الايمانية، فيقول: {انما المؤمنون اخوة}
يعني اياكم ان تجعلوا التقاء النسب المادي دون التقائكم في القيم العقائدية.
والاصل في الاخ ان يشترك في الاب مثل: {وجاء اخوه يوسف}، فان كانوا اخوه من
غير الاب يسمهم اخوانا، فان ارتقوا في الايمان يسمهم اخوة. وعندما وصفهم بانهم اخوان قال:
{واذكروا نعمت الله عليكم اذ كنتم اعداء فالف بين قلوبكم فاصبحتم بنعمته اخوانا}. لقد كانت
بينهم حروب وبغضاء وشقاق، لم يصفهم بانهم اخوة؛ لانهم لازالوا في الشحناء، فوصفهم بانهم اخوان،
وبعد ان يختمر الايمان في نفوسهم يصبحون اخوة.
ولننظر في غزوه بدر، هاهو ذا مصعب بن عمير، كان فتى قريش المدلل والمنعم الذي
كانت تفوح منه رائحه العطر وملابسه من حرير؛ كان ذلك قبل اسلامه، وتغير كل ذلك
عندما دخل في الاسلام، فقد اخرجه الايمان من هذا النعيم الى بؤس المؤمنين الاولين لدرجه
انه كان يلبس جلد حيوان ويراه رسول الله في هذا الضنك فيقول: (انظروا كيف فعل
الايمان بصاحبكم).
وعندما جاءت معركه بدر التقى مع اخيه (ابي عزيز) الذي ظل على دين قريش، والتقى
الاثنان في المعركة، مصعب في معسكر المؤمنين، وابو عزيز في جيش المشركين. واثناء المعركه راى
اخاه ابا عزيز اسيرا مع ابي اليسر وهو من الانصار؛ فالتفت مصعب الى ابي اليسر،
وقال: يا ابا اليسر اشدد على اسيرك فان امه غنيه وستفديه بمال كثير.
فالتفت اليه ابو عزيز وقال: يا اخي اهذه وصاتك باخيك؟ قال مصعب: لا لست اخي
وانما اخي هذا. واشار الى ابي اليسر.
لقد انتهى نسب الدم واصبح نسب الايمان هو الاصل، واصبح مصعب اخا لابي اليسر في
الايمان، وانقطعت صلته بشقيقه في النسب لانه ظل مشركا.
وقوله تعالى: {فمن عفي له من اخيه شيء} كانه يحث ولي الدم على ان يعفو
ولا ينسى اخوه الايمان. صحيح انه ولى للمقتول؛ لانه من لحمته ونسبه، ولكن الله اراد
ان يجعل اخوه الايمان فوق اخوه الدم. {فمن عفي له من اخيه شيء فاتباع بالمعروف}.
وقد اورد الحق الاخوه هنا لترقيق المشاعر، لينبه اهل القاتل والقتيل معا ان القتل لا
يعني ان الاخوه الايمانيه انتهت، لا. ان على المؤمنين ان يضعوا في اعتبارهم ان اخوه
الايمان قد تفتر رابطتها. وحين يتذكر اولياء الدم اخوه الايمان، فان العفو يصبح قريبا من
نفوسهم. ولنا ان نلاحظ ان الحق يرفعنا الى مراتب التسامي، فيذكرنا ان عفو واحد من
اولياء الدم يقتضي ان تسود قضيه العفو، فلا يقتل القاتل.
وبعد ذلك لننظر الى دقه الحق في تصفيه غضب القلوب حين يضع الديه مكان القصاص
بالقتل. ان الديه التي سياخذها اولياء الدم من القاتل قد تكون مؤجله الاداء، فقد يقدر
القاتل او اهله على الاداء العاجل، لذلك فعلى الذي يتحمل الديه ان يؤديها، وعلى اهل
القتيل ان يتقبلوا ذلك بالمعروف، وان تؤدي الديه من اهل القاتل او من القاتل نفسه
باحسان.
وقوله الحق: {عفي له من اخيه شيء}، تدل على ان اولياء المقتول ان عفا واحد
منهم فهو عفو بشيء واحد، وليس له ان يقتص بعد ذلك، وتنتهي المساله ويحقن الدم،
ولم يرد الله ان يضع نصا بتحريم القصاص، ولكن اراد ان يعطي ولي الدم الحق
في ان يقتل، وحين يصبح له الحق في ان يقتل؛ فقد اصبحت المساله في يده،
فان عفا، تصبح حياه القاتل ثمره من ثمرات احسانه، وان عاش القاتل، لا يترك هذا
في نفس صاحب الدم بغضاء، بل ان القاتل سيتحبب اليه لانه احسن اليه ووهبه حياته.
لكن لو ظل النص على قصاص اهل القتيل من القاتل فقط ولم يتعده الى العفو
لظلت العقده في القلب.
والثارات الموجوده في المجتمعات المعاصره سببها اننا لم نمكن ولي الدم من القاتل، بدليل انه
اذا ما قدر قاتل على نفسه وذهب الى اهل القتيل ودخل عليهم بيتهم، وبالغ في
طلب العفو منهم، واخذ كفنه معه وقال لهم: جئتكم لتقتصوا مني، وهذا كفني معي فاصنعوا
بي ما شئتم، لم يحدث قط ان اهل قتيل غدروا بقاتل، بل المالوف والمعتاد ان
يعفوا عنه، لماذا؟
لانهم تمكنوا منه واصبحت حياته بين ايديهم، وفي العاده تنقلب العداوه الى مودة. فيظل القاتل
مدينا بحياته للذين عفوا عنه. والذين يعرفون ذلك من ابناء القاتل يرون ان حياه ابيهم
هبه وهبها لهم اولياء القتيل واقرباؤه، يرون ان عفو اهل القتيل هو الذي نجا حياه
قريبهم، وهكذا تتسع الدائرة، وتنقلب المساله من عداوه الى ود.
{ادفع بالتي هي احسن فاذا الذي بينك وبينه عداوه كانه ولي حميم} [فصلت: 34].
ولو لم يشرع الله القصاص لاصبحت المساله فوضى. لكنه يشرعه، ثم يتلطف ليجعل امر انهاء
القصاص فضلا من ولي الدم ويحببه لنا ويقول: {فمن عفي له من اخيه شيء فاتباع
بالمعروف واداء اليه باحسان}.
وهل من المعقول ان تكون الديه احسانا؟ لتتذكر ان القائل هنا هو الله، وكلامه قران،
والدقه في القران بلا حدود. ان الحق ينبه الى ان اولياء الدم اذا ما قبلوا
الدية؛ فمعنى ذلك ان اهل القتيل قد اسقطوا القصاص عن القاتل؛ وانهم وهبوه حق الحياة،
لذلك فان هذا الامر يجب ان يرد بتحيه او مكرمه احسن منه.
كان الحق لا يريد من اولياء الدم ان يرهقوا القاتل او اهله في الاقتضاء، كما
يريد ان يؤدي القاتل او اهله الديه باسلوب يرتفع الى مرتبه العفو الذي ناله القاتل.
وفي ذلك الامر تخفيف عما جاء بالتوراة؛ ففي التوراه لم تكن هناك ديه يفتدى القاتل
بها نفسه، بل كان القصاص في التوراه باسلوب واحد هو قتل انسان مقابل انسان اخر.
وفي الانجيل لا ديه ولا قتل: لان هناك مبدا اراد ان يتسامى به اتباع عيسى
عليه السلام على اليهود الذين انغمسوا في المادية. لقد جاء عيسى عليه السلام رسولا الى
بني اسرائيل لعله يستل من قلوبهم المادية، فجاء بمبدا: (من صفعك على خدك الايمن فادر
له الايسر).
ولكن الاسلام قد جاء دينا عاما جامعا شاملا، فيثير في النفس التسامي، ويضع الحقوق في
نصابها، فابقى القصاص، وترك للفضل مجالا. لذلك يقول الحق عن الدية: {ذلك تخفيف من ربكم
ورحمه فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب اليم}. وما وجه الاعتداء بعد تقرير الديه والعفو؟
كان بعض من اهل القبائل اذا قتل منهم واحد يشيعون انهم عفوا وصفحوا وقبلوا الديه
حتى اذا خرج القاتل من مخبئه مطمئنا، عندئذ يقتلونه. والحق يقرر ان هذا الامر هو
اعتداء، ومن يعتدي بعد ان يسقط حق القتل وياخذ الديه فله عذاب اليم. وحكم الله
هنا في العذاب الاليم، ونفهمه على ان المعتدي بقتل من اعلن العفو عنه لا يقبل
منه ديه ويستحق القتل عقابا، ولا يرفع الله عنه عذاب الدنيا او الاخرة.
ان الحق يرفع العقاب والعذاب عن القاتل اذا قبل القصاص ونفذ فيه، او اذا عفي
عنه الى الديه واداها. ولكن الحق لا يقبل سوى استخدام الفرص التي اعطاها الحق للخلق
ليرتفعوا في علاقاتهم. ان الحق لا يقبل ان يتستر اهل قتيل وراء العفو، ليقتلوا القاتل
بعد ان اعلنوا العفو عنه فذلك عبث بما اراده الحق منهجا بين العباد.
ولذلك يقول الحق: {ولكم في القصاص حياة…}.
{ولكم في القصاص حياه يا اولي الالباب لعلكم تتقون (179)}
وهنا نلاحظ ان النسق القراني ياتي مره فيقول: {ياايها الذين امنوا كتب عليكم}. وياتي هنا
ليقول النسق القراني: {ولكم في القصاص}.
التشريع الدقيق المحكم ياتي بواجبات وبحقوق؛ فلا واجب بغير حق، ولا حق بغير واجب، وحتى
نعرف سمو التشريع مطلوب من كل مؤمن ان ينظر الى ما يجب عليه من تكاليف،
ويقرنه بما له من حقوق، ولسوف يكتشف المؤمن انه في ضوء منهج الله قد نال
مطلق العدالة.
ان المشرع هو الله، وهو رب الناس جميعا، ولذلك فلا يوجد واحد من المؤمنين اولى
بالله من المؤمنين الاخرين. ان التكليف الايماني يمنع الظلم، ويعيد الحق، ويحمي ويصون للانسان المال
والعرض. ومن عاده الانسان ان يجادل في حقوقه ويريدها كاملة، ويحاول ان يقلل من واجباته،
ولكن الانسان المؤمن هو الذي يعطي الواجب تماما فينال حقوقه تامة، ولذلك يقول الحق: {ولكم
في القصاص حياه يااولي الالباب لعلكم تتقون} [البقرة: 179].
ان القصاص مكتوب على القاتل والمقتول وولي الدم. فاذا علم القاتل ان الله قد قرر
القصاص فان هذا يفرض عليه ان يسلم نفسه، وعلى اهله الا يخفوه بعيدا عن اعين
الناس؛ لان القاتل عليه ان يتحمل مسئوليه ما فعل، وحين يجد القاتل نفسه محوطا بمجتمع
مؤمن يرفض القتل فانه يرتدع ولا يقتل، اذن ففي القصاص حياة؛ لان الذي يرغب في
ان يقتل يمكنه ان يرتدع عندما يعرف ان هناك من سيقتص منه، وان هناك من
لا يقبل المداراه عليه.
وناتي بعد ذلك للذين يتشدقون ويقولون: ان القصاص وحشيه واهدار لادميه الانسان، ونسالهم: لماذا اخذتكم
الغيره لان انسانا يقتص منه بحق وقد قتل غيره بالباطل؟ ما الذي يحزنك عليه.
ان العقوبه حين شرعها الله لم يشرعها لتقع، وانما شرعها لتمنع. ونحن حين نقتص من
القاتل نحمي سائر افراد المجتمع من ان يوجد بينهم قاتل لا يحترم حياه الاخرين، وفي
الوقت نفسه نحمي هذا الفوضوي من نفسه؛ لانه سيفكر الف مره قبل ان يرتكب جريمة.
اذن فالقصاص من القاتل عبره لغيره، وحمايه لسائر افراد المجتمع ولذلك يقول الحق سبحانه: {ولكم
في القصاص حياة}. ان الحق يريد ان يحذرنا ان تاخذنا الاريحيه الكاذبة، والانسانيه الرعناء، والعطف
الاحمق، فنقول: نمنع القصاص.
كيف نغضب لمعاقبه قاتل بحق، ولا نتحرك لمقتل برئ؟ ان الحق حين يشرع القصاص كانه
يقول: اياك ان تقتل احدا لانك ستقتل ان قتلته، وفي ذلك عصمه لنفوس الناس من
القتل. ان في تشريع القصاص استبقاء لحياتكم؛ لانكم حين تعرفون انكم عندما تقتلون بريئا وستقتلون
بفعلكم فسوف تمتنعون عن القتل، فكانكم حقنتم دماءكم. وذلك هو التشريع العالي العادل.
وفي القصاص حياة؛ لان كل واحد عليه القصاص، وكل واحد له القصاص، انه التشريع الذي
يخاطب اصحاب العقول واولي الالباب الذين يعرفون الجوهر المراد من الاشياء والاحكام، او غير اولي
الالباب فهم الذين يجادلون في الامور دون ان يعرفوا الجوهر منها، فلولا القصاص لما ارتدع
احد، ولولا القصاص لغرقت البشريه في الوحشية.
ان الحكمه من تقنين العقوبه الا تقع الجريمه وبذلك يمكن ان تتوارى الجريمه مع العقوبه
ويتوازن الحق مع الواجب.
ان المتدبر لامر الكون يجد ان التوازن في هذه الدنيا على سبيل المثال في السنوات
الماضيه ياتي من وجود قوتين عظميين كلتاهما تخشى الاخرى وكلتاهما تختلف مع الاخرى، وفي هذا
الاختلاف حياه لغيرهما من الشعوب، لانهما لو اتفقتا على الباطل لتهدمت اركان دولتهما، وكان في
ذلك دمار العالم، واستعباد لبقيه الشعوب.
واذا كان كل نظام من نظم العالم يحمل للاخر الحقد والكراهيه والبغضاء ويريد ان يسيطر
بنظامه لكنه يخشى قوه النظام الاخر، لهذا نجد في ذلك الخوف المتبادل حمايه لحياه الاخرين،
وفرصه للمؤمنين ان ياخذوا باسباب الرقي العلمي ليقدموا للدنيا اسلوبا لائقا بحياه الانسان على الارض
في ضوء منهج الله. وعندما حدث اندثار لقوه من القوتين هي الاتحاد السوفيتي، فان الولايات
المتحده تبحث الان عن نقيض لها؛ لانها تعلم ان الحياه دون نقيض في مستوى قوتها،
قد يجرىء الصغار عليها.
ان الخوف من العقوبه هو الذي يصنع التوازن بين معسكرات العالم، والخوف من العقوبه هو
الذي يصنع التوازن في الافراد ايضا.
ان عدل الرحمن هو الذي فرض علينا ان نتعامل مع الجريمه بالعقاب عليها وان يشاهد
هذا العقاب اخرون ليرتدعوا.
فها هو ذا الحق في جريمه الزنى على سبيل المثال يؤكد ضروره ان يشاهد العقاب
طائفه من الناس ليرتدعوا. ان التشديد مطلوب في التحري الدقيق في امر حدوث الزنى؛ لان
عدم دقه التحري يصيب الناس بالقلق ويسبب ارتباكا وشكا في الانساب، والتشديد جاء ايضا في
العقوبه في قول الحق: {الزانيه والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائه جلده ولا تاخذكم بهما
رافه في دين الله ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر وليشهد عذابهما طائفه من المؤمنين}
[النور: 2].
ان الذي يجترئ على حقوق الناس يجترئ ايضا على حقوق الله، ولذلك فمقتضى ايثار الايمان
هو ارضاء الله لا ارضاء الناس. وفي انزال العقاب بالمعتدي خضوع لمنهج الله، وفي رؤيه
هذا العقاب من قبل الاخرين هو نشر لفكره ان المعتدي ينال عقابا، ولذلك شرع الحق
العقاب والعلانيه فيه ليستقر التوازن في النفس البشرية.
وبعد ذلك ياتي الحق سبحانه وتعالى ليعالج قضيه اجتماعيه اخرى. ان الحق بعد ان عالج
قضيه ارهاق الحياه ينتقل بنا الى قضيه اخرى من اقضيه الحياة، انها قضيه الموت الطبيعي.
كان الحق بعد ان اوضح لنا علاج قضيه الموت بالجريمه يريد ان يوضح لنا بعضا
من متعلقات الموت حتفا من غير سبب مزهق للروح. ان الحق يعالج في الايه القادمه
بعضا من الامور المتعلقه بالموت ليحقق التوازن الاقتصادي في المجتمع كما حقق بالايه السابقه التوازن
العقابي والجنائي في المجتمع. يقول الحق: {كتب عليكم اذا حضر احدكم الموت ان ترك خيرا
الوصية…}.
{كتب عليكم اذا حضر احدكم الموت ان ترك خيرا الوصيه للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على
المتقين (180)}
والحق كما اوضحت من قبل لا يقتحم على العباد امورهم ولكنه يعرض عليهم امر الايمان
به، فان امنوا فهذا الايمان يقتضي الموافقه على منهجه، ولذلك فالمؤمن يشترك بعقيدته في الايمان
بما كتب الله عليه. ان المؤمن هو من ارتضى الله الها ومشرعا، فحين يكتب الله
على المؤمن امرا، فالمؤمن قد اشترك في كتابه هذا الامر بمجرد اعلانه للايمان. اما الكافر
بالحق فلم يقتحم الله عليه اختياره للكفر، ولذلك لم يكتب عليه الحق الا امرا واحدا
هو العذاب في الاخرة.
فالله لا يكلف الا من امن به واحبه وامن بكل صفات الجلال والكمال فيه. ولذلك
فالتكليف الايماني شرف خص به الله المحبين المؤمنين به، ولو فطن الكفار الى ان الله
اهملهم لانهم لم يؤمنوا به لسارعوا الى الايمان، ولراوا اعتزاز كل مؤمن بتكليف الله له.
ان المؤمن يرى التكليف خضوعا لمشيئه الله. والخضوع لمشيئه الله يعني الحب. ومادام الحب قد
قام بين العبد والرب فان الحق يريد ان يديم هذا الحب، لذلك كانت التكاليف هي
مواصله للحب بين العبد والرب.
ان العبد يحب الرب بالايمان، والرب يحب العبد بالتكليف، والتكليف مرتبه اعلى من ايمان العبد،
فايمان العبد بالله لا ينفع الله، ولكن تكاليف الله للعبد ينتفع بها العبد. ان المؤمن
عليه ان يفطن الى عزه التكليف من الله، فليس التكليف ذلا ينزله الحق بعباده المؤمنين،
انما هو عزه يريدها الله لعباده المؤمنين، هكذا قول الحق: {كتب عليكم} انها امر مشترك
بين العبد والرب. ان الكتابه هنا امر مشترك بين الحق الذي انزل التكليف وبين العبد
الذي امن بالتكليف.
والحق يورد هنا امرا يخص الوصيه فيقول سبحانه: {كتب عليكم اذا حضر احدكم الموت ان
ترك خيرا الوصيه للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين} [البقرة: 180].
وهنا نجد شرطين: الشرط الاول: يبدا ب {اذا} وهي للامر المتحقق وهو حدوث الفعل. والموت
امر حتمي بالنسبه لكل عبد، لذلك جاء الحق بهذا الامر بشرط هو {اذا}، فهي اداه
لشرط وظرف لحدث. والموت هو امر محقق الا ان احدا لا يعرف ميعاده.
والشرط الثاني يبدا ب {ان} وهي اداه شرط نقولها في الامر الذي يحتمل الشك؛ فقد
يترك الانسان بعد الموت ثروه وقد لا يترك شيئا، ولذلك فان الحق يامر العبد بالوصيه
خيرا له لماذا؟ لان الحق يريد ان يشرع للاستطراق الجماعي، فبعد ان يوصي الحق عباده
بان يضربوا في الحياه ضربا يوسع رزقهم ليتسع لهم، ويفيض عن حاجتهم، فهذا الفائض هو
الخير، والخير في هذا المجال يختلف من انسان لاخر ومن زمن لاخر.
فعندما كان يترك العبد عشره جنيهات في الزمن القديم كان لهذا المبلغ قيمة، اما عندما
يترك عبد اخر الف جنيه في هذه الايام فقد تكون محسوبه عند البعض بانها قليل
من الخير، اذن فالخير يقدر في كل امر بزمانه، ولذلك لم يربطه الله برقم.
اننا في مصر مثلا كنا نصرف الجنيه الورقي بجنيه من الذهب ويفيض منه قرشان ونصف
قرش؛ اما الان فالجنيه الذهبي يساوي اكثر من مائتين وخمسين جنيها؛ لان رصيد الجنيه المصري
في الزمن القديم كان عاليا. اما الان فالنقد المتداول قد فاق الرصيد الذهبي، لذلك صار
الجنيه الذهبي اغلى بكثير جدا من الجنيه الورقي.
ولان الاله الحق يريد بالناس الخير لم يحدد قدر الخير او قيمته، وعندما يحضر الموت
الانسان الذي عنده فائض من الخير لابد ان يوصي من هذا الخير. ولنا ان نلحظ
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن انتظار لحظه الموت ليقول الانسان
وصيته، او ليبلغ اسرته بالديون التي عليه، لان الانسان لحظه الموت قد لا يفكر في
مثل هذه الامور. ولذلك فعلينا ان نفهم ان الحق ينبهنا الى ان يكتب الانسان ما
له وما عليه في اثناء حياته. فيقول ويكتب وصيته التي تنفذ من بعد حياته. يقول
المؤمن: اذا حضرني الموت فلوالدي كذا وللاقربين كذا.
اي ان المؤمن مامور بان يكتب وصيته وهو صحيح، ولا ينتظر وقت حدوث الموت ليقول
هذه الوصية. والحق يوصي بالخير لمن؟ {للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين}. والحق يعلم عن
عباده انهم يلتفتون الى ابنائهم وقد يهملون الوالدين، لان الناس تنظر الى الاباء والامهات كمودعين
للحياة، على الرغم من ان الوالدين هما سبب ايجاد الابناء في الحياة، لذلك يوصي الحق
عباده المؤمنين بان يخصصوا نصيبا من الخير للاباء والامهات وايضا للاقارب. وهو سبحانه يريد ان
يحمي ضعيفين هما: الوالدان والاقرباء.
وقد جاء هذا الحكم قبل تشريع الميراث كانوا يعطون كل ما يملكون لاولادهم، فاراد الله
ان يخرجهم من اعطاء اولادهم كل شيء وحرمان الوالدين والاقربين. وقد حدد الله من بعد
ذلك نصيب الوالدين في الميراث، اما الاقربون فقد ترك الحق لعباده تقرير امرهم في الوصية.
وقد يكون الوالدان من الكفار، لذلك لا يرثان من الابن، ولكن الحق يقول: {ووصينا الانسان
بوالديه حملته امه وهنا على وهن وفصاله في عامين ان اشكر لي ولوالديك الي المصير
وان جاهداك على ان تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في
الدنيا معروفا واتبع سبيل من اناب الي ثم الي مرجعكم فانبئكم بما كنتم تعملون} [لقمان:
14-15].
ان الحق يذكر عباده بفضله عليهم، وايضا بفضل الوالدين، ولكن ان كان الوالدان مشركين بالله
فلا طاعه لهما في هذا الشرك، ولكن هناك الامر بمصاحبتهما في الحياه بالمعروف واتباع طريق
المؤمنين الحاملين للمنهج الحق.
لذلك فالانسان المؤمن يستطيع ان يوصي بشيء من الخير في وصيته للابوين حتى ولو كانا
من الكافرين، ونحن نعرف ان حدود الوصيه هي ثلث ما يملكه الانسان والباقي للميراث الشرعي.
اما اذا كانا من المؤمنين فنحن نتبع الحديث النبوي الكريم: (لا وصيه لوارث).
وفي الوصيه يدخل اذن الاقرباء الضعفاء غير الوارثين، هذا هو المقصود من الاستطراق الاجتماعي. والحق
حين ينبه عباده الى الوصيه في اثناء الحياه بالاقربين الضعفاء، يريد ان يدرك العباد ان
عليهم مسئوليه تجاه هؤلاء. ومن الخير ان يعمل الانسان في الحياه ويضرب في الارض ويسعى
للرزق الحلال ويترك ورثته اغنياء بدلا من ان يكونوا عاله على احد.
عن سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه قال: «جاء النبي صلى الله عليه وسلم
يعودني، وانا بمكة، قال: يرحم الله بن عفراء، قلت: يا رسول الله اوصي بمالي كله؟
قال: لا قلت: فالشطر؟ قال: لا. قلت الثلث؟ قال: فالثلث، والثلث كثير، انك ان تدع
ورثتك اغنياء خير من ان تدعهم عاله يتكففون الناس» . واذا رزق الله الانسان بالعمل
خيرا كثيرا فاياك ايها الانسان ان تقصر هذا الخير على من يرثك.
لماذا؟ لانك ان قصرت شيئا على من يرثك فقد تصادف في حياتك من لا يرث
وله شبهه القربى منك، وهو في حاجه الى من يساعده على امر معاشه فاذا لم
تساعده يحقد عليك وعلى كل نعمه وهبها الله لك، ولكن حين يعلم هذا القريب ان
النعمه التي وهبها الله لك قد يناله منها شيء ولو بالوصيه وليس بالتقنين الارثي هذا
القريب يملاه الفرح بالنعمه التي وهبها الله لك.
ولذلك قال الحق: {كتب عليكم اذا حضر احدكم الموت ان ترك خيرا الوصيه للوالدين والاقربين
بالمعروف حقا على المتقين} [البقرة: 180].
ان الحق يريد ان يلفت العباد الى الاقرباء غير الوارثين بعد ان ادخل الاباء والامهات
في الميراث. ان الانسان حين يكون قريبا لميت ترك خيرا، وخص الميت هذا القريب ببعض
من الخير في الوصية، هذا القريب تمتلئ بالخير نفسه فيتعلم الا يحبس الخير عن الضعفاء،
وهكذا يستطرق الحب وتقوم وشائج المودة.
والحق يفترض وهو الاعلم بنفوس عباده ان الموصي قد لا يكون على حق والوارث قد
يكون على حق، لذلك احتاط التشريع لهذه الحالة؛ لان الموصى له حين ياخذ حظه من
الوصيه سينقص من نصيب الوارث، ولذلك يريد الحق سبحانه وتعالى ان يعصم الاطراف كلها، انه
يحمي الذي وصى، والموصي له، والوارث ومن هنا يقول الحق: {فمن بدله بعد ما سمعه
فانما اثمه على الذين يبدلونه ان الله سميع عليم}