سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم , مواقف في حياة أشرف الخلق
الحمد لله وحده والصلاه والسلام على من لا نبي بعده ، اما بعد :
احب ان اقدم لكم عرض كامل لسلسه السيره النبويه منذ ميلاد الرسول وحتى وفاته ..
والذي اتمنى من خلاله ان يصل الى كل جاهل عن سيره سيد الخلق اجمعين محمد
عليه افضل الصلاه واتم التسليم ..
الجزء (1) : العرب قبل الاسلام
كان العرب في شبه الجزيره العربيه قبل بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم يعبدون الاصنام
من دون الله، ويقدمون لها القرابين، ويسجدون لها، ويتوسلون بها، وهي احجار لا تضر ولا
تنفع، وكان حول الكعبه ثلاثمائه وستون صنما.
ومن عجيب امرهم ان احدهم كان يشتري العجوة، ويصنع منها صنما، ثم يعبده ويسجد له،
ويساله ان يحجب عنه الشر ويجلب له الخير، فاذا شعر بالجوع اكل الهه!! ثم ياخذ
كاسا من الخمر، يشربها حتى يفقد وعيه، وفي ذلك الزمان كانت تحدث اشياء غريبه وعجيبة،
فالناس يطوفون عرايا حول الكعبة، وقد تجردوا من ملابسهم بلا حياء، يصفقون ويصفرون ويصيحون بلا
نظام، وقد وصف الله -عز وجل- صلاتهم فقال: {وما كان صلاتهم عند البيت الا مكاء
وتصديه فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} [الانفال:35].
وكانت الحروب تقوم بينهم لاتفه الاسباب، وتستمر مشتعله اعواما طويله فهذان رجلان يقتتلان، فيجتمع الناس
حولهما، وتناصر كل قبيله صاحبها، لم يسالوا عن الظالم ولا عن المظلوم، وتقوم الحرب في
لمح البصر، ولا تنتهي حتى يموت الرجال، وانتشرت بينهم العادات السيئه مثل: شرب الخمر، وقطع
الطرق والزنا.
وكانت بعض القبائل تهين المراة، وينظرون اليها باحتقار، فهي في اعتقادهم عار كبير عليهم ان
يتخلصوا منها، فكان الرجل منهم اذا ولدت له انثى؛ حزن حزنا شديدا. قال تعالى: {واذا
بشر احدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتواري من القوم من سوء ما بشر
به ايمسكه علي هون ام يدسه في التراب الا ساء ما يحكمون} _[النحل: 58-59] وقد
يصل به الامر الى ان يدفنها وهي حية، وهي العاده التي عرفت عندهم بواد البنات.
فهذا رجل يحمل طفلته ويسير بها الى الصحراء فوق الرمال المحرقة، ويحفر حفره ثم يضع
ابنته فيها وهي حية، ولا تستطيع الطفله البريئه ان تدافع عن نفسها؛ بل تناديه: ابتاه
.. ابتاه .. فلا يرحم براءتها ولا ضعفها، ولا يستجيب لندائها.. بل يهيل عليها الرمال،
ثم يمشي رافعا راسه كانه لم يفعل شيئا!! قال تعالى: {واذا الموءوده سئلت باي ذنب
قتلت} [التكوير: 7-8] وليس هذا الامر عاما بين العرب، فقد كانت بعض القبائل تمنع واد
البنات.
وكان الظلم ينتشر في المجتمع؛ فالقوى لا يرحم الضعيف، والغني لا يعطف على الفقير، بل
يسخره لخدمته، وان اقرضه مالا؛ فانه يقرضه بالربا، فاذا اقترض الفقير دينارا؛ يرده دينارين، فيزداد
فقرا، ويزداد الغني ثراء، وكانت القبائل متفرقة، لكل قبيله رئيس، وهم لا يخضعون لقانون منظم،
ومع كل هذا الجهل والظلام في ذلك العصر المسمى بالعصر الجاهلي، كانت هناك بعض الصفات
الطيبة
والنبيلة؛ كاكرام الضيف، فاذا جاء ضيف على احدهم بذل له كل ما عنده، ولم يبخل
عليه بشىء، فها هو ذا حاتم الطائي لم يجد ما يطعم به ضيوفه؛ فذبح
فرسه -وقد كانوا ياكلون لحم الخيل- واطعمهم قبل ان ياكل هو.
وكانوا ينصرون المستغيث فاذا نادى انسان، وقال: اني مظلوم اجتمعوا حوله وردوا اليه حقه، وقد
حدث ذات مره ان جاء رجل يستغيث، وينادي باعلى صوته في زعماء قريش ان ينصروه
على العاص بن وائل الذي اشترى منه بضاعته، ورفض ان يعطيه ثمنها؛ فتجمع زعماء قريش
في دار عبدالله بن جدعان وتحالفوا على ان ينصروا المظلوم، وياخذوا حقه من الظالم، وسموا
ذلك الاتفاق حلف الفضول، وذهبوا الى العاص بن وائل، واخذوا منه ثمن البضاعة، واعطوه لصاحبه.
وفي هذا المجتمع ولد محمد صلى الله عليه وسلم من اسره كريمه المعدن، نبيله النسب،
جمعت ما في العرب من فضائل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه:
(ان الله اصطفى كنانه من ولد اسماعيل، واصطفى قريشا من كنانه واصطفي من قريش بني
هاشم، واصطفاني من بني هاشم). [مسلم].
الجزء (2) : نسب النبى صلى الله عليه وسلم
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي
بن
كلاب بن مره بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر
بن
كنانه بن خزيمه بن مدركه بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان
الذي يصل نسبه الى اسماعيل بن ابراهيم -عليهما الصلاه والسلام..
جده هاشم وحكايه الثريد:
كان عمرو بن عبد مناف الجد الاكبر للرسول صلى الله عليه وسلم رجلا كريما فقد
حدث في عصره ان نزل القحط بالناس، فلم يجدوا ما ياكلون، وكادوا يموتون جوعا، وبدا
كل انسان يفكر في نجاه نفسه فقط، فالذي عنده طعام يحرص عليه ويحجبه عن الناس،
فذهب عمرو الى بيته واخرج ما عنده من الطعام، واخذ يهشم الثريد (اي: يكسر الخبز
في المرق) لقومه ويطعمهم، فسموه (هاشما)؛ لانه كريم يهشم ثريده للناس جميعا.
وعندما ضاق الرزق في مكه اراد هاشم ان يخفف عن اهلها، فسافر الى الشام صيفا،
والى اليمن شتاء؛ من اجل التجارة، فكان اول من علم الناس هاتين الرحلتين، وفي احدى
الرحلات، وبينما هاشم في طريقه للشام مر بيثرب، فتزوج سلمى بنت عمرو احدى نساء بني
النجار، وتركها وهي حامل بابنه عبد المطلب لتلد بين اهلها الذين اشترطوا عليه ذلك عند
زواجه منها.
جده عبدالمطلب وحكايه الكنز:
كان عبد المطلب بن هاشم جد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يسقي الحجيج الذين
ياتون للطواف حول الكعبة، ويقوم على رعايه بيت الله الحرام فالتف الناس حوله، فكان زعيمهم
واشرفهم، وكان عبدالمطلب يتمنى لو عرف مكان بئر زمزم ليحفرها؛ لانها كانت قد ردمت بمرور
السنين، ولم يعد احد يعرف مكانها، فراى في منامه ذات ليله مكان بئر زمزم، فاخبر
قومه بذلك ولكنهم لم يصدقوه، فبدا عبدالمطلب في حفر البئر هو وابنه الحارث، والناس يسخرون
منهما، وبينما هما يحفران، تفجر الماء من تحت اقدامهما، والتف الناس حول البئر مسرورين، وظن
عبدالمطلب انهم سيشكرونه، لكنه فوجئ بهم ينازعونه امتلاك البئر، فشعر بالظلم والضعف لانه ليس له
ابناء الا الحارث، وهو لا يستطيع نصرته، فاذا به يرفع يديه الى السماء، ويدعو الله
ان يرزقه عشره ابناء من الذكور، ونذر ان يذبح احدهم تقربا لله.
حكايه الابناء العشره :
استجاب الله دعوه عبد المطلب، فرزقه عشره اولاد، وشعر عبدالمطلب بالفرحه فقد تحقق رجاؤه، ورزق
باولاد سيكونون له سندا وعونا، لكن فرحته لم تستمر طويلا؛ فقد تذكر النذر الذي قطعه
على نفسه، فعليه ان يذبح واحدا من
اولاده، فكر عبدالمطلب طويلا، ثم ترك الاختيار لله تعالى، فاجرى قرعه بين اولاده، فخرجت القرعه
على عبدالله اصغر اولاده واحبهم الى قلبه، فاصبح
عبد المطلب في حيرة؛ ايذبح ولده الحبيب ام يعصى الله ولا يفي بنذره؟
فاستشار قومه، فاشاروا عليه بان يعيد القرعة، فاعادها مرارا، لكن القدر كان يختار عبدالله في
كل مرة، فازداد قلق عبدالمطلب، فاشارت عليه كاهنه بان يفتدي ولده بالابل، فيجري القرعه بين
عبدالله وعشره من الابل، ويظل يضاعف عددها، حتى تستقر القرعه على الابل بدلا من ولده،
فعمل عبدالمطلب بنصيحه الكاهنة، واستمر في مضاعفه عدد الابل حتى بلغت مائه بعير، وعندئذ وقعت
القرعه عليها، فذبحها فداء لعبد الله، وفرحت مكه كلها بنجاه عبد الله، وذبح له والده
مائه ناقه فداء له، وازداد عبد المطلب حبا لولده، وغمره بعطفه
ورعايته.
ابوه عبدالله وزواجه المبارك من السيده امنة:
كان عبد الله اكرم شباب قريش اخلاقا، واجملهم منظرا، واراد والده
عبد المطلب ان يزوجه، فاختار له زوجه صالحة، هي السيده امنه بنت وهب بن عبد
مناف بن زهره اطهر نساء بني زهرة، وسيده نسائهم، والسيده امنه تلتقي في نسبها مع
عبدالله والد النبي صلى الله عليه وسلم في كلاب بن مرة، وتمر الايام، ويخرج عبدالله
في تجاره الى الشام، بعد ان ترك زوجته امنه حاملا ولحكمه يعلمها الله، مات عبد
الله قبل ان يرى وليده.
حكايه الفيل:
وذات يوم، استيقظ اهل مكه على خبر اصابهم بالفزع والرعب، فقد جاء ملك اليمن ابرهه
الاشرم الحبشي بجيش كبير، يتقدمه فيل ضخم، يريد هدم الكعبه حتى يتحول الحجيج الى كنيسته
التي بناها في اليمن، وانفق عليها
اموالا كثيرة، واقترب الجيش من بيت الله الحرام، وظهر الخوف والهلع على وجوه اهل مكة،
والتف الناس حول عبدالمطلب الذي قال لابرهه بلسان الواثق من نصر الله تعالى: (للبيت رب
يحميه).
فازداد ابرهه عنادا، واصر على هدم الكعبة، فوجه الفيل الضخم نحوها، فلما اقترب منها ادار
الفيل ظهره ولم يتحرك،، وارسل الله طيورا من السماء تحمل حجاره صغيرة، لكنها شديده صلبة،
القت بها فوق رءوس جنود ابرهه فقتلتهم واهلكتهم. قال تعالى: {الم تر كيف فعل ربك
باصحاب الفيل . الم يجعل كيدهم في تضليل . وارسل عليهم طيرا ابابيل . ترميهم
بحجاره من سجيل فجعلهم كعصف ماكول} [الفيل] وفي هذا العام ولد الرسول صلى الله عليه
وسلم.
الجزء(3) : ميلاد الرسول وطفولته
في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الاول الذي يوافق عام (175م) ولدت السيده
امنه بنت وهب زوجه عبد الله بن عبد المطلب غلاما جميلا، مشرق الوجه، وخرجت ثويبه
الاسلميه خادمه ابي لهب -عم النبي صلى الله عليه وسلم- تهرول الى سيدها ابي لهب،
ووجهها ينطق بالسعادة، وما كادت تصل اليه حتى همست له بالبشرى، فتهلل وجهه، وقال لها
من فرط سروره:
اذهبي فانت حرة! واسرع عبد المطلب الى بيت ابنه عبد الله ثم خرج حاملا الوليد
الجديد، ودخل به الكعبه مسرورا كانه يحمل على يديه كل نعيم
الدنيا، واخذ يضمه الى صدره ويقبله في حنان بالغ، ويشكر الله ويدعوه، والهمه الله ان
يطلق على حفيده اسم محمد.
حكايه مرضعه الرسول صلى الله عليه وسلم:
جاءت المرضعات من قبيله بني سعد الى مكة؛ لياخذن الاطفال الرضع الى الباديه حتى ينشئوا
هناك اقوياء فصحاء، قادرين على مواجهه اعباء الحياة، وكانت كل مرضعه تبحث عن رضيع من
اسره غنيه ووالده حي؛ ليعطيها مالا كثيرا، لذلك رفضت كل المرضعات ان ياخذن محمدا صلى
الله عليه وسلم لانه يتيم، واخذته السيده حليمه السعديه لانها لم تجد رضيعا غيره، وعاش
محمد صلى الله عليه وسلم في قبيله بني سعد، فكان خيرا وبركه على حليمه واهلها،
حيث اخضرت ارضهم بعد الجدب والجفاف، وجرى اللبن في ضروع الابل.
حكايه شق الصدر:
وفي باديه بني سعد وقعت حادثه غريبة، فقد خرج محمد صلى الله عليه وسلم ذات
يوم ليلعب مع اخيه من الرضاعه ابن حليمه السعدية، وفي اثناء لعبهما ظهر رجلان فجاة،
واتجها نحو محمد صلى الله عليه وسلم فامسكاه، واضجعاه على الارض ثم شقا صدره، وكان
اخوه من الرضاعه يشاهد عن قرب ما يحدث
له، فاسرع نحو امه وهو يصرخ، ويحكى لها ما حدث.
فاسرعت حليمه السعديه وهي مذعوره الى حيث يوجد الغلام القرشي فهو امانه عندها، وتخشى عليه
ان يصاب بسوء، لكنها على عكس ما تصورت، وجدته واقفا وحده، قد تاثر بما حدث،
فاصفر لونه، فضمته في حنان الى
صدرها، وعادت به الى البيت، فسالته حليمة: ماذا حدث لك يا محمد؟ فاخذ يقص عليها
ما حدث، لقد كان هذان الرجلان ملكين من السماء ارسلهما الله تعالى؛ ليطهرا قلبه ويغسلاه،
حتى يتهيا للرساله العظيمه التي سيكلفه الله بها.
خافت حليمه على محمد، فحملته الى امه في مكة، واخبرتها بما حدث
لابنها، فقالت لها السيده امنه في ثقة: اتخوفت عليه الشيطان؟ فاجابتها حليمة: نعم، فقالت السيده
امنة: كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل، وان لابني
لشانا؛ لقد رايت حين حملت به انه خرج مني نور، اضاء لي به قصور
الشام، وكان حمله يسيرا، فرجعت به حليمه الى قومها بعد ان زال الخوف من قلبها،
وظل عندها حتى بلغ عمره خمس سنوات، ثم عاد الى امه في مكة.
رحله محمد صلى الله عليه وسلم مع امه الى يثرب:
وذات يوم، خرجت السيده امنه ومعها طفلها محمد وخادمتها ام ايمن من مكه متوجهه الى
يثرب؛ لزياره قبر زوجها عبد الله، وفاء له، وليعرف ولدها قبر
ابيه، ويزور اخوال جده من بني النجار، وكان الجو شديد الحر، وتحملت اعباء هذه الرحله
الطويله الشاقة، وظلت السيده امنه شهرا في المدينة، واثناء عودتها مرضت وماتت وهي في الطريق،
في مكان يسمى الابواء، فدفنت فيه، وعادت
ام ايمن الى مكه بالطفل محمد يتيما وحيدا، فعاش مع جده عبدالمطلب، وكان عمر محمد
انذاك ست سنوات.
محمد صلى الله عليه وسلم في كفاله جده عبد المطلب:
بعد وفاه السيده امنه عاش محمد صلى الله عليه وسلم في ظل كفاله جده عبدالمطلب
الذي امتلا قلبه بحب محمد، فكان يؤثر ان يصحبه في مجالسه
العامة، ويجلسه على فراشه بجوار الكعبة، ولكن عبدالمطلب فارق الحياه ومحمد في الثامنه من عمره.
محمد صلى الله عليه وسلم في كفاله عمه ابي طالب:
وتكفل به بعد وفاه جده عمه ابو طالب، فقام بتربيته ورعايته هو وزوجته فاطمه بنت
اسد، واخذه مع ابنائه، رغم انه لم يكن اكثر اعمام النبي صلى الله عليه وسلم
مالا، لكنه كان اكثرهم نبلا وشرفا، فزاد عطفه على محمد صلى الله عليه وسلم حتى
انه كان لا يجلس في مجلس الا وهو معه، ويناديه بابنه من شده حبه له.
رحله الى الشام:
خرج محمد صلى الله عليه وسلم مع عمه ابو طالب في رحله الى الشام مع
القوافل التجاريه وعمره اثنا عشر عاما، وتحركت القافلة، ومضت في
طريقها؛ حتى وصلت الى بلده اسمها (بصرى) واثناء سيرها مرت بكوخ يسكنه راهب اسمه (بحيرى)
فلما راى القافله خرج اليها، ودقق النظر في وجه محمد صلى الله عليه وسلم طويلا،
ثم قال لابي طالب: ما قرابه هذا الغلام منك؟ فقال ابوطالب: هو ابني -وكان يدعوه
بابنه حبا له- قال بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي ان يكون هذا الغلام ابوه
حيا، قال ابو طالب: هو ابن اخي، فساله بحيرى: فما فعل ابوه؟ قال ابو طالب:
مات وامه حبلى به؟ فقال له بحيرى: صدقت! فارجع به الى بلده واحذر عليه اليهود!!
فوالله لئن راوه هنا ليوقعون به شرا، فانه سيكون لابن اخيك هذا شان عظيم، فاسرع
ابو طالب بالعوده الى مكه وفي صحبته ابن اخيه محمد.
الجزء (4) : النبى فى شبابه
كان الشباب في مكه يلهون ويعبثون، اما محمد صلى الله عليه وسلم فكان يعمل ولا
يتكاسل؛ يرعى الاغنام طوال النهار، ويتامل الكون ويفكر في خلق الله، وقد ذكر النبي صلى
الله عليه وسلم -بعد ان اوتي النبوة- ذلك العمل، فقال: (ما بعث الله نبيا الا
رعى الغنم) فقال اصحابه: وانت؟ قال: (نعم، كنت ارعاها على قراريط لاهل مكة) [البخاري] وكان
الله -سبحانه- يحرسه ويرعاه على الدوام؛ فذات يوم فكر ان يلهو كما يلهو الشباب، فطلب
من صاحب له ان يحرس اغنامه، حتى ينزل مكه ويشارك الشباب في لهوهم، وعندما وصل
اليها وجد حفل زواج، فوقف عنده، فسلط الله عليه النوم، ولم يستيقظ الا في صباح
اليوم التالي.
وعندما كانت قريش تجدد بناء الكعبة، كان محمد صلى الله عليه وسلم ينقل معهم الحجاره
للكعبه وعليه ازاره، فقال له العباس عمه: اجعل ازارك على رقبتك يقيك الحجارة، ففعل، فخر
الى الارض، وجعل ينظر بعينيه الى
السماء، ويقول: ازاري.. ازاري، فشد عليه، فما رؤى بعد ذلك عريانا.
التاجر الامين:
وحين جاوز النبي صلى الله عليه وسلم العشرين من عمره اتيحت له فرصه السفر مع
قافله التجاره الى الشام، ففي مكه كان الناس يستعدون لرحله الصيف التجاريه الى الشام، وكل
منهم يعد راحلته وبضاعته وامواله، وكانت السيده خديجه بنت خويلد -وهي من اشرف نساء قريش،
واكرمهن اخلاقا، واكثرهن مالا- تبحث عن رجل امين يتاجر لها في مالها ويخرج به مع
القوم، فسمعت عن محمد واخلاقه العظيمة، ومكانته عند اهل مكه جميعا ، واحترامهم له؛ لانه
صادق امين، فاتفقت معه ان يتاجر لها مقابل مبلغ من المال، فوافق محمد صلى الله
عليه وسلم وخرج مع غلام لها اسمه ميسره الى الشام.
تحركت القافله في طريقها الى الشام، وبعد ان قطع القوم المسافات
الطويله نزلوا ليستريحوا بعض الوقت، وجلس محمد صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، وعلى مقربه
منه صومعه راهب، وما ان راى الراهب محمدا صلى الله عليه وسلم حتى اخذ ينظر
اليه ويطيل النظر، ثم سال ميسرة: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال
ميسرة: هذا رجل من قريش من
اهل الحرم، فقال الراهب: ما نزل تحت هذه الشجره الا نبي، وباعت القافله كل تجارتها،
واشترت ما تريد من البضائع، وكان ميسره ينظر الى محمد ويتعجب من سماحته واخلاقه والربح
الكبير الذي حققه في مال السيده خديجة.
وفي طريق العوده حدث امر عجيب، فقد كانت هناك غمامه في السماء تظل محمدا وتقيه
الحر، وكان ميسره ينظر الى ذلك المشهد، وقد بدت على وجهه علامات الدهشه والتعجب، واخيرا
وصلت القافله الى مكه فخرج الناس لاستقبالها مشتاقين؛ كل منهم يريد الاطمئنان على امواله، وما
تحقق له
من ربح، وحكى ميسره لسيدته خديجه ما راى من امر محمد، فقد اخبرها بما قاله
الراهب، وبالغمامه التي كانت تظل محمدا في الطريق؛ لتقيه من الحر دون سائر افراد القافلة.
زواج محمد صلى الله عليه وسلم من السيده خديجة:
استمعت السيده خديجه الى ميسره في دهشة، وقد تاكدت من امانه محمد
صلى الله عليه وسلم وحسن اخلاقه، فتمنت ان تتزوجه، فارسلت السيده خديجه صديقتها نفيسه بنت
منبه؛ لتعرض على محمد الزواج، فوافق محمد صلى الله عليه وسلم على هذا الزواج، وكلم
اعمامه، الذين رحبوا ووافقوا على هذا
الزواج، وساروا الى السيده خديجه يريدون خطبتها؛ فلما انتهوا الى دار خويلد قام ابو طالب
عم النبي وكفيله يخطب خطبه العرس، فقال: (الحمد لله الذي جعلنا من ذريه ابراهيم وزرع
اسماعيل، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما
امنا، وجعلنا امناء بيته، وسواس حرمه، وجعلنا الحكام على الناس، ثم ان ابن اخي هذا
محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل شرفا ونبلا وفضلا، وان كان في المال
قلا، فان المال ظل زائل، وقد خطب خديجه بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما
عاجله واجله من مالي كذا وكذا، وهو والله بعد هذا له نبا
عظيم، وخطر جليل) وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم السيده خديجة، وعاشا معا حياه طيبه
موفقة، ورزقهما الله تعالى البنين والبنات، فانجبت له سته اولاد هم: زينب، ورقية، وام كلثوم،
وفاطمة، وعبدالله، والقاسم، وبه يكنى الرسول فيقال: ابو القاسم.
بناء الكعبه وقصه الحجر الاسود:
اجتمعت قريش لاعاده بناء الكعبة، واثناء البناء اختلفوا فيمن ينال شرف وضع الحجر الاسود في
مكانه، واشتد الخلاف بينهم، وكاد ان يتحول الى حرب بين قبائل قريش، ولكنهم تداركوا امرهم،
وارتضوا ان يحكموا اول داخل عليهم وانتظر القوم، وكل واحد يسال نفسه: ترى من سياتي
الان؟ ولمن سيحكم؟ وفجاه تهللت وجوههم بالفرحه والسرور عندما راوا محمدا يقبل عليهم، فكل واحد
منهم يحبه ويثق في عدله وامانته ورجاحه عقله وسداد رايه، فهتفوا: هذا الامين قد رضيناه
حكما، وعرضوا عليه الامر وطلبوا منه ان يحكم بينهم، فخلع الرسول صلى الله عليه وسلم
رداءه ووضع الحجر عليه، ثم امر رؤساء القبائل فرفعوا الثوب حتى اوصلوا الحجر الى مكانه
من الكعبة، عندئذ حمله الرسول صلى الله عليه وسلم بيده الشريفه ووضعه مكانه، وهكذا كفاهم
الله
شر القتال.
الجزء (5) : الوحي !!
كان محمد صلى الله عليه وسلم يكثر من الذهاب الى غار حراء، فيجلس وحده فيه
اياما بلياليها؛ يفكر في خالق هذا الكون بعيدا عن الناس وما يفعلونه
من اثام، ولقد كان يمشي تلك المسافه الطويله ويصعد ذلك الجبل العالي، ثم يعود الى
مكه ليتزود بالطعام ويرجع الى ذلك الغار، وظل مده لا يرى رؤيا الا وتحققت كما
راها، وبدات تحدث له اشياء عجيبه لا تحدث لاي انسان
اخر، فقد كان في مكه حجر يسلم عليه كلما مر به، قال صلى الله عليه
وسلم: (اني لاعرف حجرا بمكه كان يسلم علي قبل ان ابعث، اني لاعرفه
الان) [مسلم].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس ذات يوم في الغار، واذا بجبريل -عليه السلام-
ينزل عليه في صوره رجل ويقول له: اقرا. وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا
يعرف القراءه ولا الكتابة، فخاف وارتعد، وقال للرجل: ما انا بقارئ. واذا بجبريل -عليه السلام-
يضم النبي صلى الله عليه وسلم اليه بشدة، ثم يتركه ويقول له: اقرا. فقال محمد:
ما انا بقارئ. وتكرر ذلك مره ثالثة، فقال جبريل: {اقرا باسم ربك الذي خلق .
خلق الانسان من علق . اقرا وربك الاكرم} _[العلق:1-3]. فكانت هذه اولى ايات القران التي
نزلت في شهر رمضان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في السنه الاربعين
من عمره.
رجع محمد صلى الله عليه وسلم الى بيته مسرعا، ثم رقد وهو يرتعش، وطلب من
زوجته ان تغطيه قائلا: (زملونى، زملونى) وحكى لها ما راه في الغار، فطمانته السيده خديجة،
وقالت له: كلا والله لا يخزيك الله ابدا، انك لتصل الرحم وتحمل الكل (الضعيف) وتكسب
المعدوم، وتقري (تكرم) الضيف، وتعين على نوائب الحق، فلما استمع النبي صلى الله عليه وسلم
الى كلام السيده خديجة، عادت اليه الطمانينة، وزال عنه الخوف والرعب، وبدا يفكر فيما حدث.
حكايه ورقه بن نوفل:
وكان للسيده خديجه ابن عم، اسمه (ورقه بن نوفل) على علم بالديانه المسيحيه فذهبت اليه
ومعها زوجها؛ ليسالاه عما حدث، فقالت خديجه لورقة: يابن عم اسمع من ابن اخيك، فقال
ورقة: يابن اخي ماذا ترى؟ فاخبره النبي صلى الله عليه وسلم بالذي حدث في غار
حراء، فلما سمعه ورقه قال: هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى، ثم اخبره (ورقة)
انه يتمنى ان يعيش حتى ينصره، ويكون معه عندما يحاربه قومه، ويخرجونه من مكة، فلما
سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك تعجب وسال ورقه قائلا: او مخرجي هم؟ فقال
له: نعم، لم يات احد بمثل ما جئت به الا عودي، ومنذ ذلك اليوم والرسول
صلى الله عليه وسلم يزداد شوقا لوحي السماء الذي تاخر نزوله عليه بعد هذه المرة.
عوده الوحي:
وبعد فترة، وبينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي اذا به يسمع صوتا، فرفع
وجهه الى السماء، فراى الملك الذي جاءه في غار حراء جالسا على كرسي
بين السماء والارض، فارتعد الرسول صلى الله عليه وسلم من هول المنظر، واسرع الى المنزل،
وطلب من زوجته ان تغطيه، قائلا: دثرونى . دثرونى، واذا بجبريل ينزل اليه بهذه الايات
التي يوجهها الله اليه: {يا ايها المدثر . قم فانذر . وربك فكبر . وثيابك
فطهر . والرجز فاهجر} _[المدثر: 1-5] وفي هذه الايات تكليف من الله سبحانه لرسوله صلى
الله عليه وسلم ان يدعو الناس.
الدعوه الى الاسلام سرا:
كان الناس في مكه يعبدون الاصنام منذ زمن بعيد، وقد ورثوا عبادتها عن ابائهم واجدادهم؛
فبدا الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوه الى الاسلام سرا، وبدا باقرب الناس اليه، فامنت
به زوجته خديجه بنت خويلد، وامن به ايضا ابن عمه علي بن ابي طالب، وكان
غلاما في العاشره من عمره، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يقوم
بتربيته، وكان صديقه ابو بكر اول الذين امنوا به من الرجال، وكان ذا مكانه عظيمه
بين قومه، ياتي الناس اليه ويجلسون
معه، فاستغل ابو بكر مكانته هذه واخذ يدعو من ياتي اليه ويثق فيه
الى الاسلام، فاسلم على يديه عبدالرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، والزبير ابن العوام، وطلحه
بن عبيد الله .. وغيرهم.
ولم تكن الصلاه قد فرضت في ذلك الوقت بالكيفيه التي نعرفها، ولكن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يصلي باصحابه الذين اسلموا سرا ركعتين قبل طلوع الشمس وركعتين قبل
الغروب، وذلك في مكان بعيد عن اعين
الكفار.
وذات يوم كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي باصحابه في شعب من شعاب مكة،
اذ اقبل عليهم ابو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم والذي لم يؤمن برسالته،
فلما راى الرسول صلى الله عليه وسلم واصحابه يصلون، ساله عن هذا الدين الجديد، فاخبره
الرسول صلى الله عليه وسلم به لانه يثق في عمه ويامل ان يدخل الاسلام، ولكن
ابا طالب رفض ان يترك دين ابائه واجداده وطمان النبي صلى الله عليه وسلم وتعهد
بحمايته من اعدائه، واوصى ابنه عليا ان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمر
الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو قومه سرا، وعدد المسلمين يزداد يوما بعد يوم، ويقوى
الايمان في قلوبهم بما ينزله الله عليهم من القران الكريم، وظلوا هكذا ثلاث سنوات.
الجزء (6) :مرحله الدعوه الجهريه ..
امر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم ان يجهر بالدعوه ويبدا بعشيرته واهله، فقال
تعالى: {وانذر عشيرتك الاقربين} _[الشعراء:214] فنادى الرسول صلى الله عليه وسلم قريشا، وقال: (يا بني
كعب انقذوا انفسكم من النار، يا بني عبد شمس انقذوا انفسكم من النار، يا بني
عبد مناف انقذوا انفسكم من النار، يا بني هاشم وبني عبد المطلب انقذوا انفسكم من
النار، يا فاطمه انقذي نفسك من النار، فاني والله لا املك لكم من الله شيئا
الا ان لكم رحما سابلها ببلالها (ساصلها) ) _[مسلم].
ونزل هذا الكلام على قلوب الكفار نزول الصاعقة، فقد اصبحت المواجهه واضحه بينهم وبين رسول
الله صلى الله عليه وسلم، انه يطلب منهم ان يتركوا الاصنام التي يعبدونها، وان يتركوا
الفواحش، فلا يتعاملون بالربا، ولا يزنون، ولا يقتلون اولادهم، ولا يظلمون احدا، لكنهم قابلوا تلك
الدعوه بالرفض، وبدءوا يسخرون من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن دعوته، فصبر صلى الله
عليه وسلم عليهم وعلى تطاولهم.
وذات مرة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت، فتطاول عليه بعض الكفار بالكلام،
ولكنه صبر عليهم ومضى، فلما مر عليهم ثانيه تطاولوا عليه بمثل ما فعلوا، فصبر ولم
يرد، ثم مر بهم الثالثة، فتطاولوا عليه بمثل ما فعلوا ايضا، فقال صلى الله عليه
وسلم لهم: (اتسمعون يا معشر قريش؟ اما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح) فخاف القوم
حتى ان اكثرهم وقاحه اصبح يقول للرسول
صلى الله عليه وسلم بكل ادب: انصرف يا ابا القاسم، انصرف راشدا، فوالله ما كنت
جهولا.
وذات يوم، اقبل رجل من بلد اسمها (اراش) الى مكة، فظلمه ابو جهل، واخذ منه
ابله، فذهب الرجل الى نادي قريش يسالهم عن رجل ينصره على
ابي جهل، وهنا وجد الكفار فرصه للتسليه والضحك والسخريه من رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فامروا الرجل ان يذهب الى الرسول صلى الله عليه وسلم لياخذ له حقه، فذهب
الرجل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واخذوا ينظرون اليه ليروا ما سيحدث، فقام
النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجل ليعيد له حقه من ابي جهل، فارسلوا وراءه
احدهم؛ ليرى ما سوف يصنعه ابوجهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب الرسول
صلى الله عليه وسلم الى بيت ابي جهل، وطرق بابه، فخرج ابو جهل من البيت
خائفا مرتعدا، وقد تغير لونه من شده الخوف، فقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (اعط هذا الرجل حقه) فرد ابو جهل دون تردد: لا تبرح حتى اعطيه الذي
له، ودخل البيت مسرعا، فاخرج مال الرجل، فاخذه، وانصرف.
وعندما اقبل ابو جهل على قومه بادروه قائلين: ويلك! ما بك؟ فقال لهم: والله ما
هو الا ان ضرب علي وسمعت صوته فملئت منه رعبا، ثم خرجت اليه، وان فوق
راسه لفحلا من الابل ما رايت مثله قط، فوالله لو ابيت لاكلني. [البيهقي]
وبدا كفار قريش مرحله جديده من المفاوضات، فذهبوا الى ابي طالب عم النبي صلى الله
عليه وسلم، وقالوا له: يا ابا طالب، ان ابن اخيك قد سب
الهتنا، وعاب ديننا، وسفه احلامنا، وضلل اباءنا، فاما ان تكفه عنا، واما ان تخلى بيننا
وبينه، فرد عليهم ابو طالب ردا رقيقا، فانصرفوا عنه.
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر في اظهار دين الله ودعوه الناس اليه،
فجمع الكفار انفسهم مره اخرى وذهبوا الى ابي طالب، فقالوا له: يا ابا طالب، ان
لك سنا وشرفا ومنزله فينا، وانا قد استنهيناك من ابن اخيك فلم تنهه عنا، وانا
والله لا نصبر على هذا من شتم ابائنا، وتسفيه احلامنا، وعيب
الهتنا، حتى تكفه عنا، او ننازله واياك في ذلك حتى يهلك احد الفريقين.
وارسل ابو طالب الى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء قال له: يابن اخي!
ان قومك قد جاءوني، وقالوا كذا وكذا فابق على وعلى نفسك، ولا تحملني من الامر
ما لا اطيق انا ولا انت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم لعمه: (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في
يساري، ما تركت هذا الامر حتى يظهره الله او اهلك فيه) فقال ابو طالب: امض
على امرك وافعل ما احببت، فوالله! لا اسلمك لشيء ابدا.
لم يستطع المشركون ان يوقفوا مسيره الدعوه للاسلام، ولم يستطيعوا اغراء الرسول صلى الله عليه
وسلم بالمال او بالجاه، وقد خاب املهم في عمه
ابي طالب، وها هو ذا موسم الحج يقبل، والعرب سوف ياتون من كل
مكان، وقد سمعوا بمحمد ودعوته، وسوف يستمعون اليه وربما امنوا به
ونصروه، فتسرب الخوف الى قلوب الكفار في مكة، وفكروا في قول واحد يتفقون عليه ويقولونه
عن محمد صلى الله عليه وسلم حتى يصرفوا العرب
عنه، فالتفوا حول الوليد بن المغيرة، وكان اكبرهم سنا؛ فقال احدهم: نقول ان محمدا كاهن،
فقال الوليد: والله ما هو بكاهن، لقد راينا الكهان فما هو بزمزمه الكاهن ولا سجعه،
فقالوا: نقول ان محمدا مجنون، فقال لهم: ما هو بمجنون لقد راينا الجنون وعرفناه، فقالوا:
نقول ان محمدا شاعر، فقال لهم: ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله فما هو
بالشعر، فقالوا: نقول ساحر، فقال لهم: ما هو
بساحر، لقد راينا السحره وسحرهم وما هو منهم.
فقالوا للوليد بن المغيرة: فما تقول يا ابا عبد شمس؟ فاقسم لهم ان كلام محمد
هو احلى الكلام واطيبه، وما هم بقائلين من هذا شيئا الا عرف انه باطل، وان
اقرب القول فيه ان تقولوا: ان محمدا ساحر يفرق بين المرء واخيه وبين الرجل وزوجته
والرجل وابيه، فوافق الكفار على رايه وانتشروا في موسم الحج يرددون هذه الافتراءات بين الناس،
حتى يصدوهم عن دعوه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانزل الله تعالى في الوليد
بن المغيره قوله: {ذرني ومن خلقت
وحيدا . وجعلت له مالا ممدودا . وبنين شهودا . ومهدت له تمهيدا . ثم
يطمع ان ازيد . كلا انه كان لاياتنا عنيدا . سارهقه صعودا . انه فكر
وقدر . فقتل كيف قدر . ثم قتل كيف قدر . ثم نظر . ثم
عبس وبسر . ثم ادبر
واستكبر . فقال ان هذا الا سحر يؤثر . ان هذا الا قول البشر .
ساصليه
سقر . وما ادراك ما سقر . لا تبقي ولا تذر . لواحه للبشر .
عليها تسعه عشر} _[المدثر:11-30].
اسلام عمر بن الخطاب:
دعا الرسول صلى الله عليه وسلم الله ان يعز الاسلام باحد العمرين: عمر بن الخطاب،
او عمرو بن هشام، وكان عمر بن الخطاب قبل ان يسلم شديد الايذاء للمسلمين، وذات
يوم حمل عمر سيفه، وانطلق يبحث عن محمد ليقتله، وفي الطريق قابله رجل، واخبره ان
اخته فاطمه قد اسلمت هي وزوجها سعيد بن زيد، فاتجه عمر غاضبا نحو دار اخته،
ودق الباب، وكان الصحابي خباب بن الارت -رضي الله عنه- يعلم اخت عمر وزوجها القران
الكريم، فلما سمعوا صوت عمر امتلات قلوبهم بالرعب والخوف، واسرع خباب فاختبا في زاويه من
البيت، ودخل عمر فقال: لقد اخبرت انكما تبعتما محمدا على دينه، ثم ضرب زوج اخته،
وضرب اخته على وجهها حتى سال الدم من وجهها، ولكنها لم تخف، وقالت له في
ثبات وشجاعة: نعم اسلمنا وامنا بالله ورسوله، فاصنع ما شئت.
ندم عمر على ما صنع باخته، وطلب منها الصحيفه التي كانوا يقرءون
منها، فقالت له: يا اخي انك نجس وانه لا يمسه الا المطهرون، فقام عمر فاغتسل،
فاعطته الصحيفة، فقرا عمر: {طه . ما انزلنا عليكم القران لتشقى . الا تذكره لمن
يخشى . تنزيلا ممن خلق الارض والسموات العلى . الرحمن على العرش استوى . له
ما في السموات وما في الارض وما بينهما وما تحت الثرى . وان تجهر بالقول
فانه يعلم السر
واخفى . الله لا اله الا هو له الاسماء الحسنى} _[طه:1-8].
وكانت هذه الايات نورا جذب عمر الى الاسلام واضاء له طريق الحق، فما ان قراها
حتى لان قلبه، وهدا طبعه، وذهب عنه الغضب، وقال -والايمان يفيض في جوانحه-: ما احسن
هذا الكلام وما اكرمه، ثم ذهب الى النبي صلى الله عليه وسلم واعلن اسلامه، وبعد
قليل من اسلام عمر بن الخطاب -رضي الله
عنه- سار رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الكعبه في وضح النهار بين عمر
بن الخطاب وحمزه بن عبدالمطلب -رضي الله عنهما- وامتنع اصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم بهما، وكان المسلمون لا يقدرون ان يصلوا عند الكعبه حتى اسلم عمر بن الخطاب،
فلما اسلم هو وحمزه بن عبدالمطلب صلى المسلمون عند الكعبة.
الجزء (7) : الهجره الى الحبشة
اصبحت مكه سجنا كبيرا يعذب فيه ضعفاء المسلمين، فهذا اميه بن خلف يخرج عبده بلال
بن رباح -رضي الله عنه- في حر الظهيره ويطرحه على ظهره عريانا فوق الرمال المحرقة،
ويضع على صدره صخره كبيرة، كل هذا العذاب لان بلالا اسلم وسيده يريد منه ان
يكفر بمحمد ويعبد الاصنام، لكن بلالا كان قوي الايمان صلب العقيدة، لم يلن ولم يستسلم،
وكان يردد قائلا: احد .. احد. وتحمل كل هذا العذاب حتى فرج الله عنه.
وعذب المسلمون داخل بيوتهم؛ فهذا مصعب بن عمير قد حبسته امه، ومنعت عنه الطعام، وجمعت
اخواله حتى يعذبوه ليترك الاسلام، وهكذا اصبحت مكه مكانا غير مامون على المسلمين، فتعذيب الكفار
لهم يزداد يوما بعد يوم، ففكر النبي صلى الله عليه وسلم في مكان يطمئن فيه
على اصحابه، فوقع اختياره على الحبشة، فامر اصحابه ممن يطيقون الهجره بالتوجه اليها، لان فيها
ملكا لا يظلم عنده احد، وخرج بعض المسلمين المهاجرين الى هناك سرا، وكان من بينهم
عثمان بن عفان وزوجته رقيه بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وجعفر بن ابي طالب
وزوجته اسماء بنت عميس، وعبدالله بن مسعود -رضي الله عنهم- وغيرهم.
ولما علم اهل قريش بذلك اشتد غيظهم ورفضوا ان يتركوا المسلمين المهاجرين الى الحبشه وشانهم،
بل صمموا على ارجاعهم الى مكة، فاختاروا من بينهم رجلين معروفين بالذكاء، وهما: عمرو بن
العاص وعبدالله بن ابي بلتعه وارسلوهما بهدايا الى ملك الحبشة، فدخل عمرو بن العاص على
النجاشي، وقال له: ايها الملك، انه ضوى (جاء) الى بلدك منا سفهاء، فارقوا دين قومهم،
ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا انتم، وقد بعثنا الى
الملك فيهم اباؤهم واعمامهم وعشائرهم؛ لتردهم اليهم، فهم اعلى بهم عينا واعلم بما عابوا عليهم،
فرفض النجاشي ان يسلم المسلمين لهم، حتى يبعث اليهم ويتاكد من صحه كلام عمرو وصاحبه.
فارسل النجاشي في طلب المسلمين المهاجرين الى بلاده فجاءوا اليه، وانابوا جعفر بن ابي طالب
-رضي الله عنه- حتى يتحدث باسمهم، فساله النجاشي: ما هذا الدين الذي قد فارقتم به
قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين احد من هذه الملل؟ فرد عليه جعفر
قائلا: ايها الملك، كنا قوما اهل جاهلية، نعبد الاصنام، وناكل الميتة، وناتي الفواحش، ونقطع الارحام،
ونسيء الجوار، وياكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله الينا رسولا منا،
نعرف
نسبه، وصدقه، وامانته، وعفافه، فدعانا الى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن واباؤنا
من دونه من الحجاره والاوثان، وامرنا بصدق الحديث، واداء الامانة، وصله الرحم، وحسن الجوار، والكف
عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، واكل مال اليتيم، وقذف المحصنات.
وامرنا ان نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا، وامرنا بالصلاه والزكاه والصيام فصدقناه وامنا
به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا،
وحرمنا ما حرم علينا، واحللنا ما احل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا،
ليردونا الى عباده الاوثان عن عباده الله -تعالى- وان نستحل ما كنا نستحل من الخبائث،
فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا الى بلادك، واخترناك على من
سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ان لا نظلم عندك ايها الملك، فقال له النجاشي: هل
معك مما جاء به الله من شيء؟ قال جعفر: نعم. فقال النجاشي: اقراه علي.
فقرا عليه جعفر اول سوره مريم، فبكى النجاشي، ثم قال: ان هذا والذي جاء به
عيسى ليخرج من مشكاه واحدة، ثم قال لعمرو وصاحبه: انطلقا، فلا والله لا اسلمهم اليكما،
ورد النجاشي الهدايا الى عمرو ولم يسلم المسلمين اليه، وهكذا فشل المشركون في الايقاع بين
المسلمين وملك الحبشة.
الجزء (8) : المقاطعه ..
ازداد عدد المسلمين، وانضم اليهم عدد من اصحاب القوه والسيطرة، فاصبح من الصعب على المشركين
تعذيبهم، ففكروا في تعذيب من نوع اخر، يشمل كل المسلمين قويهم وضعيفهم، بل يشمل كل
من يحمي النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين حتى ولو لم يدخل في الاسلام، فقرر
المشركون ان يقاطعوا بني هاشم ومن معهم، فلا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم، ولا يبيعون لهم
ولا يشترون منهم، ولا يكلمونهم، ولا يدخلون بيوتهم، وان يستمروا هكذا حتى يسلموا اليهم محمدا
ليقتلوه او يتركوا دينهم، واقسم المشركون على هذا العهد، وكتبوه في صحيفه وعلقوها داخل الكعبة.
واحكم المشركون الحصار، فاضطر الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه الى الاحتباس في شعب
بني هاشم، وكان رجال قريش ينتظرون التجار القادمين الى مكه ليشتروا منهم الطعام ويمنعوا المسلمين
من شرائه، فيظلوا على جوعهم، فهذا ابو لهب يقول لتجار قريش عندما يرى مسلما يشترى
طعاما لاولاده: يا معشر التجار، غالوا على اصحاب محمد؛ حتى لا يدركوا معكم شيئا، فيزيدون
عليهم في السلعة، حتى يرجع المسلم الى اطفاله، وهم يتالمون من الجوع، وليس في يديه
شيء يطعمهم به.
ويذهب التجار الى ابي لهب فيربحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس، حتى تعب المؤمنون ومن
معهم من الجوع والعرى، واستمر هذا الحصار على بني هاشم والمسلمين مده ثلاث سنوات، ولكن
المسلمين اثبتوا انهم اقوى من كل حيل المشركين، فايمانهم راسخ في قلوبهم لا يزحزحه جوع
ولا عطش، حتى وان اضطروا الى اكل اوراق الشجر، فلم يياسوا، ولم ينفضوا من حول
نبيهم صلى الله عليه وسلم.
وشعر بعض المشركين بسوء ما يفعلونه، فقرروا انهاء هذه المقاطعه الظالمه وارسل الله تعالى الارضه
(دوده او حشره صغيره تشبه النملة) فاكلت صحيفتهم، ولم تبق الا اسم الله تعالى، واوحى
الله الى نبيه بذلك، فاخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمه ابا طالب بما حدث
للصحيفة، فذهب ابو طالب الى الكفار واخبرهم بما اخبره محمد صلى الله عليه وسلم به،
فاسرعوا الى الصحيفة، فوجدوا ما قاله ابو طالب صدقا، وتقدم من المشركين هشام بن عمرو،
وزهير بن ابي اميه والمطعم بن عدى، وابو البختري بن هشام، وزمعه بن الاسود، فتبرءوا
من هذه المعاهدة، وبذلك انتهت المقاطعه بعد ثلاث سنوات من الصبر، والثبات
والتحمل.
الجزء (9) : عام الحزن ~
في العام العاشر من البعثه كانت الاحزان على موعد مع الرسول صلى الله عليه وسلم،
فقد مات عمه ابو طالب الذي كان يحميه من اهل مكة، ثم ماتت زوجته الوفيه
الصادقه السيده خديجه -رضي الله عنها- التي كانت تخفف عنه، وتؤيده في دعوته الى الله
-عز وجل- وهي التي امنت به وساعدته بمالها، ورزقه الله منها الاولاد، فكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يحبها ويقدرها، وبشرها الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنه -قبل موتها-
فقد اتى جبريل -عليه السلام- النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله، هذه
خديجه قد اتت معها اناء فيه ادام، او طعام، او شراب، فاذا هي اتتك فاقرا
عليها السلام من ربها
ومني، وبشرها ببيت في الجنه من قصب (المراد به لؤلؤه مجوفه واسعه كالقصر الكبير) لا
صخب فيه ولا نصب) _[البخاري].
فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا على وفاه زوجته وعمه، وازداد قلقه على
الدعوة، فقد فقد نصيرين كبيرين، وصدق ما توقعه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد اشتد
تعذيب المشركين له ولاصحابه.
زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من السيده سودة:
كانت السيده سوده بنت زمعه -رضي الله عنها- قد اسلمت في بدايه الاسلام وهاجرت الى
الحبشه مع زوجها السكران بن عمرو، ثم عادت الى مكة، وقد مات زوجها، فتزوجها الرسول
صلى الله عليه وسلم اكراما لها، ورحمه بها.
رحله الرسول صلى الله عليه وسلم الى الطائف
لم يياس الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ان اعرض اهل مكه عن قبول الدعوه
ولكنه بحث عن مكان اخر لنشر الدين، فارض الله واسعة، وقد ارسله الله تعالى ليخرج
الناس جميعا من الظلمات الى النور.
فسافر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه خادمه زيد بن حارثه الى الطائف وكان
ذلك بعد مضي عشر سنوات من بعثته، وظل في الطائف عشره ايام يدعو كبار القوم
الى الاسلام، ولكن الطائف لم تكن احسن حالا من مكة، فقد رفض اهلها قبول دعوته،
ولم يكتفوا بذلك، بل انهم سلطوا عليه صبيانهم وسفهاءهم فوقفوا صفين على طول طريق الرسول
صلى الله عليه وسلم يسبونه، ويقذفونه بالحجاره هو وزيد بن حارثه الذي كان يدافع عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ويصد الحجارة، حتى جرح في راسه، وسال الدم
من قدم الرسول صلى الله عليه وسلم.
عندئذ توجه الرسول صلى الله عليه وسلم الى ربه، ولجا اليه، ورفع يديه قائلا: (اللهم
اليك اشكو ضعف قوتي وقله حيلتي وهواني على الناس، يا ارحم الراحمين، انت رب المستضعفين،
وانت ربي، الى من تكلني، الى بعيد
يتجهمني، ام الى عدو ملكته امري؟! ان لم يكن بك غضب علي فلا ابالي، غير
ان عافيتك هي اوسع لي، اعوذ بنور وجهك الذي اشرقت له الظلمات، وصلح عليه امر
الدنيا والاخره ان يحل علي غضبك، او ان ينزل بي سخطك، لك العتبى (التوبه والرجوع
والاستغفار) حتى ترضى، ولا حول ولا قوه الا بك)
[ابن اسحاق].
ووجد النبي صلى الله عليه وسلم بستانا لعتبه وشيبه ابني ربيعه فجلس فيه يريح جسده
المتعب لبعض الوقت، وراى عتبه وشيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الحال،
فرق قلبهما له مع انهما مشركان، فارسلا غلامهما عداسا بعنقود من عنب، ليقدمه الى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فتناوله قائلا: بسم الله، فتعجب عداس، وقال: ان هذا الكلام
لا يقوله اهل هذه البلاد -يعنى لا يقولون بسم الله- فساله الرسول صلى الله عليه
وسلم عن دينه وبلده، فقال عداس: انا نصراني من اهل نينوى، فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم:
(من قريه الرجل الصالح يونس بن متى؟) فقال عداس متعجبا: وما يدريك ما يونس بن
متى؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (ذلك اخي كان نبيا وانا نبي) فانكب عداس على
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل راسه ويديه وقدميه المجروحتين.
وفي طريق عوده رسول الله صلى الله عليه وسلم الى مكة، شاء الله ان يخفف
عنه ما عاناه في الطائف، فعندما وقف يصلي الفجر مر به نفر من الجن، فاستمعوا
له، فلما فرغ من صلاته رجعوا الى قومهم وقد امنوا بالله وبرسوله صلى الله عليه
وسلم ، قال تعالى مخبرا عن هذا: {قل اوحي الي انه استمع نفر من الجن
فقالوا انا سمعنا قرانا عجبا يهدي الى الرشد فامنا به ولن نشرك بربنا احدا} _[الجن:
1-2].
الجزء (10) : الاسراء والمعراج
وهكذا اعرض اهل مكه عن الاسلام، وخذل اهل الطائف النبي صلى الله عليه وسلم، وازداد
ايذاء الكافرين له ولصحابته، وخاصه بعد وفاه السيدة
خديجه -رضي الله عنها- وعمه ابي طالب، واراد الله -سبحانه- ان يخفف عن نبيه ،
فاكرمه برحله الاسراء والمعراج؛ فبينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم نائما بعد العشاء جاءه
جبريل، فايقظه وخرج به حتى انتهيا الى دابه اسمها (البراق) تشبه البغل، ولها جناحان، فركب
الرسول صلى الله عليه وسلم البراق حتى وصل بيت المقدس في فلسطين، وصلى بالانبياء ركعتين.
وهذه الرحله من مكه الى بيت المقدس تسمى (الاسراء) قال تعالى: {سبحان الذي اسرى بعبده
ليلا من المسجد الحرام الي المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه من اياتنا انه هو
السميع البصير} _[الاسراء: 1].
ثم بدات الرحله السماويه من المسجد الاقصى الى السماوات العلا وتسمى (المعراج) واذا بابواب السماء
تفتح للنبي صلى الله عليه وسلم، فسلم على الملائكة، وظل يصعد من سماء الى سماء
يرافقه جبريل؛ فراى الجنه والنار، وراى من مشاهد الاخره ما لم يره انسان حتى وصل
الى سدره المنتهى، وهو موضع لم يبلغه نبي او ملك قبله ولا بعده تكريما له،
قال تعالى: {فكان قاب قوسين او ادنى . فاوحى الى عبده ما اوحى} [النجم: 9-10]
وفي هذه الليلة، فرض الله الصلوات الخمس على المسلمين، ثم نزل رسول الله صلى الله
عليه وسلم الى بيت المقدس، وركب البراق عائدا الى مكة.
وفي الصباح، حكى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه ما حدث، فكذبوه وسخروا من
كلامه، واراد الكفار ان يختبروا صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فطلبوا منه ان يصف
بيت المقدس -ولم يكن راه من قبل- فاظهر الله له صوره بيت المقدس، فاخذ يصفه
وهو يراه، وهم لا يرونه، واخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم باشياء راها في الطريق،
وبقوم مر عليهم وهم في طريقهم الى مكة، فخرج الناس ينتظرونهم، فجاءوا في موعدهم الذي
حدده النبي صلى الله عليه وسلم فشهدوا بصدقه.
واسرع بعضهم الى ابي بكر يقول له في استنكار: اسمعت ما يقول محمد؟ وكان ابو
بكر مؤمنا صادق الايمان، فصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما قاله، فسماه
الرسول صلى الله عليه وسلم (الصديق) وهكذا كانت هذه الرحله تسريه عن النبي صلى الله
عليه وسلم، وتخفيفا للاحزان التي مر بها، وتاكيدا من الله له على انه قادر على
نصرته، وكانت ايضا ابتلاء للذين امنوا حتى يميز الله الطيب من الخبيث.