وعسي ان تكرهوا شيئا
حديثنا في هذه الحلقه مع قاعده عظيمه لها اثر بالغ في حياه الذين وعوها وعقلوها،
واهتدوا بهداها، قاعده لها صله باحد اصول الايمان العظيمة: الا وهو: الايمان بالقضاء والقدر، وتلكم
القاعده هي قوله سبحانه وتعالى في سوره البقره في سياق الكلام على فرض الجهاد في
سبيل الله : {وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى ان تحبوا شيئا وهو
شر لكم والله يعلم وانتم لا تعلمون} [البقرة: 216]}.
وهذا الخير المجمل، فسره قوله تعالى في سوره النساء في سياق الحديث عن مفارقه النساء
: {فان كرهتموهن فعسى ان تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا} [النساء: 19].
فقوله (خيرا كثيرا) مفسر وموضح للخير الذي ذكر في ايه البقرة، وهي الايه الاولى التي
استفتحنا بهذا هذا الحديث.
ومعنى القاعده بايجاز:
ان الانسان قد يقع له شيء من الاقدار المؤلمة، والمصائب الموجعة، التي تكرهها نفسه، فربما
جزع، او اصابه الحزن، وظن ان ذلك المقدور هو الضربه القاضية، والفاجعه المهلكة، لاماله وحياته،
فاذا بذلك المقدور منحه في ثوب محنة، وعطيه في رداء بلية، وفوائد لاقوام ظنوها مصائب،
وكم اتى نفع الانسان من حيث لا يحتسب!.
والعكس صحيح: فكم من انسان سعى في شيء ظاهره خير، واهطع اليه، واستمات في سبيل
الحصول عليه، وبذل الغالي والنفيس من اجل الوصول اليه، فاذا بالامر ياتي على خلاف ما
يريد،
و هذا هو معنى القاعده القرانيه التي تضمنتها هذه الايه باختصار.
ايها القارئ الموفق:
ما ان تمعن بناظريك، وترجع البصر كرتين، متاملا الايتين الكريمتين الاولى والثانية، الا وتجد الايه
الاولى التي تحدثت عن فرض الجهاد تتحدث عن الم بدني وجسمي قد يلحق المجاهدين في
سبيل الله، كما هو الغالب، واذا تاملت الايه الثانيه ايه مفارقه النساء الفيتها تتحدث عن
الم نفسي يلحق احد الزوجين بسب فراقه لزوجه!
واذا بصرت في ايه الجهاد وجدتها تتحدث عن عباده من العبادات، واذا تمعنت ايه النساء،
وجدتها تتحدث عن علاقات دنيوية.
اذن فنحن امام قاعده تناولت احوالا شتى: دينيه ودنيوية، بدنيه ونفسية، وهي احوال لا يكاد
ينفك عنها احد في هذه الحياه التي:
جبلت على كدر وانت تريدها *** صفوا من الاقذاء والاقذار
وقول الله ابلغ واوجز واعجز، وابهى مطلعا واحكم مقطعا: {لقد خلقنا الانسان في كبد}.
اذا تبين هذا ايها المؤمن بكتاب ربه فادرك ان اعمال هذه القاعده القرانية: {وعسى ان
تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى ان تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وانتم
لا تعلمون} من اعظم ما يملا القلب طمانينه وراحة، ومن اهم اسباب دفع القلق الذي
عصف بحياه كثير من الناس، بسبب موقف من المواقف، او بسبب قدر من الاقدار المؤلمه
في الظاهر جرى عليه في يوم من الايام!
ولو قلبنا قصص القران، وصفحات التاريخ، او نظرنا في الواقع لوجدنا من ذلك عبرا وشواهد
كثيرة، لعلنا نذكر ببعض منها، عسى ان يكون في ذلك سلوه لكل محزون، وعزاء لكل
مهموم:
1 قصه القاء ام موسى لولده في البحر!
فانت اذا تاملت وجدت انه لا اكره لام موسى من وقوع ابنها بيد ال فرعون،
ومع ذلك ظهرت عواقبه الحميدة، واثاره الطيبه في مستقبل الايام، وصدق ربنا: {والله يعلم وانتم
لا تعلمون}.
2 وتامل في قصه يوسف عليه الصلاه والسلام تجد ان هذه الايه منطبقه تمام الانطباق
على ما جرى ليوسف وابيه يعقوب عليهما الصلاه والسلام.
3 تامل في قصه الغلام الذي قتله الخضر بامر الله تعالى، فانه علل قتله بقوله:
{واما الغلام فكان ابواه مؤمنين فخشينا ان يرهقهما طغيانا وكفرا (80) فاردنا ان يبدلهما ربهما
خيرا منه زكاه واقرب رحما} [الكهف: 80، 81]!
توقف ايها المؤمن ويا ايتها المؤمنه عندها قليلا !
كم من انسان لم يقدر الله تعالى ان يرزقه بالولد، فضاق ذرعا بذلك، واهتم واغتم
وصار ضيقا صدره وهذه طبيعه البشر لكن الذي لا ينبغي ان يحدث هو الحزن الدائم،
والشعور بالحرمان الذي يقضي على بقيه مشاريعه في الحياة!
وليت من حرم نعمه الولد ان يتامل هذه الايه لا ليذهب حزنه فحسب، بل ليطمئن
قلبه، وينشرح صدره، ويرتاح خاطره، وليته ينظر الى هذا القدر بعين النعمة،وبصر الرحمة، وان الله
تعالى ربما صرف هذه النعمه رحمه به! وما يدريه؟ لعله اذا رزق بولد صار –
هذا الولد – سببا في شقاء والديه، وتعاستهما، وتنغيص عيشهما! او تشويه سمعته، حتى لو
نطق لكاد ان يقول:؟؟؟
4 وفي السنه النبويه نجد هذا لما ماتت زوج ام سلمة: ابو سلمه رضي الله
عنهم جميعا، تقول ام سلمه رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
عليه وسلم يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبه فيقول ما امره الله انا لله وانا
اليه راجعون اللهم اجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها. الا اخلف الله له خيرا
منها».
قالت: فلما مات ابو سلمة، قلت: اي المسلمين خير من ابى سلمة؟ اول بيت هاجر
الى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه؟ ثم اني قلتها، فاخلف الله لي رسول
الله صلى الله عليه وسلم عليه!
فتامل هذا الشعور الذي انتاب ام سلمه وهو بلا شك ينتاب بعض النساء اللاتي يبتلين
بفقد ازواجهن ويتعرض لهن الخطاب ولسان حالهن: ومن خير من ابي فلان؟! فلما فعلت ام
سلمه ما امرها الشرع به من الصبر والاسترجاع وقول الماثور، اعقبها الله خيرا لم تكن
تحلم به، ولا يجول في خلدها.
وهكذا المؤمنة.. يجب عليها ان لا تختصر سعادتها، او تحصرها في باب واحد من ابواب
الحياة، نعم.. الحزن العارض شيء لم يسلم منه ولا الانبياء والمرسلون! بل المراد ان لا
نحصر الحياه او السعاده في شيء واحد، او رجل، او امراة، او شيخ!
5 وفي الواقع قصص كثيره جدا، اذكر منها ما ذكره الطنطاوي رحمه الله عن صاحب
له: ان رجلا قدم الى المطار، وكان حريصا على رحلته، وهو مجهد بعض الشيء، فاخذته
نومه ترتب عليها ان اقلعت الطائرة، وفيها ركاب كثيرون يزيدون على ثلاث مئه راكب، فلما
افاق اذا بالطائره قد اقلعت قبل قليل، وفاتته الرحلة، فضاق صدره، وندم ندما شديدا، ولم
تمض دقائق على هذه الحال التي هو عليها حتى اعلن عن سقوط الطائرة، واحتراق من
فيها بالكامل!
والسؤال اخي: الم يكن فوات الرحله خيرا لهذاالرجل؟! ولكن اين المعتبرون والمتعظون؟
6- وهذا طالب ذهب للدراسه في بلد اخر، وفي ايام الاختبارات ذهب لجزيره مجاوره للمذاكره
والدراسة، وهو سائر في الجزيره قطف بعض الورود، فراه رجال الامن فحبسوه يوما وليله عقابا
لصنيعه مع النبات، وهو يطلب منهم بالحاح اخراجه ليختبر غدا، وهم يرفضون، ثم ماذا حصل!؟
لقد غرقت السفينه التي كانت تقل الركاب من الجزيره ذلك اليوم، غرقت بمن فيها، ونجا
هو باذن الواحد الاحد!
والخلاصه ايها المستمعون الكرام :
ان المؤمن عليه:
ان يسعى الى الخير جهده *** وليس عليه ان تتم المقاصد
وان يتوكل على الله، ويبذل ما يستطيع من الاسباب المشروعة، فاذا وقع شيء على خلاف
ما يحب،فليتذكر هذه القاعده القرانيه العظيمة: {وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى ان
تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وانتم لا تعلمون} [البقرة: 216]}.
وليتذكر ان (من لطف الله بعباده انه يقدر عليهم انواع المصائب، وضروب المحن، و الابتلاء
بالامر والنهي الشاق رحمه بهم، ولطفا، وسوقا الى كمالهم، وكمال نعيمهم)(1).
ومن الطاف الله العظيمه انه لم يجعل حياه الناس وسعادتهم مرتبطه ارتباطا تاما الا به
سبحانه وتعالى، وبقيه الاشياء يمكن تعويضها، او تعويض بعضها:
من كل شيء اذا ضيعته عوض *** وما من الله ان ضيعته عوض