قصه مريم ابنه عمران
قال تعالى
{وجعلناها وابنها ايه للعالمين}
كانت الحياه الدنيويه لروح الله وكلمته ورسوله الخاتم لرسل بني اسرائيل عيسى بن مريم، ولامه
مريم بنت عمران، – عليهما السلام -، سلسله متواصله من الابتلاءات والاختبارات، وكانت حياتهما الدنيويه
نموذجا للزهد والبعد عن الدنيا، والرغبه فيما عند الله – تعالى -.
فاما مريم – عليها السلام – فان الله – سبحانه وتعالى- اصطفاها واختارها على كل
نساء الارض.
قال – تعالى -: {واذ قالت الملائكه يا مريم ان الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على
نساء العالمين}.
وقال – صلى الله عليه وسلم -:
” كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء الا مريم ابنه عمران، وخديجه بنت
خويلد.. ”
الحديث.
جاءت انثى فيما ترجو امها ان يكون مولودها ذكرا:
واول امتحان لمريم – عليها السلام – ان امها التي كانت ترجو ان ترزق غلاما
لتهبه لخدمه بيت المقدس رزقت بنتا، والبنت لا تقوم بالخدمه في المسجد كما يقوم الرجل،
واسفت ام مريم امراه عمران واعتذرت للرب – جل وعلا –
فقالت:
{رب اني وضعتها انثى والله اعلم بما وضعت وليس الذكر كالانثى واني سميتها مريم
واني اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} واوفت بنذرها كما اشترطته على الله
: {رب اني نذرت لك ما في بطني محررا}! وكان لا بد من الوفاء بالنذر..
وقبل الله – سبحانه وتعالى- هذا النذر وجعله نذرا مباركا.. بل لا يعرف نذر اعظم
منه بركة، فقد اعقب خير نساء العالمين ورسولا من اولي العزم من الرسل يجعل الله
ولادته وحياته، ورفعه الى السماء، ونزوله اخر الدنيا،
وما اجرى على يديه من المعجزات، ايه كبرى من ايات الله – سبحانه وتعالى-… فاي
نذر اعظم من هذا؟!
مريم – عليها السلام – اليتيمه في بيت الله:
ولدت مريم – عليها السلام – يتيمه فاواها الله عند زوج خالتها – والخاله بمنزله
الام –
وزوج خالتها هو زكريا – عليه السلام -، وهو نبي قومه..
وكان هذا من رحمه الله بمريم، ورعايته لها،
قال – تعالى -: {فتقبلها ربها بقبول حسن وانبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا..}.
وشبت مريم – عليها السلام – وبيتها المسجد، وخلوتها فيه، ويلطف الله بها فياتيها الطعام
من الغيب
وكلما زارها زوج الخالة، وجد عندها رزقا، وهو الذي يقوم بكفالتها، فمن اين ياتيها شيء
لم يات هو به؟!
ويقول لها: {يا مريم انى لك هذا..} فتقول: {هو من عند الله ان الله يرزق
من يشاء بغير حساب..}،
ولم تكن في هذا في جنه قبل الجنة، وانما هو بلغه من الرزق يتحف الله
به اولياءه،
ويكرم به اهل طاعته اتحافا واكراما، اذا ضاق بهم الحال واشتد بهم الامر، وتذكيرا لهم
بان الله لا يضيع اهله،
كما صنع الرب الاله لهاجر – عليها السلام – وابنها اسماعيل؛ فقد فجر الله لهما
زمزم ماء معينا عندما
تركهما ابراهيم – عليه السلام – في هذا المكان القفر.
وكما فعل الرب – سبحانه – بخبيب بن عدي رضي الله عنه
صاحب رسول الله الذي حبسه اهل مكه ليقتلوه، فراوا في يده وهو في سجنهم قطفا
من عنب ياكل منه،
وليس بمكه كلها عنب، ولا هو باوان عنب، واطعام الله اهله واولياءه من الغيب، وفي
الدنيا هو من باب اللطف بهم، واظهاره معجزاته لهم، فكم نبع الماء من بين اصابع
النبي الخاتم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه!
وكم بارك النبي – صلى الله عليه وسلم –
في الطعام القليل الذي لا يكفي خمسه من الناس فياكل منه الجيش كله
وكانوا ثمانمئه رجل، اكلوا لحما وثريدا حتى شبعوا من عناق واحدة، وصاع من شعير لا
يكفي خمسة!
مالا تعرفه عن مريم ابنه عمران
مريم – عليها السلام – واحلام الانثى:
لم يكن لمريم – عليها السلام – التي سكنت في محراب المسجد
[المحراب غرفه في المسجد يعتزل فيه المقيم بها عن الناس]،
وكان بنو اسرائيل يتخذون المحاريب في المساجد للخلوه والعبادة،
[وسمي هذا المكان في المسجد بالمحراب؛ لان المقيم فيه كانه محارب للناس مبتعد عنهم،
او كانه بيت الاسد].
لم يكن لمريم المنذوره لبيت الله من احلام الانثى – في الزوج المنشود، والمراة، وصندوق
ادوات التجميل..
شيء! بل كان زادها وحلمها وامالها الطاعه والعبادة!
فقد جاءها امر الله: {يا مريم ان الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين
* يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين}.
وهكذا نشات مريم فتاه عابده في خلوه في المسجد تحيي ليلها
بالذكر والعباده والصلاه وتصوم نهارها، وتعيش لاخرتها.
المحنه الكبرى لمريم – عليها السلام -:
كانت المحنه الكبرى لمريم – عليها السلام – العابده الزاهده البتول ان يبشرها الله –
سبحانه وتعالى- بولد منها وهي غير ذات زوج،
فقالت: {انى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم اك بغيا}
وحاولت دفع هذا عن نفسها، ولكن جاءها الامر الالهي:
{كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله ايه للناس ورحمه منا وكان امرا مقضيا}،
فكذلك قال الله، فلا راد لكلمته، وكان امرا مقضيا فمن الذي يستطيع ان يمنع قضاء
الله؟!
ولله – سبحانه وتعالى- شان في اخراج هذه الايه للناس:
امراه عابده صالحه تبتلى بحمل من غير زوج يصدقها الصادقون المؤمنون،
ويكذبها الكافرون المجرمون، ويكون ابنها الذي قضاه الله وقدره على هذه الصوره المعجزه ايه في
خلقه،
ايه في خلقه، ايه في معجزاته، رحمه للناس في زمانه، وبعد زمانه، فتنه لعميان البصائر
الذين يغالون فيه فيعبدونه ويجعلونه خالقا رازقا مدبرا موجودا قبل الدهور، مولودا بطبيعه بشريه وهو
في ذاته اله من اله!!
– تعالى – الله عما يقولون علوا كبيرا.
وهكذا يهلك فيه من اعتقده ابنا من الزنا!! ومن اعتقده الاله الخالق.
وينجو به اهل الصدق والتصديق:
{قال اني عبد الله اتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا اين ما كنت واوصاني
بالصلاه والزكاه ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي
يوم ولدت ويوم اموت ويوم ابعث حيا}.
مريم – عليه السلام – تفر من المسجد خوفا من الفضيحه والعار:
وتخرج مريم – عليها السلام – من محرابها في بيت المقدس بعد ان رات حملها
في بطنها قد كبر،
وبعد ان خافت الفضيحة، تخرج الى مكان بعيد تتوارى فيه عن الانظار، وفي بيت لحم
يلجئها المخاض الى جذع نخله – وهي وحيده غريبه طريده – فتضع حملها ولا ام
هناك.. ولا خاله ولا قابلة! ولا بيت دافئا، ولا ستر تتوارى فيه عن اعين الناس..
الا هذه الاحراش! تضع حملها ودموعها تملا ماقيها، والهموم والالام تلفها من كل جانب:
هم الغربه والوحشة، وفقد الاهل والناصر والستر، وفقد الارفاق بالوالد، وكم تحتاج الوالد الى الارفاق،
تحتاج الى دفء، وحنان زوج، وشفقه اهل، وطعام مخصوص، وفراش، وتهنئه بالسلامه والعافيه بالمولود الجديد…
واما مريم – عليها السلام – فلا شيء من ذلك، وهي تنتظر الفضيحه بوليدها الجديد..
وعندما تجتمع كل هذه الهموم والمصاعب تتمنى ان تكون قد ماتت قبل هذا الامتحان!!
ولم تعش الى هذه المحنه الشديدة، قالت: {يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا}
[اي شيء متروكا محتقرا، والنسي في كلام العرب: الشيء الحقير الذي من شانه ان ينسى،
فلا يتالم لفقده].
وفي هذه اللحظه التي يبلغ بها الحزن والاسى مداه ياتيها الامن والامان والبشرى والارفاق..
فيناديها مولودها من تحتها:
{فناداها من تحتها الا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا} اي سيدا عظيما
{وهزي اليك بجذع النخله تساقط عليك رطبا جنيا * فكلي واشربي وقري عينا فاما ترين
من البشر احدا
فقولي اني نذرت للرحمن صوما فلن اكلم اليوم انسيا}.
ان مع العسر يسرا:
وهنا تاتيها المعجزات بالجملة؛ فهذا جدول ماء رقراق يفجره الله لها، وهاهي تستطيع
وهي والد ضعيفه ان تهز جذع النخله فيتساقط عليها الرطب رطبا جنيا، واما القوم وخوف
الفضيحه فدعي هذا لنا!! وعليك انت بالصوم عن الكلام، ودعي هذا السيد العظيم الذي تحملينه
يتولى الدفاع عنك،
وبيان المهمه التي ارسل بها.
قال – تعالى -:
{فاتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا *
يا اخت هارون ما كان ابوك امرا سوء وما كانت امك بغيا *
فاشارت اليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا}،
وهنا انطقه الله ليبين لهم الايه في خلقه على هذا النحو..