فضائل سوره الممتحنه واسباب نزولها
مقصودها براءه من اقر بالايمان ممن اتسم بالعدوان دلاله على صحه مدعاه كما ان الكفار
تبرءوا من المؤمنين وكذبوا بما جاءهم من الحق لئلا يكونوا على باطلهم احرص من المؤمنين
على حقهم، وتسميتها بالممتحنه اوضح شيء فيها وادله على ذلك لان الصهر اعظم الوصل واشرفها
بعد الدين، فاذا ن في ومنع دل على اعظم المقاطعه لدلالته على الامتهان بسبب الكفران
الذي هو اقبح العصيان هذه السوره حلقه في سلسله التربيه الايمانيه والتنظيم الاجتماعي والدوله في المجتمع
المدني. حلقه من تلك السلسله الطويلة، او من ذلك المنهج الالهي المختار للجماعه المسلمه المختارة،
التي ناط بها الله تحقيق منهجه الذي يريده للحياه الانسانية، في صوره واقعيه عملية، كيما
يستقر في الارض نظاما ذا معالم وحدود وشخصيه مميزة؛ تبلغ اليه البشريه احيانا، وتقصر عنه
احيانا، ولكنها تبقى معلقه دائما بمحاوله بلوغه؛ وتبقى امامها صوره واقعيه منه، تحققت يوما في
هذه الارض.
وقد اقتضى هذا- كما قلنا في اول هذا الجزء- اعدادا طويلا في خطوات ومراحل. وكانت
الاحداث التي تقع في محيط هذه الجماعة، او تتعلق بها، ماده من مواد هذا الاعداد.
ماده مقدره في علم الله، تقوم عليها ماده اخرى هي التفسير والتوضيح والتعقيب والتوجيه.
وفي مضطرب الاحداث، وفي تيار الحياه المتدفق، تمت عمليه بناء النفوس المختاره لتحقيق ذلك المنهج
الالهي في الارض. فلم تكن هناك عزله الا العزله بالتصور الايماني الجديد، وعدم خلطه بايه
رقع غريبه عنه في اثناء التكوين النفسي لهذه الجماعة. وكانت التربيه المستمره متجهه دائما الى
انشاء هذا التصور الايماني الخاص المميز، المنعزل بحقيقته وطبيعته عن التصورات السائده في العالم كله
يومذاك، وفي الجزيره العربيه بصفه خاصة. اما الناس الذين ينشا هذا التصور المتميز في نفوسهم
فلم يكونوا بمعزل عن واقع الحياه ومضطرب الاحداث، بل كانوا يصهرون في بوتقه الحوادث يوما
بعد يوم، ومره بعد مرة، ويعاد صهرهم في الامر الواحد والخلق الواحد مرات كثيرة، وتحت
مؤثرات متنوعة؛ لان الله الذي خلق هذه النفوس يعلم انها ليست كلها مما يتاثر ويستجيب
ويتكيف ويستقر على ما تكيف به منذ اللمسه الاولى. وكان يعلم ان رواسب الماضي، وجواذب
الميول الطبيعية، والضعف البشري، وملامسات الواقع، وتحكم الالف والعادة، كلها قد تكون معوقات قويه تغلب
عوامل التربيه والتوجيه مره بعد مرة. وتحتاج في مقاومتها الى التذكير المتكرر، والصهر المتوالي.. فكانت
الاحداث تتوالى كما هي منسوقه في قدر الله، وتتوالى الموعظه بها. والتحذير على ضوئها، والتوجيه
بهديها، مره بعد مرة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في يقظه دائمه والهام بصير، بالتقاط الاحداث
والوقائع والمناسبات في كل فرصة، واستخدامها بحكمه بالغه في بناء هذه النفوس. والوحي والالهام يؤيدانه
ويسددانه صلى الله عليه وسلم حتى تصنع تلك الجماعه المختاره على عين الله. بتوفيق الله.
على يدي رسول الله.
هذه السوره حلقه في سلسله ذلك الاعداد الطويل، تستهدف- مع غيرها مما جاء في مثل
موضوعها- اقامه عالم رباني خالص في ضمير المسلم. عالم محوره الايمان بالله وحده، يشد المسلمين
الى هذا المحور وحده، بعروه واحده لا انفصام لها؛ ويبرئ نفوسهم من كل عصبيه اخرى.
عصبيه للقوم او للجنس او للارض او للعشيره او للقرابة. ليجعل في مكانها جميعا عقده
واحدة. هي عقده الايمان بالله. والوقوف تحت رايه الله. في حزب الله.
ان العالم الذي يريده الاسلام عالم رباني انساني. رباني بمعنى انه يستمد كل مقوماته من
توجيه الله وحكمه، ويتجه الى الله بكل شعوره وعمله. وانساني بمعنى انه يشمل الجنس الانساني
كله- في رحاب العقيدة- وتذوب فيه فواصل الجنس والوطن واللغه والنسب. وسائر ما يميز انسانا
عن انسان، عدا عقيده الايمان. وهذا هو العالم الرفيع اللائق ان يعيش فيه الانسان الكريم
على الله، المتضمن كيانه نفحه من روح الله.
ودون اقامه هذا العالم تقف عقبات كثيرة- كانت في البيئه العربيه وما تزال في العالم
كله الى اليوم- عقبات من التعصب للبيت، والتعصب للعشيرة، والتعصب للقوم، والتعصب للجنس، والتعصب للارض.
كما تقف عقبات اخرى من رغائب النفوس واهواء القلوب، من الحرص والشح وحب الخير للذات،
ومن الكبرياء الذاتيه والالتواءات النفسية.. والوان غيرها كثير من ذوات الصدور!
وكان على الاسلام ان يعالج هذا كله في الجماعه التي يعدها لتحقيق منهج الله في
الارض في صوره عمليه واقعة. وكانت هذه الصوره حلقه في سلسله هذا العلاج الطويل.
وكان بعض المهاجرين الذين تركوا ديارهم واموالهم واهليهم في سبيل عقيدتهم، ما تزال نفوسهم مشدوده
الى بعض من خلفوا هنالك من ذريه وازواج وذوي قربى. وعلى الرغم من كل ما
ذاقوا من العنت والاذى في قريش فقد ظلت بعض النفوس تود لو وقعت بينهم وبين
اهل مكه المحاسنه والمودة؛ وان لو انتهت هذه الخصومه القاسيه التي تكلفهم قتال اهليهم وذوي
قرابتهم، وتقطع ما بينهم وبينهم من صلات!
وكان الله يريد استصفاء هذه النفوس واستخلاصها من كل هذه الوشائج، وتجريدها لدينه وعقيدته ومنهجه.
وهو-سبحانه- يعلم ثقل الضغط الواقع عليها من الميول الطبيعيه ورواسب الجاهليه جميعا- وكان العرب بطبيعتهم
اشد الناس احتفالا بعصبيه القبيله والعشيره والبيت- فكان ياخذهم يوما بعد يوم بعلاجه الناجع البالغ،
بالاحداث وبالتعقيب على الاحداث، ليكون العلاج على مسرح الحوادث وليكون الطرق والحديد ساخن!
وتذكر الروايات حادثا معينا نزل فيه صدر هذه السورة. وقد تكون هذه الروايات صحيحه في
سبب النزول المباشر. ولكن مدى النصوص القرانيه دائما ابعد من الحوادث المباشرة.
وقد قيل في هذا الحادث: ان حاطب بن ابي بلتعه كان رجلا من المهاجرين. وكان
من اهل بدر ايضا. وكان له بمكه اولاد ومال، ولم يكن من قريش انفسهم بل
كان حليفا لعثمان. فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكه لما
نقض اهلها عهد الحديبيه امر المسلمين بالتجهيز لغزوهم، وقال: «اللهم عم عليهم خبرنا».. واخبر رسول
الله صلى الله عليه وسلم جماعه من اصحابه بوجهته، كان منهم حاطب. فعمد حاطب فكتب
كتابا وبعثه مع امراه مشركة- قيل من مزينة- جاءت المدينه تسترفد- الى اهل مكه يعلمهم
بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزوهم، ليتخذ بذلك عندهم يدا. فاطلع الله-
تعالى- رسوله على ذلك استجابه لدعائه. وامضاء لقدره في فتح مكة. فبعث في اثر المراة،
فاخذ الكتاب منها.
وقد روى البخاري في المغازي، ورواه مسلم في صحيحه من حديث حصين بن عبدالرحمن، عن
سعد ابن عبيده عن ابي عبدالرحمن السلمي، عن علي- رضي الله عنه- قال: «بعثني رسول
الله صلى الله عليه وسلم وابا مرثد والزبير بن العوام- وكلنا فارس- وقال: انطلقوا حتى
تاتوا روضه خاخ، فان بها امراه من المشركين معها كتاب من حاطب بن ابي بلتعه
الى المشركين. فادركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقلنا: الكتاب؟ فقالت ما معي كتاب. فانخناها فالتمسنا فلم نر كتابا. فقلنا: ما كذب رسول
الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب او لنجردنك. فلما رات الجد اهوت الى حجزتها،
وهي محتجزه بكساء، فاخرجته. فانطلقنا به الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر:
يا رسول الله. قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلاضربن عنقه. فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب: والله ما بي الا ان اكون
مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم اردت ان تكون لي عند القوم يد. يدفع
الله بها عن اهلي ومالي، وليس احد من اصحابك الا له هناك من عشيرته من
يدفع الله به عن اهله وماله. فقال: صدق لا تقولوا الا خيرا. فقال عمر: انه
قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلاضرب عنقه. فقال: اليس من اهل بدر؟- فقال-: لعل
الله اطلع الى اهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة- او- قد
غفرت لكم. فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله اعلم».. وزاد البخاري في كتاب المغازي: فانزل
الله السورة: {يا ايها الذين امنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم اولياء تلقون اليهم بالمودة}.. وفي
روايه اخرى ان الذين ارسلوا كانوا هم علي والزبير والمقداد.
ولوقوف قليلا امام هذا الحادث وما دار بشانه لا يخرج بنا عن (ظلال القران) والتربيه
به وبالاحداث والتوجيهات والتعقيبات عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائد المربي العظيم..
واول ما يقف الانسان امامه هو فعله حاطب، وهو المسلم المهاجر، وهو احد الذين اطلعهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم على سر الحملة.. وفيها ما يكشف عن منحنيات النفس
البشريه العجيبة، وتعرض هذه النفس للحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها وقوتها؛ وان لا
عاصم الا الله من هذه اللحظات فهو الذي يعين عليها.
ثم يقف الانسان مره اخرى امام عظمه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لا يعجل
حتى يسال: «ما حملك على ما صنعت» في سعه صدر وعطف على لحظه الضعف الطارئه
في نفس صاحبه، وادراك ملهم بان الرجل قد صدق، ومن ثم يكف الصحابه عنه: «صدق
لا تقولوا الا خيرا».. ليعينه وينهضه من عثرته، فلا يطارده بها ولا يدع احدا يطارده.
بينما نجد الايمان الجاد الحاسم الجازم في شده عمر: «انه قد خان الله ورسوله والمؤمنين.
فدعني فلاضرب عنقه».. فعمر- رضي الله عنه- انما ينظر الى العثره ذاتها فيثور لها حسه
الحاسم وايمانه الجازم. اما رسول الله صلى الله عليه وسلم فينظر اليها من خلال ادراكه
الواسع الشامل للنفس البشريه على حقيقتها، ومن كل جوانبها، مع العطف الكريم الملهم الذي تنشئه
المعرفه الكلية. في موقف المربي الكريم العطوف المتاني الناظر الى جميع الملابسات والظروف..
ثم يقف الانسان امام كلمات حاطب، وهو في لحظه ضعفه، ولكن تصوره لقدر الله وللاسباب
الارضيه هو التصور الايماني الصحيح.. ذلك حين يقول: «اردت ان تكون لي عند القوم يد..
يدفع الله بها عن اهلي ومالي».. فالله هو الذي يدفع، وهذه اليد لا تدفع بنفسها،
انما يدفع الله بها. ويؤكد هذا التصور في بقيه حديثه وهو يقول: «وليس احد من
اصحابك الا له هناك من عشيرته من يدفع.. الله.. به عن اهله وماله» فهو الله
حاضر في تصوره، وهو الذي يدفع لا العشيرة. انما العشيره اداه يدفع الله بها..
ولعل حس رسول الله الملهم قد راعى هذا التصور الصحيح الحي في قول الرجل، فكان
هذا من اسباب قوله صلى الله عليه وسلم: «صدق. لا تقولوا الا خيرا»..
واخيرا يقف الانسان امام تقدير الله في الحادث؛ وهو ان يكون حاطب من القله التي
يعهد اليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسر الحملة. وان تدركه لحظه الضعف البشري
وهو من القله المختارة. ثم يجري قدر الله بكف ضرر هذه اللحظه عن المسلمين. كانما
القصد هو كشفها فقط وعلاجها! ثم لا يكون من الاخرين الذين لم يعهد اليهم بالسر
اعتراض على ما وقع، ولا تنفج بالقول: ها هو ذا احد من استودعوا السر خانوه،
ولو اودعناه نحن ما بحنا به! فلم يرد من هذا شيء. مما يدل على ادب
المسلمين مع قيادتهم، وتواضعهم في الظن بانفسهم، واعتبارهم بما حدث لاخيهم…
والحادث متواتر الرواية. اما نزول هذه الايات فيه فهو احد روايات البخاري. ولا نستبعد صحه
هذه الرواية؛ ولكن مضمون النص القراني- كما قلنا- ابعد مدى، وادل على انه كان يعالج
حاله نفسيه اوسع من حادث حاطب الذي تواترت به الروايات، بمناسبه وقوع هذا الحادث، على
طريقه القران.
كان يعالج مشكله الاواصر القريبة، والعصبيات الصغيرة، وحرص النفوس على مالوفاتها الموروثه ليخرج بها من
هذا الضيق المحلي الى الافق العالمي الانساني.
وكان ينشئ في هذه النفوس صوره جديدة، وقيما جديدة، وموازين جديدة، وفكره جديده عن الكون
والحياه والانسان، ووظيفه المؤمنين في الارض، وغايه الوجود الانساني.
وكان كانما يجمع هذه النبتات الصغيره الجديده في كنف الله؛ ليعلمهم الله ويبصرهم بحقيقه وجودهم
وغايته، وليفتح اعينهم على ما يحيط بهم من عداوات ومكر وكيد، وليشعرهم انهم رجاله وحزبه،
وانه يريد بهم امرا، ويحقق بهم قدرا. ومن ثم فهم يوسمون بسمته ويحملون شارته، ويعرفون
بهذه الشاره وتلك السمه بين الاقوام جميعا. في الدنيا والاخرة. واذن فليكونوا خالصين له، منقطعين
لولايته، متجردين من كل وشيجه غير وشيجته. في عالم الشعور وعالم السلوك.
والسوره كلها في هذا الاتجاه. حتى الايات التشريعيه التنظيميه الوارده في اخرها عن معامله المهاجرات
المؤمنات، ومبايعه من يدخلن في الاسلام، والفصل بين المؤمنات وازواجهن من الكفار. وبين المؤمنين وزوجاتهم
من الكوافر.. فكلها تنظيمات منبثقه من ذلك التوجيه العام.
ثم ختام السوره كما بدات بالنهي عن موالاه اعداء الله، ممن غضب عليهم الله، سواء
من المشركين او من اليهود. ليتم التمييز والانفراد والمفاصله من جميع الوشائج والروابط غير رابطه
العقيده وغير وشيجه الايمان