حكمه تشريع الصيام في الاسلام
﴿ يا ايها الذين امنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم
تتقون ﴾ [البقرة: 183].
يقول العلامه رشيد رضا في تفسيره الشهير -تفسير المنار-وهو يفسر ايه الصوم:﴿ لعلكم تتقون ﴾:
“هذا تعليل لكتابه الصيام، ببيان فائدته الكبرى، وحكمته العليا، وهو انه يعد نفس الصائم لتقوى
الله – تعالى – بترك شهواته الطبيعيه المباحه الميسورة؛ امتثالا لامره، واحتسابا للاجر عنده، فتربى
بذلك ارادته على ملكه ترك الشهوات المحرمة، والصبر عنها، فيكون اجتنابها ايسر عليه، وتقوى على
النهوض بالطاعات والمصالح، والاصطبار عليها، فيكون الثبات اهون عليه؛ولذلك قال – صلى الله عليه وسلم
-: ((الصيام نصف الصبر))؛رواه ابن ماجه؛ تفسير المنار (2/145).
فالمتامل في كلمه الصوم يدرك انها تتضمن معنى الانتهاء والامساك، فالصوم امساك عن الطعام، والشراب،
والجماع، والشهوات التي تنازع اليها النفس، وانتهاء عن معاصي البصر، والسمع، واللسان، والفؤاد.
والصوم اذا رياضة، وتربية، واصلاح، وتزكية، ومدرسه خلقية، يتخرج فيها الانسان، وهو يمسك بزمام نفسه،
يملكها ويتغلب على شهواتها، والذي استطاع ترك المباحات والطيبات، فهو اقوى على ترك الممنوعات والمحرمات.
الصوم مشروع لعباد الله المؤمنين، الذين يرجون ثواب الله، ويخافون عذابه، وهم المقربون عنده، والمحببون
اليه، فاراد الله ان يخصهم بشيء يشبههم بالاقربين عنده، وهم الملائكه الذين لا ياكلون، ولا
يشربون، ولا يرغبون في غير طاعه الله وعبادته، وان يميزهم عن الذين لا يؤمنون بالاخرة،
ولا يرجون لقاءه، ولا يخافون عقابه، وشبه حالهم بحال الانعام: ﴿ والذين كفروا يتمتعون وياكلون
كما تاكل الانعام والنار مثوى لهم ﴾ [محمد: 12].
﴿ يا ايها الذين امنوا ان تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر
لكم والله ذو الفضل العظيم ﴾ [الانفال: 29].
ويقول الاستاذ الاريب الاديب سيد قطب الشهيد – عند تفسيره هذه الايه الكريمه -: ﴿
يا ايها الذين امنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون
﴾ [البقرة: 183].
“هكذا تبرز الغايه الكبيره من الصوم، انها التقوى، فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب، وهي
تؤدي هذه الفريضة؛ طاعه لله، وايثارا لرضاه، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من افساد
الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمخاطبون بهذا القران يعلمون مقام التقوى عند
الله ووزنها في ميزانه، فهي غايه تتطلع اليها ارواحهم، وهذا الصوم اداه من ادواتها، وطريق
موصل اليها، ومن ثم يرفعها السياق امام عيونهم هدفا يتجهون اليه عن طريق الصيام، ﴿
لعلكم تتقون ﴾”؛ في ظلال القران (1/168).
ولقد سمى النبي – صلى الله عليه وسلم – شهر رمضان شهر الصبر؛ لكون المسلم
يتدرب ويتعود بالصوم على الصبر، والصبر يورث صاحبه درجه الامامة.
يقول شيخ الاسلام ابن تيميه – رحمه الله -:
“بالصبر واليقين تنال الامامه في الدين”، ثم تلا قوله – تعالى -: ﴿ وجعلنا منهم
ائمه يهدون بامرنا لما صبروا وكانوا باياتنا يوقنون ﴾ [السجدة: 24].
وهو يقول – رحمه الله -:
“فمن اعطي الصبر واليقين، جعله الله اماما في الدين، والصبر ثلاثه انواع: صبر على طاعه
الله، وصبر على محارم الله، وصبر على اقدار الله المؤلمة، وتجتمع الثلاثه في الصوم؛ لذا
يقال: شهر رمضان شهر الصبر.
يقول – صلى الله عليه وسلم -: ((صوم شهر الصبر، وثلاثه ايام من كل شهر،
يذهبن وحر الصدر))؛ رواه البزار عن علي وابن عباس؛ صحيح الجامع الصغير (3804).
يقول حجه الاسلام الغزالي في كتابه الشهير “احياء علوم الدين”:
“المقصود من الصوم: التخلق بخلق من اخلاق الله – عز وجل – وهو الصمدية، والاقتداء
بالملائكه في الكف عن الشهوات بحسب الامكان، فانهم منزهون عن الشهوات، والانسان رتبته فوق رتبه
البهائم؛ لقدرته بنور العقل على كسر شهواته، ودون رتبه الملائكة؛ لاستيلاء الشهوات عليه، وكونه مبتلى
بمجاهدتها، فكلما انهمك في الشهوات، انحط الى اسفل السافلين، والتحق بغمار البهائم، وكلما قمع الشهوات،
ارتفع الى اعلى عليين، والتحق بافق الملائكة”؛ احياء علوم الدين (1/236).
والصوم يعرف به المرء ما يصيب الفقير من الجوع والاذى، فيحمله هذا الشعور على الرافه
والرحمه على الفقراء والمساكين، وبه يدرك المساواه الاسلامية، وانه لا فضل للاغنياء على الفقراء والملوك
على السوقة، كلهم يصومون في شهر واحد – شهر رمضان – ويفطرون في وقت واحد،
لا يتقدم واحد على الاخر.
والصوم يحفظ على المرء صحته وقوته؛ كما ورد في الاوسط؛ للطبراني عن ابي هريره عن
النبي – صلى الله عليه وسلم – انه قال: ((اغزوا تغتنموا، وصوموا تصحوا، وسافروا تستغنوا))؛
المعجم الاوسط: (174/8).
يقول الامام ابن القيم – وهو يبين اسرار الصوم وحكمه- :
“للصوم تاثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهره والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد
الفاسده التي اذا استولت عليها افسدتها، واستفراغ المواد الرديئه المانعه لها من صحتها، فالصوم يحفظ
على القلب والجوارح صحتها، ويعيد اليها ما استلبته منها ايدى الشهوات، فهو من اكبر العون
على التقوى؛ كما قال – تعالى -: ﴿ يا ايها الذين امنوا كتب عليكم الصيام
كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ﴾ [البقرة: 183]؛ زاد المعاد (2/29).
وصلى الله – تعالى – على خير خلقه وعلى اله وصحبه، وبارك وسلم.