ايات سوره الفجر كتابه
? ?
? والفجر . وليال عشر . والشفع والوتر . والليل اذا يسر . هل في
ذلك قسم لذي حجر . الم تر كيف فعل ربك بعاد . ارم ذات العماد
. التي لم يخلق مثلها في البلاد . وثمود الذين جابوا الصخر بالواد . وفرعون
ذي الاوتاد . الذين طغوا في البلاد . فاكثروا فيها الفساد. فصب عليهم ربك سوط
عذاب . ان ربك لبالمرصاد ?.
البسملة: تقدم الكلام عليها.
“والفجر.وليال عشر.والشفع والوتر.والليل اذا يسر” كل هذه اقسامات بالفجر، وليال عشر، والشفع والوتر، والليل اذا
يسر، خمسه اشياء اقسم الله تعالى بها، الاول: الفجر “والفجر” هو النور الساطع الذي يكون
في الافق الشرقي قرب طلوع الشمس، وبينه وبين طلوع الشمس ما بين ساعه واثنتين وثلاثين
دقيقة، الى ساعه وسبع عشره دقيقة، ويختلف باختلاف الفصول، فاحيانا تطول الحصه ما بين الفجر
وطلوع الشمس، واحيانا تقصر حسب الفصول، والفجر فجران: فجر صادق، وفجر كاذب، والمقصود بالفجر هنا
الفجر الصادق، والفرق بين الفجر الصادق والكاذب من ثلاثه وجوه:
الفرق الاول: الفجر الكاذب يكون مستطيلا في السماء ليس عرضا ولكنه طولا، واما الفجر الصادق
يكون عرضا يمتد من الشمال الى الجنوب.
الفرق الثاني: ان الفجر الصادق لا ظلمه بعده، بل يزداد الضياء حتى تطلع الشمس، واما
الفجر الكاذب فانه يحدث بعده ظلمه بعد ان يكون هذا الضياء، ولهذا سمي كاذبا؛ لانه
يضمحل ويزول.
الفرق الثالث: ان الفجر الصادق متصل بالافق، اما الفجر الكاذب فبينه وبين الافق ظلمة، هذه
ثلاثه فروق افاقيه حسيه يعرفها الناس اذا كانوا في البر، اما في المدن فلا يعرفون
ذلك، لان الانوار تحجب هذه العلامات.
واقسم الله بالفجر لانه ابتداء النهار، وهو انتقال من ظلمه دامسه الى فجر ساطع، واقسم
الله به لانه لا يقدر على الاتيان بهذا الفجر الا الله عز وجل كما قال
الله تبارك وتعالى: “قل ارايتم ان جعل الله عليكم الليل سرمدا الى يوم القيامه من
اله غير الله ياتيكم بضياء افلا تسمعون” [القصص: 71] واقسم الله بالفجر لانه يترتب عليه
احكام شرعية، مثل: امساك الصائم، فانه اذا طلع الفجر وجب على الصائم ان يمسك اذا
كان صومه فرضا او نفلا اذا اراد ان يتم صومه، ويترتب عليه ايضا: دخول وقت
صلاه الفجر، وهما حكمان شرعيان عظيمان، اهمهما دخول وقت الصلاة، اي انه يجب ان نراعي
الفجر من اجل دخول وقت الصلاه اكثر مما نراعيه من اجل الامساك في حاله الصوم،
لاننا في الامساك عن المفطرات في الصيام لو فرضنا اننا اخطانا فاننا بنينا على اصل
وهو بقاء الليل، لكن في الصلاه لو اخطانا وصلينا قبل الفجر لم نكن بنينا على
اصل، لان الاصل بقاء الليل وعدم دخول وقت الصلاة، ولهذا لو ان الانسان صلى الفجر
قبل دخول وقت الصلاه بدقيقه واحده فصلاته نفل ولا تبرا بها ذمته، ومن ثم ندعوكم
الى ملاحظه هذه المسالة، اعني العنايه بدخول وقت صلاه الفجر، لان كثيرا من المؤذنين يؤذنون
قبل الفجر وهذا غلط، لان الاذان قبل الوقت ليس بمشروع لقول النبي صلى الله عليه
وعلى اله وسلم: «اذا حضرت الصلاه فليؤذن لكم احدكم»(127)، ويكون حضور الصلاه اذا دخل وقتها،
فلو اذن الانسان قبل دخول وقت الصلاه فاذانه غير صحيح يجب عليه الاعادة، والعنايه بدخول
الفجر مهمه جدا من اجل مراعاه وقت الصلاة.
وقوله تعالى: “وليال عشر” قيل المراد ب”ليال عشر” عشر ذي الحجة، واطلق على الايام ليالي،
لان اللغه العربيه واسعة، قد تطلق الليالي ويراد بها الايام، والايام يراد بها الليالي، وقيل
المراد ب”ليال عشر” ليال العشر الاخيره من رمضان، اما على الاول الذين يقولون المراد بالليال
العشر عشر ذي الحجة، فلان عشر ذي الحجه ايام فاضله قال فيها النبي صلى الله
عليه وعلى اله وسلم: «ما من ايام العمل الصالح فيهن احب الى الله من هذه
الايام العشر» قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله الا
رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء»(128).
واما الذين قالوا: ان المراد بالليال العشر هي ليال عشر رمضان الاخيرة، فقالوا: ان الاصل
في الليالي انها الليالي وليست الايام، وقالوا: ان ليال العشر الاخيره من رمضان فيها ليله
القدر التي قال الله عنها “خير من الف شهر”، وقال: “انا انزلناه في ليله مباركه
انا كنا منذرين. فيها يفرق كل امر حكيم” [الدخان: 3 ، 4]، وهذا القول ارجح
من القول الاول، وان كان القول الاول هو قول الجمهور، لكن اللفظ لا يسعف قول
الجمهور، وانما يرجح القول الثاني انها الليالي العشر الاواخر من رمضان، واقسم الله بها لشرفها،
ولان فيها ليله القدر، ولان المسلمين يختمون بها شهر رمضان الذي هو وقت فريضه من
فرائض الاسلام واركان الاسلام، فلذلك اقسم الله بهذه الليالي. وقوله: “والشفع والوتر” قيل: ان المراد
به كل الخلق، فالخلق اما شفع واما وتر، والله عز وجل يقول: “ومن كل شيء
خلقنا زوجين”. [الذاريات: 49] والعبادات اما شفع واما وتر، فيكون المراد بالشفع والوتر كل ما
كان مخلوقا من شفع ووتر، وكل ما كان مشروعا من شفع ووتر، وقيل: المراد بالشفع
الخلق كلهم، والمراد بالوتر الله عز وجل.
واعلم ان قوله والوتر فيها قراءتان صحيحتان (والوتر) و(الوتر) يعني لو قلت (والشفع والوتر) صح
ولو قلت (والشفع والوتر) صح ايضا، فقالوا ان الشفع هو الخلق؛ لان المخلوقات كلها مكونه
من شيئين “ومن كل شيء خلقنا زوجين” والوتر او الوتر هو الله لقول النبي صلى
الله عليه وسلم: «ان الله وتر يحب الوتر»(129)، واذا كانت الايه تحتمل معنيين ولا منافاه
بينهما فلتكن لكل المعاني التي تحتملها الاية، وهذه القاعده في علم التفسير ان الايه اذا
كانت تحتمل معنيين واحدهما لا ينافي الاخر فهي محموله على المعنيين جميعا. قال تعالى: “والليل
اذا يسر” اقسم الله ايضا بالليل اذا يسري، والسري هو السير في الليل، والليل يسير
يبدا بالمغرب وينتهي بطلوع الفجر فهو يمشي زمنا لا يتوقف، فهو دائما في سريان، فاقسم
الله به لما في ساعاته من العبادات كصلاه المغرب، والعشاء، وقيام الليل، والوتر وغير ذلك،
ولان في الليل مناسبه عظيمه وهي ان الله عز وجل ينزل كل ليله الى السماء
الدنيا حين يبقى ثلث الليل الاخر فيقول: «من يسالني فاعطيه، من يدعوني فاستجيب له، من
يستغفرني فاغفر له»(130) ولهذا نقول: ان الثلث الاخر من الليل وقت اجابة، فينبغي ان ينتهز
الانسان هذه الفرصه فيقوم لله عز وجل يتهجد ويدعو الله سبحانه بما شاء من خير
الدنيا والاخره لعله يصادف ساعه اجابه ينتفع بها في دنياه واخراه. “هل في ذلك قسم
لذي حجر” لذي عقل، “الم تر كيف فعل ربك بعاد. ارم ذات العماد” الخطاب هنا
لكل من يوجه اليه هذا الكتاب العزيز وهم البشر كلهم بل والجن ايضا الم تر
ايها المخاطب “كيف فعل ربك بعاد. ارم ذات العماد” يعني ما الذي فعل بهم؟ وعاد
قبيله معروفه في جنوب الجزيره العربية، ارسل الله تعالى اليهم هودا عليه الصلاه والسلام فبلغهم
الرساله ولكنهم عتوا وبغوا وقالوا من اشد منا قوه قال الله تعالى: “اولم يروا ان
الله الذي خلقهم هو اشد منهم قوه وكانوا باياتنا يجحدون” [فصلت: 15]. فهم افتخروا في
قوتهم ولكن الله بين انهم ضعفاء امام قوه الله ولهذا قال: “اولم يروا ان الله
الذي خلقهم” وعبر والله اعلم بقوله “الذي خلقهم” ليبين ضعفهم وانه جل وعلا اقوى منهم،
لان الخالق اقوى من المخلوق “ان الله الذي خلقهم هو اشد منهم قوه وكانوا باياتنا
يجحدون. فارسلنا عليهم ريحا صرصرا في ايام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياه الدنيا ولعذاب
الاخره اخزى وهم لا ينصرون”. [فصلت: 15، 16]. والذي فعل الله بعاد انه ارسل عليهم
الريح العقيم سخرها عليهم سبع ليال وثمانيه ايام حسوما، فترى القوى فيها صرعى كانهم اعجاز
نخل خاوية، فاصبحوا لا يرى الا مساكنهم، وهذا الاستفهام الذي لفت الله فيه النظر الى
ما فعل بهؤلاء يراد به الاعتبار يعني اعتبر ايها المكذب للرسول محمد صلى الله عليه
وسلم بهؤلاء كيف اذيقوا هذا العذاب، وقد قال الله تعالى: “وما هي من الظالمين ببعيد”
[هود: 83]. وقوله: “ارم” هذه اسم للقبيلة، وقيل اسم للقرية، وقيل غير ذلك، فسواء كانت
اسما للقبيله او اسما للقريه فان الله تعالى نكل بهم نكالا عظيما مع انهم اقوياء.
وقوله: “ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد” يعني اصحاب “العماد” الابنيه القويه “التي
لم يخلق مثلها في البلاد” اي لم يصنع مثلها في البلاد؛ لانها قويه ومحكمة، وهذا
هو الذي غرهم وقالوا: من اشد منا قوة؟ وفي قوله: “التي لم يخلق مثلها في
البلاد” مع ان الذي صنعها الادمي دليل على ان الادمي قد يوصف بالخلق فيقال خلق
كذا، ومنه قول النبي عليه الصلاه والسلام في المصورين «يقال لهم احيوا ما خلقتم»(131)، لكن
الخلق الذي ينسب للمخلوق ليس هو الخلق المنسوب الى الله. الخلق المنسوب الى الله ايجاد
بعد عدم وتحويل وتغيير، اما الخلق المنسوب لغير الله فهو مجرد تحويل وتغيير، واضرب لكم
مثلا: هذا الباب من خشب، الذي خلق الخشب الله، ولا يمكن للبشر ان يخلقوه، لكن
البشر يستطيع ان يحول جذوع الخشب واغصان الخشب الى ابواب والى كراسي وما اشبه ذلك،
فالخلق المنسوب للمخلوق ليس هو الخلق المنسوب للخالق؛ لان الخلق المنسوب للخالق ايجاد من عدم
وهذا لا يستطيعه احد، والمنسوب للمخلوق تغير وتحويل يحول الشيء من صفه الى صفة، اما
ان يغير الذوات بمعنى يجعل الذهب فضة، او يجعل الفضه حديدا، او ما اشبه ذلك
فهذا مستحيل لا يمكن الا لله وحده لا شريك له. ثم قال: “وثمود الذين جابوا
الصخر بالواد” ثمود هم قوم صالح ومساكنهم معروفه الان كما قال تعالى: “ولقد كذب اصحاب
الحجر المرسلين” [الحجر: 80]. في سوره (الحجر) ذكر الله ان ثمود كانوا في بلاد الحجر
وهي معروفه مر عليها النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم في طريقه الى تبوك
واسرع وقنع راسه صلى الله عليه وسلم وقال: «لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين الا
ان تكونوا باكين، فان لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم ان يصيبكم مثل ما اصابهم»(132)،
هؤلاء القوم اعطاهم الله قوه حتى صاروا يخرقون الجبال والصخور العظيمه ويصنعون منها بيوتا ولهذا
قال: “جابوا الصخر بالواد” اي: وادي ثمود، وهو معروف، هؤلاء ايضا فعل الله بهم ما
فعل من العذاب والنكال حيث قيل لهم تمتعوا في داركم ثلاثه ايام، ثم بعد الثلاثه
الايام اخذتهم الصيحه والرجفه فاصبحوا في ديارهم جاثمين، فعلينا ان نعتبر بحال هؤلاء المكذبين الذين
صار مالهم الى الهلاك والدمار، وليعلم ان هذه الامه لن تهلك بما اهلكت به الامم
السابقه بهذا العذاب العام، فان النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم سال الله تعالى
ان لا يهلكهم بسنه بعامة(133) ولكن قد تهلك هذه الامه بان يجعل الله باسهم بينهم،
فتجري بينهم الحروب والمقاتلة، ويكون هلاك بعضهم على يد بعض، لا بشيء ينزل من السماء
كما صنع الله تعالى بالامم السابقة، ولهذا يجب علينا ان نحذر الفتن ما ظهر منها
وما بطن، وان نبتعد عن كل ما يثير الناس بعضهم على بعض، وان نلزم دائما
الهدوء، وان نبتعد عن القيل والقال وكثره السؤال، فا ذلك مما نهى عنه النبي صلى
الله عليه وعلى اله وسلم(134)، وكم من كلمه واحده صنعت ما تصنعه السيوف الباترة، فالواجب
الحذر من الفتن، وان نكون امه متالفه متحابة، يتطلب كل واحد منا العذر لاخيه اذا
راى منه ما يكره. “وفرعون” فرعون هو الذي ارسل الله اليه موسى عليه الصلاه والسلام،
وكان قد استذل بني اسرائيل في مصر، يذبح ابنائهم ويستحيي نسائهم، وقد اختلف العلماء في
السبب الذي ادى به الى هذه الفعله القبيحة، لماذا يقتل الابناء ويبقي النساء؟! فقال بعض
العلماء: ان كهنته قالوا له انه سيولد في بني اسرائيل رجل يكون هلاكك على يده
فصار يقتل الابناء ويستبقي النساء.
ومن العلماء من قال: انه فعل ذلك من اجل ان يضعف بني اسرائيل؛ لان الامه
اذا قتلت رجالها واستبقيت نسائها ذلت بلا شك، فالاول تعليل اهل الاثر، والثاني تعليل اهل
النظر اهل العقل ولا يبعد ان يكون الامران جميعا قد صارا عله لهذا الفعل، ولكن
بقدره الله عز وجل ان هذا الرجل الذي كان هلاك فرعون على يده تربى في
نفس بيت فرعون، فان امراه فرعون التقطته وربته في بيت فرعون، وفرعون استكبر في الارض
وعلا في الارض وقال لقومه: “انا ربكم الاعلى” وقال لهم: “ما علمت لكم من اله
غيري” وقال لهم: “ام انا خير من هذا الذي هو مهين” يعني موسى “ولا يكاد
يبين” قال الله تعالى: “فاستخف قومه فاطاعوه”[الزخرف: 54]. وقال لقومه مقررا لهم: “اليس لي ملك
مصر وهذه الانهار تجري من تحتي افلا تبصرون” [الزخرف:51]. افتخر بالانهار وهي المياه فاغرق بالماء.
“ذي الاوتاد”اي ذي القوة، لان جنوده كانوا له بمنزله الوتد، والوتد تربط به حبال الخيمه
فتستقر وتثبت، فله جنود امم عظيمه ما بين ساحر وكاهن وغير ذلك لكن الله سبحانه
فوق كل شيء. “الذين طغوا في البلاد” الطغيان مجاوزه الحد ومنه قوله تعالى: “انا لما
طغى الماء حملناكم في الجارية” [الحاقة: 11]. اي لما زاد الماء حملناكم في الجاريه يعني
بذلك السفينه التي صنعها نوح عليه الصلاه والسلام، فمعنى “طغوا في البلاد” اي: زادوا عن
حدهم واعتدوا على عباد الله. “فاكثروا فيها الفساد” اي: الفساد المعنوي، والفساد المعنوي يتبعه الفساد
الحسي، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {ولو ان اهل القرى امنوا واتقوا لفتحنا عليهم
بركات من السماء والارض ولكن كذبوا فاخذناهم بما كانوا يكسبون” [الاعراف: 96]. ولهذا قال بعض
العلماء في قوله تعالى: “ولا تفسدوا في الارض بعد اصلاحها” [الاعراف: 56]. قالوا: لا تفسدوها
بالمعاصي، وعلى هذا فيكون قوله “فاكثروا فيها الفساد” اي: الفساد المعنوي، لكن الفساد المعنوي يتبعه
الفساد الحسي، وكان فيما سبق من الامم ان الله تعالى يدمر هؤلاء المكذبين عن اخرهم،
لكن هذه الامه رفع الله عنها هذا النوع من العقوبه وجعل عقوبتها ان يكون باسهم
بينهم، يدمر بعضهم بعضا، وعلى هذا فما حصل من المسلمين من اقتتال بعضهم بعضا، ومن
تدمير بعضهم بعضا انما هو بسبب المعاصي والذنوب، يسلط الله بعضهم على بعض ويكون هذا
عقوبه من الله سبحانه وتعالى، “فصب عليهم ربك” الصب معروف انه يكون من فوق، والعذاب
الذي اتى هؤلاء من فوق من عند الله عز وجل “سوط عذاب” السوط هو العصا
الذي يضرب به، ومعلوم ان الضرب بالعصا نوع عذاب، لكن هل هذا السوط الذي صبه
الله تعالى على عاد، وثمود، وفرعون، هل هو العصا المعروف الذي نعرف، او انه عصا
عذاب اهلكهم؟ الجواب: الثاني عصا عذاب اهلكهم وابادهم. نسال الله تعالى ان يجعل لنا فيما
سبق من الامم عبره نتعظ بها وننتفع بها، ونكون طائعين لله عز وجل غير طاغين،
انه على كل شيء قدير. “ان ربك لبالمرصاد” الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وعلى
اله وسلم، او لكل من يتوجه اليه الخطاب، يبين الله عز وجل انه بالمرصاد لكل
من طغى واعتدى وتكبر، فانه له بالمرصاد سوف يعاقبه ويؤاخذه، وهذا المعنى له نظائر في
القران الكريم منها قوله تبارك وتعالى: “افلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبه الذين
من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين امثالها” [محمد: 10]. وكقول شعيب لقومه: “ويا قوم لا
يجرمنكم شقاقي ان يصيبكم مثل ما اصاب قوم نوح او قوم هود او قوم صالح
وما قوم لوط منكم ببعيد” [هود: 89]. فسنه الله سبحانه وتعالى واحده في المكذبين لرسله،
المستكبرين عن عبادته هو لهم بالمرصاد، وهذه الايه تفيد التهديد والوعيد لمن استكبر عن عباده
الله، او كذب خبره.
“فاما الانسن اذا ما ابتله ربه فاكرمه ونعمه فيقول ربى اكرمن * واما اذا ما
ابتله فقدر عليه رزقه فيقول ربى اهانن * كلا بل لا تكرمون اليتيم * ولا
تحاضون على طعام المسكين * وتاكلون التراث اكلا لما * وتحبون المال حبا جما”.
ثم قال عز وجل: “فاما الانسان اذا ما ابتلاه ربه فاكرمه ونعمه فيقول رب اكرمن.
واما اذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي اهانن” الابتلاء من الله عز وجل
يكون بالخير وبالشر كما قال تعالى: “ونبلوكم بالشر والخير فتنة” [الانبياء: 35]. فيبتلى الانسان بالخير
ليبلوه الله عز وجل ايشكر ام يكفر، ويبتلى بالشر ليبلوه ايصبر ام يفجر، واحوال الانسان
دائره بين خير وشر، بين خير يلائمه ويسره، وبين شر لا يلائمه ولا يسره، وكله
ابتلاء من الله، والانسان بطبيعته الانسانيه المبنيه على الظلم والجهل اذا ابتلاه ربه فاكرمه ونعمه
يقول “رب اكرمن” يعني انني اهل للاكرام ولا يعترف بفضل الله عز وجل، وهذا كقوله
تعالى: “قال انما اوتيته على علم عندي” [القصص: 78]. لما ذكر بنعمه الله عليه قال:”انما
اوتيته على علم عندي” ولم يعترف بفضل الله، وما اكثر الناس الذين هذه حالهم اذا
اكرمهم الله عز وجل ونعمهم، قالوا: هذا اكرام من الله لنا؛ لاننا اهل لذلك، ولو
ان الانسان قال: ان الله اكرمني بكذا اعترافا بفضله وتحدثا بنعمته لم يكن عليه في
ذلك باس، “واما اذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه” يعني ضيق عليه الرزق “فيقول ربي
اهانن” يعني يقول ان الله تعالى ظلمني فاهانني ولم يرزقني كما رزق فلانا، ولم يكرمني
كما اكرم فلانا، فصار عند الرخاء لا يشكر، يعجب بنفسه ويقول هذا حق لي، وعند
الشده لا يصبر بل يعترض على ربه ويقول “ربي اهانن” وهذا حال الانسان باعتباره انسانا،
اما المؤمن فليس كذلك، المؤمن اذا اكرمه الله ونعمه شكر ربه على ذلك، وراى ان
هذا فضل من الله عز وجل واحسان، وليس من باب الاكرام الذي يقدم لصاحبه على
انه مستحق، واذا ابتلاه الله عز وجل وقدر عليه رزقه صبر واحتسب، وقال هذا بذنبي،
والرب عز وجل لم يهني ولم يظلمني، فيكون صابرا عند البلاء، شاكرا عند الرخاء، وفي
الايتين اشاره الى انه يجب على الانسان ان يتبصر فيقول مثلا: لماذا اعطاني الله المال؟
ماذا يريد مني؟ يريد مني ان اشكر. لماذا ابتلاني الله بالفقر، بالمرض وما اشبه ذلك؟
يريد مني ان اصبر. فليكن محاسبا لنفسه حتى لا يكون مثل حال الانسان المبنيه على
الجهل والظلم ولهذا قال تعالى: “كلا” يعني لم يعطك ما اعطاك اكراما لك لانك مستحق
ولكنه تفضل منه، ولم يهنك حين قدر عليك رزقه، بل هذا مقتضى حكمته وعدله. ثم
قال تعالى: “بل لا تكرمون اليتيم” يعني انتم اذا اكرمكم الله عز وجل بالنعم لا
تعطفون على المستحقين للاكرام وهم اليتامى، فاليتيم هنا اسم جنس، ليس المراد يتيما واحدا بل
جنس اليتامى، واليتيم قال العلماء: هو الذي مات ابوه قبل بلوغه من ذكر او انثى،
واما من ماتت امه فليس بيتيم، وقوله تعالى: “اليتيم” يشمل الفقير من اليتامى، والغني من
اليتامى لانه ينبغي الاحسان اليه واكرامه لانه انكسر قلبه بفقد ابيه ومن يقوم بمصالحه، فاوصى
الله تعالى به حتى يزول هذا الكسر الذي اصابه. “ولا تحاضون على طعام المسكين” يعني
لا يحض بعضكم بعضا على ان يطعم المسكين، واذا كان لا يحض غيره فهو ايضا
لا يفعله بنفسه، فهو لا يطعم المسكين ولا يحض على طعام المسكين، وفي هذا اشاره
الى انه ينبغي لنا ان نكرم الايتام، وان يحض بعضنا بعضا على اطعام المساكين؛ لانهم
في حاجة، والله تعالى في عون العبد ما كان العبد في عون اخيه. “وتاكلون التراث
اكلا لما” “التراث” ما يورثه الله العبد من المال، سواء ورثه عن ميت، او باع
واشترى وكسب، او خرج الى البر واتى بما ياتي به من عشب وحطب وغير ذلك،
فالتراث ما يرثه الانسان، او ما يورثه الله الانسان من المال فان بني ادم ياكلونه
اكلا لما، واما المال فقال: “وتحبون المال حبا جما” اي عظيما، وهذا هو طبيعه الانسان،
لكن الايمان له مؤثراته قد يكون الانسان بايمانه لا يهتم بالمال وان جاءه شكر الله
عليه، وادى ما يجب وان ذهب لا يهتم به، لكن طبيعه الانسان من حيث هو
كما وصفه الله عز وجل في هاتين الايتين.
“كلا اذا دكت الارض دكا دكا * وجاء ربك والملك صفا صفا * وجىء يومئذ
بجهنم يومئذ يتذكر الانسن وانى له الذكرى * يقول يليتني قدمت لحياتي * فيومئذ لا
يعذب عذابه احد * ولا يوثق وثاقه احد * يايتها النفس المطمئنه * ارجعي الى
ربك راضيه مرضيه * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي”.
“كلا اذا دكت الارض دكا دكا. وجاء ربك والملك صفا صفا. وجيء يومئذ بجهنم يومئذ
يتذكر الانسان وانى له الذكرى” يذكر الله سبحانه وتعالى الناس بيوم القيامه “اذا دكت الارض
دكا دكا” حتى لا ترى فيها عوجا ولا امتا، تدك الجبال، ولا بناء، ولا اشجار،
تمد الارض كمد الاديم، يكون الناس عليها في مكان واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر في
هذا اليوم “يتذكر الانسان وانى له الذكرى. يقول يا ليتني قدمت لحياتي” ولكن قد فات
الاوان، لاننا في الدنيا في مجال العمل في زمن المهله يمكن للانسان ان يكتسب لمستقره،
كما قال مؤمن ال فرعون “يا قوم انما هذه الحياه الدنيا متاع وان الاخره هي
دار القرار” [غافر: 39]. متاع يتمتع به الانسان كما يتمتع المسافر بمتاع السفر حتى ينتهي
سفره، فهكذا الدنيا، واعتبر ما يستقبل بما مضى، كل ما مضى كانه ساعه من نهار،
كاننا الان مخلوقون، فكذلك ما يستقبل سوف يمر بنا سريعا ويمضي جميعا، وينتهي السفر الى
مكان اخر ليس مستقرا، الى الاجداث الى القبور ومع هذا فانها ليست محل استقرار لقول
الله تعالى: “الهاكم التكاثر. حتى زرتم المقابر” [التكاثر: 1، 2]. سمع اعرابي رجلا يقرا هذه
الايه فقال: (والله ما الزائر بمقيم ولابد من مفارقه لهذا المكان)، وهذا استنباط قوي وفهم
جيد يؤيده الايات الكثيره الصريحه في ذلك كقوله تعالى: “ثم انكم بعد ذلك لميتون. ثم
انكم يوم القيامه تبعثون” [المؤمنون: 15، 16]. وذكر الله سبحانه وتعالى ما يكون في هذا
اليوم فقال: “وجاء ربك والملك صفا صفا” اي: صفا بعد صف، “وجاء ربك” هذا المجيء
هو مجيئه عز وجل لان الفعل اسند الى الله، وكل فعل يسند الى الله فهو
قائم به لا بغيره، هذه القاعده في اللغه العربية، والقاعده في اسماء الله وصفاته كل
ما اسنده الله الى نفسه فهو له نفسه لا لغيره، وعلى هذا فالذي ياتي هو
الله عز وجل، وليس كما حرفه اهل التعطيل حيث قالوا انه جاء امر الله، فان
هذا اخراج للكلام عن ظاهره بلا دليل، فنحن من عقيدتنا ان نجري كلام الله تعالى،
ورسوله صلى الله عليه وسلم على ظاهره وان لا نحرف فيه. ونقول: ان الله تعالى
يجيء يوم القيامه هو نفسه، ولكن كيف هذا المجيء؟ هذا هو الذي لا علم لنا
به لا ندري كيف يجيء؟ والسؤال عن مثل هذا بدعه كما قال الامام مالك رحمه
الله حين سئل عن قوله تعالى: “الرحمن على العرش استوى” [طه: 5]. فاطرق مالك براسه
حتى علاه الرحضاء يعني العرق لشده هذا السؤال على قلبه، لانه سؤال عظيم سؤال متنطع،
سؤال متعنت او مبتدع يريد السوء، ثم رفع راسه وقال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير
معقول، والايمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)، الشاهد الكلمه الاخيره السؤال عنه بدعه واعتبر هذا
في جميع صفات الله فلو سالنا سائل قال: ان الله يقول: “لما خلقت بيدي” [ص
75]. يعني ادم، كيف خلقه بيده؟ نقول: هذا السؤال بدعة، قال: انا اريد العلم لا
احب ان يخفى علي شيء من صفات ربي فاريد ان اعلم كيف خلقه؟ نقول: نحن
نسالك اسئله سهله هل انت احرص على العلم من الصحابه رضي الله عنهم؟ اما ان
يقول نعم، واما ان يقول لا، والمتوقع ان يقول لا. هل الذي وجهت اليه السؤال
اعلم بكيفيه صفات الله عز وجل ام الرسول عليه الصلاه والسلام؟ سيقول: الرسول، اذا الصحابه
احرص منك على العلم والمسؤول الذي يوجه اليه السؤال اعلم من الذي تساله ومع ذلك
ما سالوا؛ لانهم يلتزمون الادب مع الله عز وجل، ويقولون بقلوبهم وربما بالسنتهم ان الله
اجل واعظم من ان تحيط افهامنا وعقولنا بكيفيات صفاته، والله عز وجل يقول في كتابه
في الامور المعقوله “ولا يحيطون به علما” [طه: 110]. وفي الامور المحسوسة: “لا تدركه الابصار
وهو يدرك الابصار” [الانعام: 103]. فنقول: يا اخي الزم الادب، لا تسال كيف خلق الله
ادم بيده؟ فان هذا السؤال بدعة، وكذلك بقيه الصفات لو سال كيف عين الله عز
وجل؟ قلنا له: هذا بدعة، لو سال كيف يد الله عز وجل قلنا: هذا بدعه
وعليك ان تلزم الادب، وان لا تسال عن كيفيه صفات الله عز وجل. لما قال
هنا في الايه الكريمه “وجاء ربك” وسال كيف يجيء؟ نقول: هذا بدعه هذه القاعده التزموها
وكل انسان يسال عن كيفيه صفات الله فهو مبتدع متنطع، سائل عما لا يمكن الوصول
اليه، فموقفنا من مثل هذه الايه “وجاء ربك” ان نؤمن بان الله يجيء لكن على
اي كيفيه ؟ الله اعلم. والدليل قوله تعالى: “ليس كمثله شيء وهو السميع البصير” [الشورى:
11]. فنحن نعلم النفي ولا نعلم الاثبات، يعني نعلم انه لا يمكن ان ياتي على
كيفيه اتيان البشر، ولكننا لا نثبت كيفيته وهذا هو الواجب علينا، وقوله: “الملك” (ال) هنا
للعموم يعني جميع الملائكه ياتون ينزلون ويحيطون بالخلق، تنزل ملائكه السماء الدنيا، ثم ملائكه السماء
الثانيه وهلم جرا يحيطون بالخلق اظهارا للعظمة، والا فان الخلق لا يمكن ان يفروا يمينا
ولا شمالا لكن اظهارا لعظمه الله وتهويلا لهذا اليوم العظيم، تنزل الملائكه يحيطون بالخلق، وهذا
اليوم يوم مشهود يشهده الملائكه والانس والجن والحشرات وكل شيء “واذا الوحوش حشرت” [التكوير: 5].
فهو يوم عظيم لا ندركه الان ولا نتصوره لانه اعظم مما نتصور. الامر الثالث مما
به الانذار في هذا اليوم بعد ان عرفنا الامر الاول وهو مجيء الله، ثم صفوف
الملائكه قال:”وجيء يومئذ بجهنم” “جيء يومئذ” ولم يذكر الجائي لكن قد دلت السنه انه يؤتى
بالنار تقاد بسبعين الف زمام كل زمام منها يقوده سبعون الف ملك(135)، وما ادراك ما
قوه الملائكة؟ قوه ليست كقوه البشر، ولا كقوه الجن بل هي اعظم واعظم بكثير، ولهذا
لما قال عفريت من الجن لسليمان “انا اتيك به” بعرش بلقيس “قبل ان تقوم من
مقامك واني عليه لقوي امين. قال الذي عنده علم من الكتاب انا اتيك به قبل
ان يرتد اليك طرفك فلما راه مستقرا عنده” [النمل: 39، 40]. قال العلماء: لان الرجل
هذا دعا الله، فحملته الملائكه من اليمن فجاءت به الى سليمان في الشام، فقوه الملائكه
عظيمة، وهم يجرون هذه النار بسبعين الف زمام، كل زمام يجره سبعون الف ملك، اذا
هي عظيمة، هذه النار اذا رات اهلها من مكان بعيد، سمعوا لها تغيظا وزفيرا، وليست
كزفير الطائرات او المعدات، زفير تنخلع منه القلوب، “كلما القي فيها فوج سالهم خزنتها الم
ياتكم نذير” [الملك: 8]. وقال الله عز وجل: “تكاد تميز من الغيظ” تكاد تقطع من
شده الغيظ على اهلها، فلهذا انذرنا الله تعالى منها فهذه ثلاثه امور كلها انذار: مجيء
الرب جل جلاله، صفوف الملائكة، الثالث: الاتيان بجهنم. “يومئذ يتذكر الانسان وانى له الذكرى” يعني
اذا جاء الله في يوم القيامة، وجاء الملك الملائكه صفوفا صفوفا، واحاطوا بالخلق، وحصلت الاهوال
والافزاع يتذكر الانسان، يتذكر انه وعد بهذا اليوم، وانه اعلم به من قبل الرسل عليهم
الصلاه والسلام، وانذروا وخوفوا، ولكن من حقت عليه كلمه العذاب فانه لا يؤمن ولو جاءته
كل اية، حينئذ يتذكر لكن يقول الله عز وجل “وانى له الذكرى” اين يكون له
الذكرى في هذا اليوم الذي راى فيه ما اخبر عنه يقينا؟! وانى له الاتعاظ فات
الاوان؟! والايمان عن مشاهده لا ينفع لان كل انسان يؤمن بما شاهد، الايمان النافع هو
الايمان بالغيب “الذين يؤمنون بالغيب” [البقرة: 3]. فيصدق بما اخبرت به الرسل عن الله عز
وجل وعن اليوم الاخر، في ذلك اليوم يتذكر الانسان ولكن قال الله عز وجل: “انى
له الذكرى” اي بعيد ان ينتفع بهذه الذكرى التي حصلت منه حين شاهد الحق يقول
الانسان: “يا ليتني قدمت لحياتي” يتمنى انه قدم لحياته وما هي حياته؟ اهي حياه الدنيا؟
لا والله، الحياه الدنيا انتهت وقضت، وليست الحياه الدنيا حياه في الواقع، الواقع انها هموم
واكدار، كل صفو يعقبه كدر، كل عافيه يتبعها مرض، كل اجتماع يعقبه تفرق، انظروا ما
حصل اين الاباء؟ اين الاخوان؟ اين الابناء؟ اين الازواج؟ هل هذه حياة؟ ولهذا قال بعض
الشعراء الحكماء:
لا طيب للعيش مادامت منغصه لذاته بادكار الموت والهرم
كل انسان يتذكر ان ماله احد امرين: اما الموت، واما الهرم، نحن نعرف اناسا كانوا
شبابا في عنفوان الشباب عمروا لكن رجعوا الى ارذل العمر، يرق لهم الانسان اذا راهم
في حاله بؤس، حتى وان كان عندهم من الاموال ما عندهم، وعندهم من الاهل ما
عندهم، لكنهم في حاله بؤس، وهكذا كل انسان اما ان يموت مبكرا، واما ان يعمر
فيرد الى ارذل العمر فهل هذه حياة؟ الحياه هي ما بينه الله عز وجل: “وان
الدار الاخره لهي الحيوان” يعني لهي الحياه التامه {لو كانوا يعلمون} [العنكبوت: 64]. يقول هذا:
“يا ليتني قدمت لحياتي” يتمني لكن لا يحصل {انى له الذكرى}. قال تعالى: “فيومئذ لا
يعذب عذابه احد، ولا يوثق وثاقه احد” فيها قراءتان: الاولى “لا يعذب عذابه احد ولا
يوثق وثاقه احد” اي لا يعذب عذاب الله احد، بل عذاب الله اشد، ولا يوثق
وثاق الله احد، بل هو اشد. القراءه الثانية: “لا يعذب عذابه احد ولا يوثق وثاقه
احد” يعني في هذا اليوم لا احد يعذب عذاب هذا الرجل، ولا احد يوثق وثاقه،
ومعلوم ان هذا الكافر لا يعذب احد عذابه في ذلك اليوم، لانه يلقى على اهل
النار في الموقف العطش الشديد، فينظرون الى النار كانها السراب، والسراب هو ما يشاهده الانسان
في ايام الصيف في شده الحر من البقاع حتى يخيل اليه انه الماء، ينظرون الى
النار كانها سراب وهم عطاش، فيتهافتون عليها يذهبون اليها سراعا يريدون اي شيء؟ يريدون الشرب،
فاذا جاؤوها فتحت ابوابها وقال لهم خزنتها: “الم ياتكم رسل منكم يتلون عليكم ايات ربكم
وينذرونكم لقاء يومكم هذا” [الزمر: 71]. قد قامت عليكم الحجه فيوبخونهم قبل ان يدخلوا النار،
والتوبيخ عذاب قلبي والم نفسي قبل ان يذوقوا الم النار، وفي النار يوبخهم الجبار عز
وجل توبيخا اعظم من هذا. ويقولون “ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين. ربنا اخرجنا
منها فان عدنا فانا ظالمون” قال الله تعالى وهو ارحم الراحمين: “اخسئوا فيها ولا تكلمون”
[المؤمنون: 106 108]. ابلغ من هذا الاذلال “اخسئوا فيها ولا تكلمون” يقوله ارحم الراحمين، فمن
يرحمهم بعد الرحمن؟! لا راحم لهم، وقد اخبر النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم
بان اهون اهل النار عذابا من عليه نعلان يغلي منهما دماغه، ولا يرى ان احدا
اشد منه عذابا (136) يرى انه اشد الناس عذابا وهو اهونهم عذابا، وعليه نعلان يغلي
منهما الدماغ، النعلان في اسفل البدن والدماغ في اعلاه، فاذا كان اعلى البدن يغلي من
اسفله، فالوسط من باب اشد اجارنا الله واياكم من النار “فيومئذ لا يعذب عذابه احد
ولا يوثق وثاقه احد” لانهم والعياذ بالله يوثقون “ثم في سلسله ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه”
[الحاقة: 32]. ادخلوه في هذه السلسله تغل ايديهم نسال الله العافيه ولا احد يتصور الان
ما هم فيه من البؤس والشقاء والعذاب. اذن على الانسان ان يستعد قبل ان “يقول
يا ليتني قدمت لحياتي فيومئذ لا يعذب عذابه احد ولا يوثق وثاقه احد”.
ثم ختم الله تعالى هذه السوره بما يبهج القلب ويشرح الصدر فقال: “يا ايتها النفس
المطمئنه ارجعي الى ربك راضيه مرضية” “ارجعي الى ربك” يقال هذا القول للانسان عند النزع
في اخر لحظه من الدنيا، يقال لروحه: اخرجي ايتها النفس المطمئنة، اخرجي الى رحمه من
الله ورضوان، فتستبشر وتفرح، ويسهل خروجها من البدن، لانها بشرت بما هو انعم مما في
الدنيا كلها، قال النبي صلى الله عليه واله وسلم: «لموضع سوط احدكم في الجنه خير
من الدنيا وما فيها»(137)، سوط الانسان العصا القصير، موضع السوط في الجنه خير من الدنيا
وما فيها، وليست دنياك انت، بل الدنيا من اولها الى اخرها، بما فيها من النعيم،
والملك، والرفاهيه وغيرها، موضع سوط خير من الدنيا وما فيها، فكيف بمن ينظر في ملكه
مسيره الفي عام، الفي سنه يرى اقصاه كما يرى ادناه، نعيم لا يمكن ان ندركه
بنفوسنا ولا بتصورنا “فلا تعلم نفس ما اخفي لهم من قره اعين جزاء بما كانوا
يعملون” [السجدة: 17]. “النفس المطمئنة” يعني المؤمنه الامنة، لانك لا تجد نفسا اكثر اطمئنانا من
نفس المؤمن ابدا، المؤمن نفسه طيبه مطمئنة، ولهذا تعجب الرسول صلى الله عليه وسلم من
المؤمن قال: «عجبا لامر المؤمن ان امره كله خير، ان اصابته ضراء صبر فكان خيرا
له، وان اصابته سراء شكر فكان خيرا له»(138)، مطمئن راض بقضاء الله وقدره، لا يسخط
عند المصائب، ولا يبطر عند النعم، بل هو شاكر عند النعم، صابر عند البلاء، فتجده
مطمئنا، لكن الكافر او ضعيف الايمان لا يطمئن، اذا اصابه البلاء جزع وسخط، وراى انه
مظلوم من قبل الله والعياذ بالله حتى ان بعضهم ينتحر ولا يصبر، ولا يطمئن، بل
يكون دائما في قلق، ينظر الى نفسه واذا هو قليل المال، قليل العيال ليس عنده
زوجة، ليس له قوم يحمونه، فيقول: انا لست في نعمة، لان فلانا عنده مال، عنده
زوجات، عنده اولاد، عنده قبيله تحميه، انا ليس عندي، فلا يرى لله عليه نعمة، لانه
ضعيف الايمان فليس بمطمئن، دائما في قلق، ولهذا نجد الناس الان يذهبون الى كل مكان
ليرفهوا عن انفسهم ليزيلوا عنها الالم والتعب، لكن لايزيل ذلك حقا الا الايمان، فالايمان الحقيقي
هو الذي يؤدي الى الطمانينة، فالنفس المطمئنه هي المؤمنة، مؤمنه في الدنيا، امنه من عذاب
الله يوم القيامة، قال بعض السلف كلمه عجيبه قال: لو يعلم الملوك وابناء الملوك ما
نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف، هل تجدون انعم في الدنيا من الملوك وابنائهم، لا يوجد
احد انعم منهم في الظاهر يعني نعومه الجسد، لكن قلوبهم ليست كقلوب المؤمنين، المؤمن الذي
ليس عليه الا ثوب مرقع، وكوخ لا يحميه من المطر، ولا من الحر، ولكنه مؤمن،
دنياه ونعيمه في الدنيا افضل من الملوك وابناء الملوك، لان قلبه مستنير بنور الله، بنور
الايمان، وها هو شيخ الاسلام ابن تيميه رحمه الله حبس واوذي في الله عز وجل،
فلما ادخل الحبس واغلقوا عليه الباب قال رحمه الله: “فضرب بينهم بسور له باب باطنه
فيه الرحمه وظاهره من قبله العذاب” [الحديد: 13]. يقول هذا تحدثا بنعمه الله لا افتخارا
ثم قال: (ما يصنع اعدائي بي اي شيء يصنعون ان جنتي في صدري اي الايمان
والعلم واليقين وان حبسي خلوة، ونفيي ان نفوه من البلد سياحه وقتلي شهادة) هذا هو
اليقين، هذه الطمانينة، والانسان لو دخل الحبس كان يفكر ما مستقبلي، ما مستقبل اولادي، واهلي،
وقومي، وشيخ الاسلام رحمه الله يقول: (جنتي في صدري) وصدق. ولعل هذا هو السر في
قوله تبارك وتعالى: “لا يذوقون فيها الموت الا الموته الاولى” [الدخان: 56]. يعني في الجنه
لا يذوقون فيها الموت الا الموته الاولى، ومعلوم ان الجنه لا موت فها لا اولى
ولا ثانية، لكن لما كان نعيم القلب ممتدا من الدنيا الى دخول الجنه صارت كان
الدنيا والاخره كلها جنه وليس فيها الا موته واحدة. “راضية” بما اعطاك الله من النعيم
“مرضية” عند الله عز وجل كما قال تعالى: “رضي الله عنهم ورضوا عنه” [المجادلة: 22].
“فادخلي في عبادي” اي: ادخلي في عبادي الصالحين، من جملتهم، لان الصالحين من عباد الله
الذين انعم الله عليهم، الذين هم خير طبقات البشر، والبشر طبقاته ثلاث: منعم عليهم، ومغضوب
عليهم، وضالون، وكل هذه الطبقات مذكوره في سوره الفاتحه “اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين انعمت
عليهم. غير المغضوب عليهم ولا الضالين”.
الطبقه الاولى: الذين انعم الله عليهم وهم: النبيون، والصديقون، والشهداء، والصالحون.
والثانية: “المغضوب عليهم” وهم اليهود واشباه اليهود من كل من علم الحق وخالفه، فكل من
علم الحق وخالفه ففيه شبه من اليهود، كما قال سفيان بن عيينه رحمه الله :
من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود.
والثالثة: “الضالون” وهم النصارى الذين جهلوا الحق، ارادوه لكن عموا عنه، ما اهتدوا اليه، قال
ابن عيينة: وكل من فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى؛ لان العباد يريدون الخير
يريدون العباده لكن لا علم عندهم، فهم ضالون.
“ادخلي في عبادي” اي الطبقه الاولى المنعم عليهم. “وادخلي جنتي” اي جنته التي اعدها الله
عز وجل لاوليائه، اضافها الله الى نفسه تشريفا لها وتعظيما، واعلاما للخلق بعنايته بها جل
وعلا، والله سبحانه وتعالى قد خلقها خلقا غير خلق الدنيا، خلق لنا في الدنيا فاكهة،
ونخلا، ورمانا، وفي الجنه فاكهة، ونخل، ورمان ولكن ما في الجنه ليس كالذي في الدنيا
ابدا، لان الله يقول: “فلا تعلم نفس ما اخفي لهم من قره اعين” [السجدة: 17].
ولو كان ما في الجنه كالذي في الدنيا لكنا نعلم، اذا هو مثله في الاسم،
لكن ليس مثله في الحقيقه ولا في الكيفيه ولهذا قال: “ادخلي جنتي” فاضافها الله الى
نفسه للدلاله على شرفها وعنايه الله بها، وهذا يوجب للانسان ان يرغب فيها غايه الرغبة،
كما انه يرغب في بيوت الله التي هي المساجد، لان الله اضافها الى نفسه، فكذلك
يرغب في هذه الدار التي اضافها الله الى نفسه، والامر يسير، قال رجل للرسول صلى
الله عليه وسلم: دلني على عمل يدخلني الجنه ويباعدني من النار، فقال: لقد سالت عن
عظيم، وهو عظيم، “فمن زحزح عن النار وادخل الجنه فقد فاز” [ال عمران: 185]. وانه
ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي
الزكاة، وذكر الحديث(139)، فالدين والحمد لله يسير وسهل، لكن النفوس الاماره بالسوء، والشهوات، والشبهات، هي
التي تحول بيننا وبين ديننا، ربنا اتنا في الدنيا حسنة، وفي الاخره حسنة، وقنا عذاب
النار، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، انك انت
الوهاب