النمل في القران الكريم اكتشف العلماء حديثا ان جسم النمله مزود بهيكل عظمي خارجي صلب
الاعجاز في قوله تعالى:
﴿حتى اذا اتوا على وادي النمل قالت نمله يا ايها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم
سليمان وجنوده وهم لا يشعرون﴾ [النمل: 18]
مقدمة:
يحكي لنا الحق سبحانه وتعالى قصه النمله التي شاهدت سيدنا سليمان -عليه السلام- وجنوده وهم
يجتازون الوادي الذي تعيش فيه، فما كان منها الا ان طلبت من رفاقها ان يدخلوا
مساكنهم تحت سطح الارض حتى لا تدوسهم الاقدام، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿حتى اذا
اتوا على وادي النمل قالت نمله يا ايها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده
وهم لا يشعرون﴾ [النمل: 18].
وفي ايه اخرى يبين لنا المولى عز وجل ان هذه المخلوقات التي خلقها الله وسخرها
لنا ما هي الا امم امثالنا لها نظامها وحياتها، وتخطيطها ومعيشتها ولغتها، قال تعالى: ﴿وما
من دابه في الارض ولا طائر يطير بجناحيه الا امم امثالكم ما فرطنا في الكتاب
من شيء ثم الى ربهم يحشرون﴾ [الانعام: 38].
النمل في النصوص الشرعية:
جاء ذكر النمل في القران الكريم في ايه واحده ثلاث مرات، مره بصيغه الافراد ومرتين
بصيغه الجمع، وذلك في سوره سميت سوره النمل، قال تعالى: ﴿حتى اذا اتوا على وادي
النمل قالت نمله يا ايها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون﴾
[النمل: 18].
قال الطبري في تفسير هذه الايه الكريمة: “حتى اذا اتى سليمان وجنوده على وادي النمل
﴿قالت نمله يا ايها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده﴾ يقول: لا يكسرنكم ويقتلنكم
سليمان وجنوده، ﴿وهم لا يشعرون﴾ يقول: وهم لا يعلمون انهم يحطمونكم”(1).
وجاءت كثير من الاقوال في مكان هذا الوادي، وفي وصف هذه النملة، وهل هي انثى
ام ذكر، وهي اقوال لا تعتمد على ادله شرعية، قال ابن كثير: “ومن قال من
المفسرين ان هذا الوادي كان بارض الشام او بغيره وان هذه النمله كانت ذات جناحين
كالذباب او غير ذلك من الاقاويل فلا حاصل لها، والغرض ان سليمان عليه السلام فهم
قولها وتبسم ضاحكا من ذلك، وهذا امر عظيم جدا”(2)، وهذه الايه تثبت ان للنمل لغه
يتخاطبون بها، ولم يستبعد العلماء المسلمون هذا الامر.
قال ابو السعود: “وقوله تعالى: ﴿قالت نملة﴾ جواب اذا، كانها لما راتهم متوجهين الى الوادي
فرت منهم، فصاحت صيحه تنبهت بها ما بحضرتها من النمل لمرادها فتبعتها في الفرار، فشبه
ذلك بمخاطبه العقلاء ومناصحتهم فاجروا مجراهم حيث جعلت هي قائله وما عداها من النمل مقولا
لهم، حيث قيل ﴿يايها النمل ادخلوا مساكنكم﴾، مع انه لا يمتنع ان يخلق الله تعالى
فيها النطق وفيما عداها العقل والفهم”(3).
وقال الخازن في تفسيره: “﴿يا ايها النمل ادخلوا مساكنكم﴾ ولم يقل ادخلن؛ لانه جعل لهم
عقولا كالادميين فخوطبوا خطاب الادميين، وهذا ليس بمستعبد ان يخلق الله فيها عقلا ونطقا فانه
قادر على ذلك”(4).
وقال ابن الجوزي: “قوله تعالى قالت نمله اي صاحت بصوت، فلما كان ذلك الصوت مفهوما
عبر عنه بالقول، ولما نطق النمل كما ينطق بنو ادم اجري مجرى الادميين فقيل ادخلوا،
والهم الله تلك النمله معرفه سليمان معجزا له.
وقد الهم الله النمل كثيرا من مصالحها تزيد به على الحيوانات، فمن ذلك انها تكسر
كل حبه تدخرها قطعتين لئلا تنبت الا الكزبره فانها تكسرها اربع قطع؛ لانها تنبت اذا
كسرت قطعتين فسبحان من الهمها هذا”(5).
وقال الالوسي: “ومن تتبع احوال النمل لا يستبعد ان تكون له نفس ناطقة؛ فانه يدخر
في الصيف ما يقتات به في الشتاء، ويشق ما يدخره من الحبوب نصفين مخافه ان
يصيبه الندى فينبت الا الكزبره والعدس فانه يقطع الواحده منهما اربع قطع ولا يكتفي بشقها
نصفين؛ لانها تنبت كما تنبت اذا لم تشق، وهذا وامثاله يحتاج الى علم كلي استدلالي
وهو يحتاج الى نفس ناطقة، وظواهر الايات والاخبار الصحيحه تقتضيه كما سمعت قديما وحديثا فلا
حاجه بك الى ان تقول: يجوز ان يكون الله تعالى قد خلق في النمله اذ
ذاك النطق وفيما عداها من النمل العقل والفهم واما اليوم فليس في النمل ذلك”(6).
وفي السنه النبويه اخبر النبي صلى الله عليه وسلم ان النمل امه من الامم تسبح
الله تعالى، فعن ابي هريره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ان نمله قرصت
نبيا من الانبياء فامر بقريه النمل فاحرقت فاوحى الله اليه افي ان قرصتك نمله اهلكت
امه من الامم تسبح»(7).
وفي روايه اخرى ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نزل نبي من الانبياء تحت
شجره فلدغته نمله فامر بجهازه فاخرج من تحتها ثم امر بها فاحرقت، فاوحى الله اليه
فهلا نمله واحدة»(8)، اي فهلا عاقبت نمله واحده هي التي قرصتك لانها الجانيه واما غيرها
فليس لها جناية. وجاء النهي عن قتل النمل او تحريق مساكنه بالنار، فعن ابن عباس
رضي الله عنهما قال: «ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل اربع من
الدواب النمله والنحله والهدهد والصرد»(9).
وعن عبد الرحمن بن عبد الله عن ابيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فراينا حمره (الحمره طائر) معها فرخان فاخذنا فرخيها فجاءت
الحمره فجعلت تفرش (اي ترفرف) فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من فجع هذه
بولدها؟ ردوا ولدها اليها».
وراى قريه نمل قد حرقناها فقال: «من حرق هذه؟ قلنا: نحن، قال: انه لا ينبغي
ان يعذب بالنار الا رب النار»(10).
والنمله من جمله المخلوقات التي تدعو بالرحمه والمغفره لمعلمي الناس الخير، فعن ابي امامه الباهلي
رضي الله عنه قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان احدهما عابد والاخر
عالم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد كفضلي على ادناكم،
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ان الله وملائكته واهل السماوات والارضين حتى
النمله في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير»(11).
وقد اجاب الله تعالى دعاء نمله طلبت السقيا، فعن ابي هريره رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خرج نبي من الانبياء يستسقي فاذا هو
بنمله رافعه بعض قوائمها الى السماء، فقال: ارجعوا فقد استجيب لكم من اجل شان النملة»(12).
وكل هذه النصوص تؤكد ان الاسلام نظر للنمل نظره احترام وتقدير.
نبذه مختصره عن حياه النمل:
النمل من الحشرات التي تعود الى صنف غشائيه الاجنحة، ولها سته ارجل، فالنمل حشره صغيره
ذات فعل كبير، فهي تمثل 20% من الكائنات الحيه على كوكب الارض، فقد عرف النمل
منذ القدم فهو بحسب كلام المختصين منذ العصر الطباشيري، فقد عايشت الديناصورات، وهي موجوده منذ
92 مليون سنة، ويوجد منها حوالي 20 الف نوع، وهي منتشره على الكره الارضيه وتعيش
في كل مكان، تجدها في السهول وتجدها في اعالي الجبال، فهي موزعه على عموم الكره
الارضية، تحت الارض او فوق الاشجار.
واغلب النمل من صنف الشغالات Ant Workers وهو الاكثر انتشارا في العالم، والشغالات كلهن من
الاناث، يعشن فيما يسمى بالمستعمرات، ولكل مستعمره ملكه واحده عملها وضع البيض. وعدد البيض الذي
تضعه الملكه يختلف بحسب نوع النمل، وقد يتراوح من بضع مئات الى عده ملايين، فالنوع
الافريقي من النمل تضع ملكته ما يقرب من 3 الى 4 ملايين بيضه شهريا.
ويعتبر النمل من اطول الحشرات عمرا على الارض، فانه يعيش من بضعه اشهر الى عده
سنوات وقد يصل عمر الملكه الى 20 عاما.
اما ذكور النمل فعملها محصور في التزاوج فقط في تلقيح الملكة، فحينما تقرر الملكه التزاوج
ياتي واجبها وبعد ذلك تموت الذكور مباشرة، فاثناء عمليه التزاوج تطرح الملكه اجنحتها، وتفرز رائحه
تميز رائحه المستعمرة.
وهذه الحشره اجتماعيه جدا، ولا يمكنها العيش بصوره منفردة، حيث انها تعيش في مجاميع او
اعشاش او مستعمرات. واعشاش النمل ليست واحده لجميع انواع النمل، فمثلا نمل المحاصيل Hanester Ants
يبني حجرات متصله تحت الارض، بينما يشبك النمل الخياط Tailor Ants اوراق الشجر ويصنع عشا
اخضرا اسطواني الشكل، وهناك اعشاش اخرى للنمل قد تكون على شكل حجرات داخل الاشجار مثل
ما يفعل النمل الحفار Carpenter Ants، واعشاش النمل تحت الارض قد تبلغ اربعين قدما عمقا
تحت الارض، فقد تمكن فريق من العلماء الاوروبيين من اكتشاف مستعمره هائله للنمل تمتد لالاف
الاميال من ايطاليا الى شمال غرب اسبانيا.
وتعداد النمل في العش او المستعمره قد يصل الى عشرات الملايين. وبيت النمل مقسم، ففيه
حجرات للصغار، وهناك حجره خاصه للملكة، وحجرات تستخدم كمخازن للطعام، والنمل مقسم الى مجاميع لكل
منها واجبه الخاص والمحدد، فمنها من هو مسئول عن الحراسة، ومنها من هو مسئول عن
التنظيف، ومنها من هو مسئول عن الفلاحة، ويجب عدم الاستغراب ان قلنا بان مجتمع النمل
فاق بنجاحه مجتمع البشر بطريقه او اخرى. فالنمل يبني المدن، ويشق الطرقات، ويحفر الانفاق، ويخزن
الطعام في مخازن ومستودعات، وبعض انواع النمل يقيم الحدائق، ويزرع النباتات ليتغذى عليها. وبعض انواع
النمل يحتفظ بمواشي خاصه به، فيحلب الرحيق من بطنها.
والنمل تشن حروبا على قبائل النمل الاخرى، وتاخذ الاسرى من النمل المهزوم وتسخره لخدمتها، وبعض
انواع النمل تستانس حشرات اخرى في اوكارها للاستفاده منها. وصدق الله عندما قال في محكم
كتابه العزيز: ﴿وما من دابه في الارض ولا طائر يطير بجناحيه الا امم امثالكم ما
فرطنا في الكتاب من شيء ثم الى ربهم يحشرون﴾ [الانعام: 38](13).
الاعجاز البلاغي في قوله تعالى: ﴿حتى اذا اتوا على وادي النمل قالت نمله يا ايها
النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون﴾:
اشتملت هذه الايه -على قصرها- على معان بلاغيه كثيرة، فقد جمعت هذه الايه عشره انواع
من الخطاب في موطن واحد، وهذه الانواع هي: النداء والتنبيه والتسميه والامر والنص والتحذير والتخصيص
والتفهيم والتعميم والاعتذار. قال ابن القيم عن هذه النملة: “ويكفي في فطنتها ما نص الله
عز وجل في كتابه من قولها لجماعه النمل وقد رات سليمان عليه الصلاه والسلام وجنوده
﴿يا ايها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون﴾.
فتكلمت بعشره انواع من الخطاب في هذه النصيحة، النداء والتنبيه والتسميه والامر والنص والتحذير والتخصيص
والتفهيم والتعميم والاعتذار، فاشتملت نصيحتها مع الاختصار على هذه الانواع العشرة، ولذلك اعجب سليمان قولها،
وتبسم ضاحكا منه، وسال الله ان يوزعه شكر نعمته عليه لما سمع كلامها، ولا تستبعد
هذه الفطنه من امه من الامم تسبح بحمد ربها”(14).
وهذه الايه من الايات البديعة، التي جمعت بين الايجاز، والاطناب، في اسلوب رفيع، اما الاطناب
فنلحظه في قول هذه النملة: ﴿يا ايها﴾ وقولها: ﴿وهم لا يشعرون﴾، اما قولها: ﴿يا ايها﴾،
فقال سيبويه: “الالف والهاء لحقت (اي) توكيدا؛ فكانك كررت (يا) مرتين، وصار الاسم تنبيها”.
وقال الزمخشري: “كرر النداء في القران ب(يا ايها) دون غيره؛ لان فيه اوجها من التاكيد،
واسبابا من المبالغة؛ منها: ما في (يا) من التاكيد، والتنبيه، وما في (ها) من التنبيه،
وما في التدرج من الابهام في (اي) الى التوضيح، والمقام يناسبه المبالغه والتاكيد”(15).
واما قولها: ﴿وهم لا يشعرون﴾ فهو تكميل لما قبله، جيء به، لرفع توهم غيره، ويسمى
ذلك عند علماء البلاغه والبيان: احتراسا، وذلك من نسبه الظلم الى سليمان عليه السلام، وكان
هذه النمله عرفت ان الانبياء معصومون، فلا يقع منهم خطا الا على سبيل السهو. وفي
ذلك قال الفخر الرازي: “وهذا تنبيه عظيم على وجوب الجزم بعصمه الانبياء عليهم السلام”.
واما الايجاز فنلحظه فيما جمعت هذه النمله في قولها من اجناس الكلام فقد جمعت النداء،
والكناية، والتنبيه، والتسمية، والامر، والنص، والتحذير، والتخصيص، والتعميم، والاشارة، والعذر. فالنداء (يا)، والكنايه (اي)، والتنبيه
(ها)، والتسميه (النمل)، والامر (ادخلوا)، والنص (مساكنكم)، والتحذير (لا يحطمنكم)، والتخصيص (سليمان)، والتعميم (جنوده)، والاشاره
(هم)، والعذر (لا يشعرون)، فادت هذه النمله بذلك خمسه حقوق: حق الله تعالى، وحق رسوله،
وحقها، وحق رعيتها، وحق الجنود، فاما حق الله تعالى فانها استرعيت على النمل، فقامت بحقهم.
واما حق سليمان عليه السلام فقد نبهته على النمل. واما حقها فهو اسقاطها حق الله
تعالى عن الجنود في نصحهم. واما حق الرعيه فهو نصحها لهم؛ ليدخلوا مساكنهم. واما حق
الجنود فهو اعلامها اياهم، وجميع الخلق، ان من استرعاه الله تعالى رعية، وجب عليه حفظها،
والذب عنها، وهو داخل في الحديث المشهور: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته»(16).
واما قولها: ﴿ادخلوا مساكنكم﴾ ففيه ايجاز بالحذف بليغ؛ لان اصله: ادخلوا في مساكنكم، فحذف منه
(في) تنبيها على السرعه في الدخول، ومن الفوائد البديعة، التي لا يتنبه اليها الكثيرون: انك
اذا قلت (دخلت) فانك تعني بذلك انتقالك من بسيط من الارض، ومنكشفها الى ما كان
منها غير بسيط، منكشف، فاذا كان المنقول اليه مكانا غير مختص، وجب ادخال (في) قبله.
واذا كان مكانا مختصا، جاز ادخال (في) قبله، وجاز اسقاطها، واسقاطها ابلغ من ادخالها للفائده
التي ذكرناها، وعلى هذا تقول: دخلت في البيت، ودخلت البيت. ومن دخولها قبل المكان غير
المختص قوله تعالى: ﴿وادخلني برحمتك في عبادك الصالحين﴾ [النمل: 19].
وقد اجتمع ذكرها، وحذفها في قول الله تعالى: ﴿يا ايتها النفس المطمئنة* ارجعي الى ربك
راضيه مرضية* فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي﴾ [الفجر: 27-30].
واما قولها: ﴿لا يحطمنكم﴾، بنون مشدده او خفيفة، فظاهره النفي؛ ولكن معناه على النهي. والنهي
اذا جاء على صوره النفي، كان ابلغ من النهي الصريح. وفيه تنبيه على ان من
يسير في الطريق، لا يلزمه التحرز؛ وانما يلزم من كان في الطريق(17).
والنمله بدات مخاطبه قومها مخاطبه العقلاء وجاءت بلفظ مساكنكم ولم تقل بيوتكم او جحوركم لانهم
في حاله حركة، والحركه عكسها السكون، فاختارت لفظ المساكن من السكون حتى يسكنوا فيها، ولم
تقل المساكن والجحور وانما قالت مساكنكم اي ان لكل نمله مسكنها الخاص الذي تعلم مكانه،
ولم تقل ادخلن وانما قالت ادخلوا، ثم اكدت بالنداء بقولها ﴿يا ايها النمل ادخلوا مساكنكم﴾
حرف النداء الدال على البعد حتى يسمعوا نداءها، وقالت سليمان وجنوده ولم تقل جنود سليمان
حتى ترفع العذر عن سليمان ايضا، فلو قالت جنود سليمان لكان سليمان غير عالم اذا
كان قاصدا او غير قاصد، وجاءت بلفظ سليمان بدون اي لقب له كالنبي سليمان للدلاله
على انه مشهور بدون ان يوصف، ثم حثتهم على الاسراع في التنفيذ قبل ان تنالهم
المصيبة(18).
الاعجاز العلمي في الايه الكريمة:
اكتشف العلماء ان للنمل لغات تفاهم خاصه بينها وذلك من خلال تقنيه التخاطب من خلال
الشفرات الكيماوية، وربما كان الخطاب الذي وجهته النمله الى قومها هو عباره عن شفره كيماوية.
فقد اثبتت احدث الدراسات العلميه ان لكل نوع من انواع الحيوانات رائحه خاصه به، وداخل
النوع الواحد هناك روائح اضافيه تعمل بمثابه بطاقه شخصيه او جواز سفر للتعريف بشخصيه كل
حيوان او العائلات المختلفة، او افراد المستعمرات المختلفة. ولم يكن عجيبا ان نجد احد علماء
التاريخ الطبيعي وهو (رويال وكنسون) قد صنف كتابا مهما جعل عنوانه (شخصيه الحشرات).
والرائحه تعتبر لغه خفيه او رساله صامته تتكون مفرداتها من مواد كيماويه اطلق عليها العلماء
اسم (فرمونات)، وتجدر الاشاره الى انه ليست كل الروائح (فرمونات)، فالانسان يتعرف على العديد من
الروائح في الطعام مثلا ولكنه لا يتخاطب او يتفاهم من خلال هذه الروائح، ويقصر الباحثون
استخدام كلمه (فرمون) على وصف الرسائل الكيماويه المتبادله بين حيوان من السلاله نفسها، وعليه فقد
توصف رائحه بانها (فرمون) بالنسبه الى حيوان معين، بينما تكون مجرد رائحه بالنسبه لحيوان اخر.
واذا طبقنا هذا على عالم النمل نجد ان النمل يتميز برائحه خاصه تدل على العش
الذي ينتمي اليه، والوظيفه التي تؤديها كل نمله في هذا العش حيث يتم انتاج هذه
الفرمونات من غده قرب الشرج، وحينما تلتقي نملتان فانهما تستخدمان قرون الاستشعار، وهي الاعضاء الخاصه
بالشم، لتعرف الواحده الاخرى.
وقد وجد انه اذا دخلت نمله غريبه مستعمره لا تنتمي اليها، فان النمل في هذه
المستعمره يتعرفن عليها عن طريق رائحتها ويعدها عدوا، ثم يبدا في الهجوم عليها، ومن الطريف
انه في احدى التجارب المعمليه وجد ان ازاله الرائحه الخاصه ببعض النمل التابع لعشيره معينه
ثم اضافه رائحه خاصه بنوع اخر عدو له، ادى الى مهاجمته بافراد من عشيرته نفسها.
وفي تجربه اخرى تم غمس نمله برائحه نمله ميته ثم اعيدت الى عشها، فلوحظ ان
اقرانها يخرجونها من العش لكونها ميتة، وفي كل مره تحاول فيها العوده يتم اخراجها ثانيه
على الرغم من انها حيه تتحرك وتقاوم، وحينما تمت ازاله رائحه الموت فقط تم السماح
لهذه النمله بالبقاء في العش. وحينما تعثر النمله الكشافه على مصدر للطعام فانها تقوم على
الفور بافراز (الفرمون) اللازم من الغدد الموجوده في بطنها لتعليم المكان ثم ترجع الى العش،
وفي طريق عودتها لا تنسى تعليم الطريق حتى يتعقبها زملاؤها، وفي الوقت نفسه يضيفون مزيدا
من الافراز لتسهيل الطريق اكثر فاكثر. ومن العجيب ان النمل يقلل الافراز عندما يتضاءل مصدر
الطعام ويرسل عددا اقل من الافراد الى مصدر الطعام، وحينما ينضب هذا المصدر تماما فان
اخر نملة، وهي عائده الى العش لا تترك اثرا على الاطلاق.
وهنالك العديد من التجارب التي يمكن اجراؤها على دروب النمل هذه، فاذا ازلت جزءا من
هذا الاثر بفرشاه مثلا، فان النمل يبحث في المكان وقد اصابه الارتباك حتى يهتدي الى
الاثر ثانية، واذا وضعت قطعه من الورق بين العش ومصدر الطعام فان النمل يمشي فوقها
واضعا اثرا كيماويا فوقها، ولكن لفتره قصيرة، حيث انه اذا لم يكن هناك طعام عند
نهايه الاثر، فان النمل يترك هذا الاثر ويبدا في البحث عن طعام من جديد(19).
لقد اشار القران الكريم الى حقيقه علميه كبيره وهي ذكاء النمل وقدرته على المحاكمه العقليه
والفكريه ومواجهه الاخطار وذلك من خلال هذه القصه التي حدثت مع نبي الله سليمان عليه
السلام وعلى نبينا افضل الصلاه والسلام، فقد استطاعت نمله صغيره من تحديد مكان سليمان والطريق
الذي سوف يمر به وهذا لم يكن ليتم لولا هذه القدرات الخارقه التي يتمتع بها
النمل. ولقد كشف العلم الحديث عن بعض العجائب من سلوك النمل الذكي وتطور جهازها العصبي
فعند دراسته تحت المجهر يظهر لنا ان دماغ النمله يتكون من فصين رئيسيين يشبه مخ
الانسان، ومن مراكز عصبيه متطوره وخلايا حساسة.
(صوره حديثه لدماغ النملة)
A: صوره الدماغ كما يظهر بواسطه الفلور المشع.
B: صوره للجزء الخاص بتحليل المعلومات في دماغ النملة.
C: منحنى يبين استجابه النمله لدى نشر رائحه معينة، حيث نلاحظ وجود نشاط في الدماغ
تمثله القفزه في المنحنى.
D: اختبار للنمله بواسطه كره الكترونيه تظهر ذكاء النمل وسرعه استجابته للمؤثرات.
وسنحاول تفصيل العبارات التي نطقت بها النمله من خلال ما جاء في القران الكريم ونربطه
بالاكتشافات العلميه لنجد ان القران الكريم سبق هذه الاكتشافات بمئات السنين، يقول رب العزه في
كتابه المبين: ﴿حتى اذا اتوا على واد النمل قالت نمله يا ايها النمل ادخلوا مساكنكم
لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون﴾ [النمل: 18]، فالنمله في هذه الايه اوصلت خبر
الخطر في اربع مراحل متسلسلة.. وهي كالتالي:
1- ﴿قالت نمله يا ايها النمل﴾: وهذه العباره بمثابه اول صفاره انذار اطلقتها النمله لتثير
الانتباه العاجل لباقي النمل، وهنا باقي النمل يستقبل هذه الاشاره لينتبه الى باقي الاشارات التي
ستصدرها النملة.
2- ﴿ادخلوا مساكنكم﴾: هنا اتبعت النمله كلامها باشاره اخرى تامر فيها باقي النمل بما يجب
القيام به، وسنرى هذه العلاقه بما اثبته العلم في الشق الاخر للتحليل العلمي.
3- ﴿لا يحطمنكم سليمان وجنوده﴾: في هذه العباره قامت النمله بتوضيح سبب الخطر لرفيقاتها، وهذا
ما سنثبت ايضا علاقته مع ما ذكره التحليل العلمي.
4- ﴿وهم لا يشعرون﴾: النمل وكرده فعل لما سبق من انذارات سيحاول القيام بنوع من
الدفاع، وفي هده العباره الاخيره وضحت النمله لباقي رفيقاتها بانه لا ضروره للدخول في هجوم
مع هذا الخطر؛ لانه ليس نابعا عن عدو حقيقي هدفه الهجوم على المملكة، اذ ان
سليمان وجنوده لم يشعروا اصلا بوجود وادي النمل في طريقهم؛ لهذا فهو لا يعتبر عدوا
حقيقيا.
ونلاحظ ان هذه العباره الاخيره قامت فيها النمله بمنع باقي رفيقاتها من الدخول في حاله
مواجهه مع سيدنا سليمان عليه السلام، وهذا ما سنثبته عمليا من خلال التحليل العلمي للشفرات
الكيماويه الخاصه بتواصل النمل.
ها نحن وضحنا هنا تسلسل كلام النمله والذي ينقسم الى اربع مراحل من العبارات والاشارات.
فماذا يقول العلم في هذا الباب. يذكر العلم الحديث ان اهم وسيله لتواصل النمل في
مواقف الخطر والابلاغ على هذا الخطر هي طريقه التواصل الكيماوية، حيث يصدر النمل انواعا مختلفه
من هذه المواد كل ماده تعبر عن شفره خاصه من الكلام؛ بحيث اذا تبعنا تسلسل
اخراج هذه المواد من النمله التي بلغت عن الخطر سنجده بالضبط يوافق ما ذكرته النمل
في الايه رقم 18 من سوره النمل. فالمواد الكيماويه التي تستخرجها النمله من جسمها في
موقف كهذا تنقسم الى اربع مواد مختلفة، كل ماده تحمل معها لغه وشفره معينه من
الكلام.
المراحل التسلسليه لرد فعل النمل:
اول ماده تصدرها النمله اذا شعرت بوجود الخطر هي ماده (aldéhyde l’hexanal) وهذه الماده تعد
حقا بمثابه صفاره انذار، فالنمل عند استقباله لهذه الماده الاولى يقوم بالتمركز والانتباه لاستقبال باقي
الاشارات، وهذا ما يطابق تماما اول عباره نطقت بها النمله ﴿قالت نمله يا ايها النمل﴾،
والياء هنا اداه للتنبيه والنداء (يا ايها)!. ثم تقوم النمله باصدار الماده الكيماويه الثانيه وهي
ماده l’hexanol، فالنمل يجري في كل الاتجاهات بعد استقباله للماده الاولى لمعرفه مصدر الخبر، ولكي
لا يتوجه النمل بعيدا فيجب على النمله ان تحدد لهم الطريق الذي يسيرون فيه، وهذا
ما فعلته نمله سيدنا سليمان عندما قالت: ﴿ادخلوا مساكنكم﴾، وهذا توجيه من النمله لزملائها ان
يذهبوا باتجاه المساكن، اذن هي حددت لهم الطريق، وهذا ما يطابق توجيه حركه النمل.
والماده الثالثه الكيماويه التي تصدرها النمله هي ماده l’undécanone وهذه الماده دورها بالضبط توضيح سبب
الخطر لباقي النمل، وهو ما قامت به النمله في قولها في العباره الثالثه ﴿لا يحطمنكم
سليمان وجنوده﴾، وهذا يتطابق تماما مع ما ذكرته الايه على لسان النملة، وفي هذه المرحله
التي يستقبل فيها النمل هذه الماده يدخل في استعداد لمواجهه هذا الخطر.
وفي المرحله الرابعه تصدر النمله ماده كيماويه خاصه le butylocténal توجه بها باقي النمل الى
الدفاع والى نوع هذا الدفاع، ولهذا نجد النمله ذكرت في عبارتها الاخيره ﴿وهم لا يشعرون﴾،
وبهذا منعت النمله باقي النمل من الانتقال الى مرحله الهجوم التي تؤدي الى الموت(20).
ولذلك فقد تبسم سيدنا سليمان عليه السلام من عجيب مقالتها وحسن فطنتها وقوه تعبيرها.
والان نلخص ما ذكرناه:
l’hexanal ﴿قالت نمله يا ايها النمل﴾
l’hexanol ﴿ادخلوا مساكنكم﴾
l’undécanone ﴿لا يحطمنكم سليمان وجنوده﴾
Le butylocténal ﴿وهم لا يشعرون﴾
ولقد اشار القران ان النمل مخلوق اجتماعي يعيش في مستعمرات، وهو مخلوق متعاون متكاتف يشعر
كل فرد منه بشعور الاخرين، ويظهر ذلك في سلوك النمله وفي انذار قومها، ويعيش النمل
ضمن مستعمرات يقوم ببنائها، وقد تتجاور اعداد كبيره من المستعمرات مكونه مدينه او واديا للنمل
كما سمي ذلك في القران الكريم، ففي جبال بنسلفانيا احدى الولايات الامريكيه اكتشف احد العلماء
احد اكبر مدن النمل في العالم، وقد بني معظمها تحت الارض وتشغل مساحتها ثلاثين فدانا
حفرت فيها منازل النمل تتخللها الشوارع والمعابر والطرق، وكل نمله تعرف طريقها الى بيتها باحساس
غريب. ويمكن ان تصل اعماق مملكه النمل في بعض الانواع التي تعيش في غابات الامازون
الى (5 امتار) واتساعها 7 امتار تنشئ النملات فيها مئات الغرف والانفاق، ويحفر وينقل قرابه
(اربعين طن) من التراب الى الخارج، وهذه الهندسه المعماريه للمملكه معجزه من معجزات الخلق(21).
النمله تتحطم!
في زمن نزول القران الكريم لم يكن لاحد قدره على دراسه تركيب جسم النمله او
معرفه اي معلومات عنه، ولكن بعد دراسات كثيره تاكد العلماء ان للنمل هيكلا عظميا خارجيا
صلبا جدا يسمى exoskeleton ولذلك فان النمله لدى تعرضها لاي ضغط فانها تتحطم، ولذلك قال
تعالى على لسان النملة: ﴿لا يحطمنكم سليمان وجنوده﴾، وبالتالي فان كلمه ﴿يحطمنكم﴾ والتي تعني التكسر
دقيقه جدا من الناحيه العلمية(22).
وتشير دراسات جديده ايضا الى ان جسم النمل يتركب معظمه من كميه كبيره من السليكون
الذي يدخل في صناعه الزجاج، والتحطيم هو انسب الاوصاف للفعل الدال على التكسير والتهشيم والشدة(23).
ويقول احد العلماء جاءت العباره ﴿لا يحطمنكم﴾ هنا للدلاله على طبيعه جسم النمله المفصليه (Arthropods)
التي تحتاج الى تحطيم، حيث يتكون جسمها الخارجي من ماده صلبه كالزجاج هي الكيتين (Chitin)،
وهذه الماده تشابه في تركيبها الكيراتين ماده التكوين للقرون والحوافر والاظافر، كذلك اكتشف ان اعين
النمله ذات طبيعه بلوريه كالزجاج لا تنكسر بسهوله بل تحتاج الى تحطيم(24).
وجه الاعجاز:
بعد هذا السرد للمعاني البلاغيه للايه الكريمه فاننا نجد انفسنا امام نصوص قليله اللفظ ولكنها
محكمه السبك بديعه المعنى، وكل هذا يشهد بان القران الكريم اشتمل على بلاغه وفصاحه لا
يمكن ان يصل اليها البشر مجتمعين، فكان هذا احد وجوه الاعجاز الذي جاءت به الرساله
الخاتمة.
وتجلى لنا نحن وجه اخر من وجوه الاعجاز، وهو الاعجاز العلمي في هذه الايه الكريمة،
فقد اكتشف العلم الحديث ان للنمل لغه يتخاطب بها، وانه يستخدمها في التفاهم والتحذير، وهذا
عين ما دلت عليه الاية، وراينا كيف تدرج التحذير في الايه تدرجا يتطابق مع اللغه
التي يستخدمها النمل عند شعوره بالخطر، وكذلك كشفت الايه عن طبيعه جسم النملة، وانه جسم
يتحطم عند تعرضه للضغط. وكل هذه دلائل واضحه على اشتمال القران الكريم على حقائق علميه
سبق بها العلوم الحديثة، فاخبر عنها في وقت خلت فيه ابسط انواع الوسائل التي تمكن
من تلك الاكتشافات، فجاء سابقا لها بوقت طويل جدا. وهذه شواهد متعدده في ايه واحده
تشهد بان هذا القران نزل من عند الله تعالى، مشتملا على علمه سبحانه وتعالى، ليكون
شاهدا على الناس جميعا في كل زمان ومكان.