مقالات منوعة جديدة

بحث عن الحضارة الفارسية , الفرس وتاريخ امته العريقة وشرحه بالتفاصيل

بحث عن الحضارة الفارسية - الفرس وتاريخ امته العريقة وشرحه بالتفاصيل 8201517125529711

بحث عن الحضاره الفارسية

بحث عن الحضارة الفارسية - الفرس وتاريخ امته العريقة وشرحه بالتفاصيل 20160627 2071

مقدمة
الفرس امه متجذره في التاريخ، لهم في الحضاره الانسانيه اصاله يشهد لها تراثهم، وفي الحرب
درايه وخبره وفنون اثبتتها حروبهم مع العرب والروم والهياطلة، وهي حروب وصفت بانها “استولت على
عقول ملوك ال ساسان، فلم يستريحوا منها ولم يريحوا الشعب حتى ان الملك الواحد كان
يحارب الروم سنوات، ثم تعلن الهدنه ربما يستجمع قواه ويعد لها وقودا جديدة”(1).
اولا: تنظيم الدوله العسكري
كان الفرس في تاريخهم القديم “امه مسلحة” وشعبا محاربا، ولذلك تمكن الاشكانيون “نظرا الى تربيتهم
العسكريه من الاستيلاء على “بارتا”، ثم خلقوا بالغزو دوله ايرانيه جديدة”(2) اسموها “الدوله البرتية”.
ويبدو ان الامبراطوريه الفارسيه نظمت المجتمع الفارسي ليكون مجتمع حرب، فاعتمدت نظاما اسريا واقليميا يرتكز
على اربع وحدات “البيت (غانة) والقريه (ويس) والقبيله (زنتو) والاقليم(دهيو)”(3). كان رؤساء القرى يضطلعون بدور
اساسي في هذا التنظيم، “فهم كانوا كبار امراء الملك…، وكانوا ينشئون رعاياهم على الحرب”(4).
وخضع تركيب المجتمع الفارسي الى النظم الاقطاعيه والطبقيه لكي ياتي متوافقا مع النظم الحربيه للدولة.
ويشير تنسر الى تقسيم الهيكل الاجتماعي الذي كان سائدا ايام الساسانين “الى اعضاء اربعه منهم
الملك: العضو الاول هو اهل الدين (اثروان Athravan)، والعضو الثاني المقاتله (ارتشتاران Rathaestar) والعضو الثالث
الكتاب (دبيران) والعضو الرابع المهنه (الفلاحون (وستريوشان) والصناع (هو تخشان)(5)”.

بحث عن الحضارة الفارسية - الفرس وتاريخ امته العريقة وشرحه بالتفاصيل 20160627 2072
وظهرت في الدوله الساسانيه تقسيمات اجتماعيه اخرى منها ما اورده الجاحظ في كتابه “التاج” بقوله:
“جعل ازدشير الناس على اقسام اربعة، وحصر كل طبقه على قسمتها: فالاول الاساوره من ابناء
الملوك، والقسم الثاني النساك وسدنه بيوت النيران، والقسم الثالث الاطباء والكتاب والمنجمون، والقسم الرابع الزراع
والمهان واضرابهم”(6). ويقول المسعودي ان ازدشير رتب ندماءه في طبقات “وكان يرى ان ذلك من
السياسه ومما يرم عمود الرئاسة، فالاولى الاساوره وابناء الملوك، وكانت الطبقه الثانيه وجوه المرازبه وملوك
الكور المقيمين بباب ازدشير والاصبهبذيه ممن كانت له مملكه الكور في ايامه، واهل الطبقه الثالثه
المضحكون واهل البطاله واهل الهزل”(7).

بحث عن الحضارة الفارسية - الفرس وتاريخ امته العريقة وشرحه بالتفاصيل 20160627 2073
ومهما كانت تسميه الطبقات التي اعتمدت في فارس فان هذا التنظيم اوحى بالطبيعه الحربيه التي
بنيت عليها دوله الفرس. فالملك الذي كان يقف على راس هذه الطبقات، كان عسكريا بطبعه
وتربيته، ويقول كريستنسن “ان اكثر ملوك الساسانيين شغوفون بالحرب واشتركوا فعلا في اعمالها”(8). الا ان
الذي يثير الاستغراب هذا التضارب في اولويات تصنيف الطبقات، فكتاب “تنسر” يجعل المقاتله في الطبقه
الثانيه بعد اهل الدين، ويحصر تكوينها بالفرسان والرجاله برتبهم وموظفيهم كافة، اما الجاحظ فيجعل الاساوره
من ابناء الملوك في المقدمة. ومصطلح الاساوره يرد في كتاب كريستنسن في سياقين، الاول “ان
ضباط الجيش كانوا يسمون الاساورة”(9)،

بحث عن الحضارة الفارسية - الفرس وتاريخ امته العريقة وشرحه بالتفاصيل 20160627 2074

والثاني يحدده بسلاح الفرسان ويصفهم “بصفوه الجيش من الاساوره (الفرسان) المصفحين”(10). اما تنسر فيجعل في
الطبقه الرابعه من تقسيمه الزراع والرعاه والتجار واصحاب المهن، وهي طبقه ليست في وجهها الاخر
سوى “مصدر الرجال للحرب”(11)، الذين وصفهم كريستنسن بانهم “طبقه سيئه التكوين ومؤلفه من جند غير
اكفياء”(12).
وفيما تبدو صوره المجتمع الحربي الفارسي ظاهره في ترتيب طبقاته، ياخذ التقسيم الاداري لبلاد فارس
طابعا عسكريا واضحا باعتماده “نظام المرازبه الاربعة”. وفي هذا الاطار حفظ لنا تنسر تنظيم الدفاع
عن فارس بتطبيق “نظام الثغور” مستندا الى قول ازدشير: “لا يجوز ان يطلق لقب الملك
على احد من غير اهل بيتنا عدا اصحاب الثغور، وهي الان وناحيه المغرب وخوارزم وكابل”(13).
ويطلق المسعودي على حكام الثغور لقب “اصبهبذ” و”جعل الاصبهبذين اربعه “الاول بخراسان والثاني في المغرب،
والثالث ببلاد الجنوب، والرابع ببلاد الشمال، فهؤلاء هم اصحاب تدبير الملك، كل واحد منهم قد
افرد بتدبير جزء من اجزاء المملكة، وكل واحد منهم صاحب ربع، ولكل واحد من هؤلاء
مرزبان وهم خلفاء هؤلاء الاربعة”(14).
ويشير الطبري الى ان تنظيم الثغور الاربعه جرى زمن كسرى انوشروان حين الغى رتبه “ايران
– سباهبذ” بقوله: “وكان يلي الاصبهبذه – وهي الرياسه على الجنود – قبل ملكه رجل،
وكان اليه اصبهبذه البلاد، ففرق كسرى هذه الولايه والمرتبه بين اربعه اصبهبذين، منهم اصبهبذ المشرق
وهو خراسان وما والاها، واصبهبذ المغرب، واصبهبذ نيمروز، وهي بلاد اليمن، واصبهبذ اذربيجان وما والاها،
وهي بلاد الخزر وما والاها، لما راى في ذلك من النظام لملكه”(15).
وتحفظ كتب التاريخ، الى جانب الاصبهبذين، وجود مرازبه يحكمون الاقاليم ويقيمون فيها. ويشير كريستنسن الى
“ان معظم المرازبه كان يغلب فيهم الطابع الحربي على الطابع المدني، وفي اثناء الحرب كان
المرازبه يعملون قوادا في الجيش تحت رياسه الاصبهبذين”(16).
ثانيا: تنظيم الجيش الفارسي
نظم الاكاسره جيوشهم لتكون متناسبه مع اتساع امبراطوريتهم. كما حدد ملوك فارس عقيده جيوشهم فجعلوا
مهمتها الاساسيه المحافظه على ملكهم، فكانت اول خطوه لازدشير حربه للانتقال من ملوك الطوائف الى
الدوله الموحده التي اراد صورتها وفق قوله: “رد الملك الى اهله وجمعه لرئيس واحد وملك
واحد”(17). وتمثلت خطوه الساسانيين الثانية، بعد تحقيق وحدتهم، في انصرافهم الى وضع استراتيجيه لدولتهم مستمده
من تاريخهم، وحروبهم مع اليونان والروم… واصبحت سياسه الفرس منذ عهد ازدشير وخلفائه الاوائل متجهه
الى حمايه الحدود من الشرق والشمال والغرب والتي كانت على ما يبدو مهدده بصوره دائمه
بحيث وجهوا “عنايتهم كلها الى غزو الروم وقتالهم، ولن يستريح ملكهم ما لم ينتقم لدارا
من الاسكندريين”(18).
واهتم الفرس بتنظيم “جيش امبراطوري قوي”، وربطوا وجود دولتهم بقوته وتماسكه، فاغدقوا المال على اعداده
متبعين سياسه انوشروان: “الملك بالجند والجند بالمال”(19). وفي هذا الاطار كان جيش فارس يشمل الصنوف
كافه المتعارف عليها في ذلك العصر، فجعل تنسر المقاتله قسمين: “الفرسان والرجاله وهم يتفاوتون باعمالهم
ومراتبهم”. بينما يشير المسعودي الى تنظيم الجيش الفارسي في وصفه لاستعراض ابرويز لصفوف جيوشه بقوله
“وقد صفت له الجيوش والعدد والسلاح فيما صف له الف فيل، وقد احدقت به خمسون
الف فارس دون الرجالة”(20).
‌ا- فرقه الفرسان
عرف الفرس الفروسيه منذ القدم حتى اصبحت رمزا للبطولة، يفتخر تنسر بها في كتابه بقوله:
“ان الله تبارك ملكه جمع في الفرس فروسيه الترك وفطنه الهند وصناعه الروم”(21). ومن الطبيعي
ان يكون لسلاح الفرسان مكانه عاليه في المجتمع الفارسي حتى اصبح “لقب فارس (سوار) قيمه
اجتماعيه اعلى شانا”(22)، ولا عجب بذلك فقد جاء في “مروج الذهب” ان ازدشير جعل الطبقه
الاولى من خاصته من “الاساوره وابناء الملوك” كما لقب الاساوره في كتبه بانهم “حماه الحرب”(23).

وتشكل فرقه الفرسان الدارعين نخبه الجيش الفارسي وعماده، بحيث كانت ترتبط نظرا الى اهميتها بالملك
مباشره وعليها يرتكز سلطانه ونظامه. ويصف اربري هذه الفرقه بانها “طبقه الفرسان ذوي الاسلحه الثقيله
التي اصبحت من اهم الفرق الحربية، وكانت تتكون من النبلاء المتواضعين، وتعتمد على الملك مباشرة،
وبذلك لا يمكن لاحد الحكام الثائرين في الولايات ان يستخدمها ضد مولاه”(24).
ويحدثنا كريستنسن عن وجود “فرقه ثانيه من الفرسان المختارين تسمى “فرقه الخالدين، من عشره الاف
رجل، و”الفدائيين” وهي فرقه اخرى من الفرسان “تمتاز بالجراه وتتحدى الموت”(25). ولعلنا نقول ان هذه
الفرق كانت تشكل الوحدات الخاصه التي تقف قرب الملك وتنال ثقته.
وكانت الخياله الثقيله في الجيش الفارسي السلاح الحاسم في المعركة، ويشير ستروكوف في دراسته لموقعه
ماراتون (490 ق.م) الى “ان تفوق الفرس يكمن في خيالتهم القويه التي كانت جاهزه لشن
الضربات العنيفه على اجناب الترتيب القتالي اليوناني”(26). ويصف كريستنسن بقوله: “كان الايرانيون يلقون ضد الرومان
بافواج منظمه من الفرسان الدارعين في صفوف كثيفة، فكان بريق الدروع التي كانت تتبع اتجاه
الجيش يعكس هيبه تبهر الابصار”(27). ومن هذا المنظور، حافظ ملوك الفرس على وحدات الخياله وعززوها
واهتموا بتجهيزها، فكان كسرى “يتفقد الاساوره فمن لم يكن له منهم يسار قواه بالدواب والعده
واجرى لهم ما يقويهم”(28). ولقد اشار الطبري الى ان سلاح الفارس ايام كسرى “كان يتكون
من تجافيف، ودرع، وجوشن، وساقين، وسيف، ورمح، وترس، وطبرزين، وعمود، وجعبه فيها قوسان بوتريهما وثلاثين
نشابا ووترين يعلقهما الفارس في مغفر له ظهريا”(29).
وكانت وحدات الفرسان محط اهتمام ملوك الفرس وعنايتهم. فقد افادوا من خبرات اعدائهم الاغريق في
تدريبها على حد قول ايريك موريز: “ان الفرس تعلموا، وحوالى العام 400 ق.م، اسس المدرسه
الاغريقية. وطوعوا من شعب السيت خياله الاستطلاع”(30). اما قياده الفرسان فقد جعلها الاكاسره “من المناصب
العامه التي تورث بين افراد الاسر السبع، ورياسه الفرسان كانت واحده من ثلاث وظائف حربيه
وراثية”(31). ويذكر الطبري ان الخياله الفارسيه في معركه القادسيه “كانت في الصفوف الاولى، يليها، “الفيلة،
ثم المشاة”(32).
‌ب- فرقه الفيالة
تعتبر الفياله فرقه اساسيه في الجيوش الفارسيه وتشكل عمادا لنظامها العسكري، ويشير المسعودي الى انه
كان “في مربط ابرويز الف فيل. وقد صفت له الجيوش والسلاح، وفيما صف له الف
فيل”(33). ويبدو ان الاكاسره استقدموا الفيله من الهند التي كانت “تتخدها في بلادها، وليس فيها
وحشيه وانما هي حربية”(34)، وتمنوا كما جاء على لسان ابرويز “ليت ان الفيل لم يكن
هنديا وكان فارسيا”(35).
وتؤدي الفياله في حقل المعركه دور الدروع في معركه اليوم، ونجد مركزها في خطه عمليات
الفرس كما اوردها ستروكوف في وصف لموقعه كافكامل العام 331 ق.م بين الفرس ومقدونيا: “تمركزت
العربات والفياله امام الجبهة”(36)، بينما كانت تلي صفوف الفرسان في معركه القادسية، حيث “عبئ رستم
في القلب ثمانيه عشر فيلا، عليها الصناديق والرجال، وفي المجنبتين ثمانيه وسبعة، عليها الصناديق والرجال”(37).
وكانت مهمه هذه الافيال خرق صفوف العدو والالتفاف على قلبه لتذعر سلاح الفرسان كما اورد
الطبري: “وكانت حمله الفيله على الميمنه والميسره على الخيول، فكانت الخيول تحجم عنها وتحيد”(38).
‌ج- الرجاله (بايكان)
كانت فرق الرجاله او المشاه تتالف من الوحدات التي يجمعها اصحاب الاقطاعات والذين “الزموا رعاياهم
دفع الضرائب واداء الخدمه العسكريه تحت رياستهم…، وكانت هذه الفرق المكونه من الحراثين، سيئه التكوين
ومؤلفه من جند غير اكفياء”(39). والواقع ان هذه الصفات جعلت المهمات الموكله الى هذه الفرقه
في ساحات الحرب تتناسب مع قدرات عناصرها، فكانوا يسيرون في الصفوف التي تلي الفرسان والخياله
في مؤخره الجيش يهدمون الاسوار، ويخدمون الفرسان، ويحرسون الفياله على حد قول المسعودي: “كانت ملوك
الفرس توقي الفيله المقاتله بالرجاله حولها”(40).
‌د- فرقه الحرس الملكي
كانت هذ الفرقه تحيط الملك بهدف الدفاع عنه وحراسته، ويفيد كريستنسن “ان رئيسهم يتمتع باوسع
جاه في البلاط، وفي ايام كسرى كانت وظيفه “الهزاربد” رئيس الالف رجل ثم اصبح رئيسا
للحرس الملكي”(41). ويذكر ديورانت “ان هذه الفرقه كانت ام فرق الجيش وكانت مؤلفه من الفين
من الفوارس والفين من المشاه كلهم من الاشراف”(42).
ه- فرقه المرتزقة
نظمت المرتزقه في الجيش الفارسي في فرق اطلق عليها الفرق “الرديفة”، وكانت “تجند من جميع
الامم الخاضعه لسلطان الفرس، وكانت كل فرقه تتكلم بلغتها، وتقاتل باسلحتها وتتبع اساليبها الحربيه الخاصة”(43).
ويشير كريستنسن الى فرق رديفه “من السجستانيين، وفرق من الامم الجبليه المختلفه في القوقاز”(44). وورد
في “تاريخ الحضارات العام” انه “كان يردف الجيش الايراني وحدات من المرتزقه سوادهم من الارمن”(45).
وكان مما يلفت قيام ملوك ومرازبه الفرس بتجنيد المرتزقه اليونان نظرا “الى تفوق الجندي اليوناني
التقني. وقد كون بحاره شواطئ اسيا الصغرى الذين ينتمون الى عنصر يوناني بالاشتراك مع البحاره
الفينيقيين، رجال اسطول فارسي حسبوا له حسابا”(46). ومن الفرق التي اردفت بجيوش الفرس كما يقول
الطبري، كتيبتان جعلها ملك فارس مع ملك الحيره بحكم تحالفهما “دوسر، وهي لتنوخ والشهباء وهي
لفارس”(47). ويشير الالوسي الى ان هناك ثلاث كتائب اضافية، “الرهائن والصنائع والوضائع”(48).
ثالثا: المبادئ العسكريه التكتيكيه والادارية
نظم ملوك الفرس جيوشهم ووضعوا لها اسسا اداريه وحربيه فكانت محط اعجاب وتقدير اعدائهم ملوك
الروم وفق ما جاء في كتاب ملك الروم الى سابور بن ازدشير: “اما بعد، فقد
بلغني من سياستك لجندك وضبطك ما تحت يدك وسلامه اهل مملكتك بتدبير ما، احببت ان
اسلك فيه طريقتك واركب مناهجك”(49).
‌ا- الاعداد والتدريب العسكري
اهتمت دوله الفرس باعداد “جيشها الامبراطوري” لتنفيذ سياستها الحربيه من خلال تطبيق برنامج تربيه عسكريه
يشمل الفروسيه والرمي، ويبدا مع الاطفال منذ صغرهم. ويشير اربري الى مراحل هذه التنشئه بقوله
:”ان الابناء من سن الخامسه الى سن العشرين يتعلمون ثلاثه اشياء فقط” ركوب الخيل، والصيد
بالقوس وقول الحق. اما القتال في المعركه فكان يعد اسمى صفات الرجل وكان يليه في
الاهميه بناء اسره كبيره من الابناء، ثم ياتي بعد ذلك مثلهم الاعلى وهو تكوين الجندي
الباسل”(50).
والواقع ان مستويات التدريب في الجيش تتصل بتنوع الطبقات الاجتماعيه التي يتكون منها المجتمع الفارسي،
فبينما نجد تكوين الجندي يعتمد على تقاليد وعادات الاسر التي كانت تساهم في تكوين “الامه
المسلحة”، كان النبلاء الشبان “يلقنون فن الحرب قبل كل شيء”(51)، ويخضعون لبرامج يشرف عليها مؤدب
الاساورة” الذي “كان يعمل على تعليم ابناء المحاربين في المدن والرساتيق حمل السلاح وادابه”(52). ويحفظ
لنا الطبري مراحل تربيه “بهرام بن يزدجرد” لدى الملك العربي المنذر الذي “اتاه برهط من
فقهاء الفرس ومعلمي الرمي والفروسيه لياخذ عنهم كل ما ينبغي التدرب به”(53). ويشير كريستنسن الى
“وجود انديه السباق خارج المدن حيث كان المدربون يعنون بالخيل وحيث يجري سباق الخيل وتمرينات
الرمايه بالسهم”(54). ولقد بلغت مهاره الفرسان وقدراتهم الفنيه والتقنيه في الرمايه مستوى رفيعا جعلت اربري
يصفهم في حربهم مع الرومان بقوله: “كانوا يرسلون عليهم سهامهم المميته عن بعد، اما عن
مهارتهم في رمي السهم الى الوراء من فوق ظهر الجياد وهي تعدو بعيدا عن العدو،
فقد اكسبتنا هذه العباره -رميه بارتية-“(55).
‌ب- الجاسوسية
1- العيون
اتخذ ملوك فارس في حربهم وسلمهم، في داخل مملكتهم وعلى حدودها، عيونا لهم لتنسم الاخبار،
وجمع المعلومات لما في ذلك “من منفعه لخاصه انفسهم وعامه رعيتهم”. ولقد اسدى احد الحكماء
نصيحه لانوشروان، اعتبرت من “السياسات الملوكية”، تضمنت :”اذكاء العيون في الثغور ليعلم ما يتخوف منه،
فياخذ له اهبته قبل هجومه”(56).
2- الاسرى
افاد الفرس، في حروبهم واقتصادهم وعمرانهم من بعض الاسرى الذين قاموا ببناء المدن كمدينه اصطخر،
وانشاء السدود واستصلاح الاراضي في العراق وزرعها بمزروعات جديدة. ونظم ملوك الفرس اسراهم في وحدات
عسكريه اطلقوا عليها اسم “وحدات المرتزقة”، واستخدموها في حروبهم. كما افاد الفرس من معلومات اسراهم
عن بلادهم الام وبخاصه فنونهم العسكريه الى درجه “ان الفروق الاولى بين الفن الحربي عند
الايرانيين وعند الروم البيزنطيين قد زالت قليلا قليلا حتى صارت النظريات الحربيه عند الامتين واحده
تقريبا”(57).
3- الجواسيس
اتخذ الفرس الجواسيس كعناصر قتاليه لكشف خطط العدو ونواياه ومعرفه جواسيسه وعيونه، كما كلفوا معرفه
معارضي الدوله في الداخل وكشف مناوئيها. ويصف تنسر نظام التجسس الذي نظمه الفرس الساسانيون بقوله:
“ان الملك قد نصب على اهل المملكه الجواسيس والمنهين، وان الناس منهم في رعب وحيرة.
فاعلم انه لا خوف على الابرياء والمخلصين من هذا، فان عيون الملك والمنهين اليه لا
يعينون الا اذا كانوا من الصالحين الاتقياء الامناء العلماء المتدينين الزاهدين، ليصدر ما يعرضون على
الملك عن ثبت ويقين”(58). ويبدو ان نظام الجاسوسيه كان ثقيلا ومخيفا فجاءت تطمينات الدوله بان
المكلفين هذه المهمه من ذوي الامانه والضمير الحي، يكتبون عن الناس بالحق، وقد عبر عن
ذلك تنسر بقوله: “يجب ان يتنبه الملك فلا يستمع لمن لا يعتمد عليه ولا يوثق
به”(59).
واهتم ملوك الفرس بجمع المعلومات عن اداراتهم وشرائح شعبهم في مختلف انحاء فارس، “فكانت الحكومه
المركزيه ترسل المراقبين يراقبون الادارات المحلية، وقد دعي هؤلاء عيون الملك واذانه(60). فكان المراقبون ينظمون
التقارير عن مشاهداتهم، ويرفعونها الى الاداره المركزيه لدراستها.
وطال نشاط جواسيس الفرس بلاد الروم فقد استفاد الاكاسره من نصارى ايران ونجحوا في اطلاق
بعضهم الى داخل بلاد الروم وجمع المعلومات عنها، وينقل كريستنسن “ان عيشوييه، الذي عين جاثليقا
برضى الملك، كان مقربا جدا عنده وكان يؤدي اليه خدمات طيبه اذ يوقفه على حركات
البيزنطيين”(61). وبالمقابل يبدو ان الروم استفادوا كثيرا من النصارى المنتشرين في فارس الى حد جعل
هرمز ملك الفرس يقول: “لا قوام لملكنا ولا ثبات له، مع استفسادنا من بلادنا من
النصارى واهل سائر الملل المخالفه لنا”(62).
‌ج- الاستطلاع
قام الفرس بعمليات الاستطلاع والاستعلام، وارسلوا السرايا الاستطلاعية، ليس بهدف القتال فحسب، وانما بهدف جمع
اخبار العدو ومعرفه ما عزم عليه. وكانت مهمه الاستطلاع توكل الى مقدمه الجيش وطلائعه، وفي
هذا السياق يشير الطبري في روايته لمعركه القادسيه الى ان رستم قائد الفرس “امر الجالنوس
قائد مقدمته بالتقدم الى الحيرة، وامره ان يصيب له رجلا من العرب. فخرج هو والازاذمرد
سريه في مئه حتى انتهيا الى القادسية، فاصابا رجلا… فاختطفاه(63).
وكان القائد الفارسي يقوم بمهمه الاستطلاع بنفسه في احيان كثيرة، ويذكر الطبري ان سابور في
لقائه بجيش الروم بقياده لليانوس قرر استطلاع مقدمه لليانوس بنفسه بعد “ان اختلفت اقاويل العيون
في ما اتوه من الاخبار عن لليانوس وجنده، فتنكر سابور وسار مع ناس من ثقاته
ليعاين عسكرهم فوجه رهطا ممن كان معه ليتحسسوا الاخبار وياتوه بها على حقيقتها”(64).
‌د- نظام الدفاع عند الفرس
1- نظام الثغور
قسم الفرس بلادهم اداريا وفق مباديء تخدم نظامهم الحربي. وفي هذا الاطار يشير المسعودي الى
توزيع مسؤوليه الاداره “وتدبير الملك” بين اربعه اصبهبذين “الاول بخراسان والثاني بالغرب والثالث ببلاد الجنوب
والرابع ببلاد الشمال”(65). ومما لا شك فيه ان الطابع الجغرافي لتقسيمات المسعودي اوجد في كتاب
تنسر ما يفسره من الناحيه العسكريه حين يذكر صراحه اهميه الثغور التي تعيش اشتباكات دائمه
مع الاعداء ويحددها “الان وناحيه المغرب وخوارزم وكابل”(66) كما يشير الى رفعه مكانه اصحابها ومكافاتهم
بمنحهم لقب ملك.
2- نظام النقاط الحصينة
اهتم الفرس باقامه الحصون، وبناء القلاع، وترتيب المقاتله في الثغور، وفق خطه مدروسه تؤمن لهم
الدفاع عن الحدود ورد العدو في حال اجتياحه البلاد.
وتشير المصادر التاريخيه الى ان شبكه من القلاع والحصون كانت تلف حدود فارس، “وكان كل
واحد بينه وبلد العدو درب وعقبة”(67). ومن الحصون القوية، تحصينات “دربند اجل موانيء بحر قزوين”(68).
ويصف قدامة، سور دربند واهميته العسكريه بقوله :”واقام انوشروان لبناء الحائط فبناه وجعله من قبل
البحر… الى ان الحقه بالجبال. فلما فرغ من بنائه علق على المدخل ابواب حديد ووكل
بها مئه فارس يحرسون الموضع بعد ان كان محتاجا الى خمسين الفا من الجند وجعل
عليه دبابة”(69). ويشير قدامه الى حصن قزوين ويسمى بالفارسيه كشوين. و”بينه والديلم جبل ولم تزل
فيه للفرس مقاتله من الاسواريه يرابطون فيه ويدفعون الديلم(70)”.
واقام الفرس حصونا في البحرين، ويذكر الطبري في هذا السياق “المشقر وهو حصن حياله حصن
يقال له الصفا، وكان الذي بني المشقر رجلا من اساوره كسرى”(71).
وكان ملوك الفرس يشحنون هذه الحصون بالمقاتلة، فانتشرت الحاميات العسكريه في هذه النقاط الحصينه من
الحدود. ويبدو ان نظام خدمتهم كان قاسيا لارتباطه بحاله الحرب والتوترات الدائمه مع الدول المجاوره
لفارس ما ابعدهم عن عائلاتهم مده طويلة، وهذا ما خلق حركات تململ واضطراب في صفوفهم
اضرت بالجيش وتماسكه، وعبر عن هذه الحاله الملك ابرويز في رسالته القاسيه الى ابيه كسرى
التي تضمنت مضبطه اتهام له شملت اساءته في تدبيره الملك ومنها “تجميره من جمر في
ثغور الروم وغيرهم من الجنود، وتفريقه بينهم وبين عائلاتهم”(72).
3- نظام الدوله الجاهزة
يتفق المؤرخون العرب على قيام اماره عربية، في الحيره وراء نهر الفرات، تبعت نهائيا للدوله
الساسانيه بعد فتره عداء عنيف لقبائل العرب في عهد ملك الفرس “سابور ذي الاكتاف” الذي
“افشى فيهم القتل وسفك فيهم من الدماء سفكا”(73). وانتهز العرب فرصه للانتقام منه، بمسانده ملك
الروم عليه، “فاجتمع في عسكر لليانوس من العرب مائه الف وسبعون الف مقاتل”(74).
ويبدو ان قوه العرب العسكريه كانت حاجه لدوله الفرس وعنصرا اساسيا في تنظيم خططهم الدفاعية،
فراى ملوكهم استثمارها لمصلحتهم بحيث تصبح “حصن الملك حيال العرب الرحل”(75). وقد اسدت هذه الاماره
خدمات عسكريه للفرس في حروبهم مع الروم، فكانت كتائبها “الدوسر” و”الشهباء” و”الوضائع” و”الصنائع” “والرهائن” تعمل
ضمن سياسه الفرس الحربية، واستغل امير الحيره هذه السياسه “فكان يغزو بها بلاد الشام ومن
لم يدن له من العرب”(76). ولعل ما يشير الى اهميه هذه الاماره العسكريه في سياسه
الفرس الحربية، ان الاكاسره حافظوا لامراء الحيره على لقب ملك اسوه باصحاب الثغور وحكام ولايات
اطراف الدوله وفق ما جاء في كتاب تنسر: “وكل من يجيء الينا مقدما فروض الطاعه
لن نخلع عنه لقب ملك ما دام يمضي مستقيما على طريق الخضوع”(77).
‌ه- نظام حصار الحصون
عرف الفرس فن حصار الحصون وفتحها، وينقل ابن قتيبه عن كتابهم المعروف “بالايين”، ان اول
مبادئ الحصار كان القيام بعمل استخباراتي مرفقا بحرب نفسيه “لاستماله من يقدر على استمالته من
اهل الحصن ليظفر منهم بخصلتين احداهما استنباط اسرارهم والاخرى اخافتهم وافزاعهم بهم، وان يدس بينهم
من يصغر شانهم ويويئسهم من المدد”(78). واستخدم الاكاسره في عمليه الحصار جميع صنوف المقاتلين ووسائل
الحصار، وينقل كريستنسن وصفا حيا لحصار امد وسقوطها بيد الفرس فيقول: حوصرت المدينه بخمسه صفوف
من الجند الدارعين،… وانتشر الفرسان ذوو الدروع وكان مع هؤلاء صفوف من الفيلة”(79). واستخدم الفرس
وسائل هندسيه خاصه للحصار منها “سلالم لتسلق الاسوار ومواضع ينصب المنجنيق عليها ومواضع تهيا العرادات
لها ومواضع تنقب نقبا”(80).
‌و- اداره المعركة
1- الحشد
طبق الفرس مبدا الحشد في حروبهم بحيث كانت الوسائل والقوى متناسبه مع اهداف القتال. ويذكر
الطبري في مواضع مختلفه من تاريخه ارقاما لاعداد جيوش الفرس التي اعدت لهذه الحروب، يشك
الباحث بصحتها بسبب المبالغه بها، منها قوله: “ان الملك ازدشير بهمن “غزا الروميه في الف
الف مقاتل”(81). بينما يذكر اعداد جيش الفرس بقياده رستم الذي واجه العرب في القادسية: “ان
اهل فارس كانوا عشرين ومائه الف، معهم ثلاثون فيلا”(82).
وعرف الفرس ايضا “النفير العام” في مملكتهم، ولعل هذا النفير كان يطلق عندما كانت تتعرض
مملكتهم لاخطار دول الجوار مثل الترك والروم والعرب. وكان يشمل الاستنفار قوى فارس وولايات الاطراف.
ويذكر الطبري ان سابور “ذا الاكتاف” لما استشعر خطوره الروم باحتلالهم طيسبون “كتب الى من
في الافاق من جنوده يعلمهم الذي لقي من لليانوس ومن معه من العرب، ويامر من
كان فيهم من القواد، ان يقدموا عليه في من قبلهم من جنوده، فلم يلبث ان
اجتمعت اليه الجنود من كل افق”(83).
2- نظام الخميس والكراديس
اعتمد الفرس في حروبهم نظام الخميس والكراديس، فقد ذكر الطبري ان قائدهم رستم رتب جيشه
يوم القادسيه “مقدمه وطلائع ومجنبتين ومجرده ورجالة”(84). وكانت اقسام هذا الجيش تتالف من كراديس وصف
مشهدها الطبري بقوله “وتكتبت الكتائب من هؤلاء وهؤلاء”(85)، اقسام هذا الجيش ونظم كل كردوس في
صفوف متنوعه فوقفت الخياله في الصفوف الاولى يليها الفيله ثم المشاة.
3- تكتيك الصدم
استخدم الفرس تكتيك الصدم قديما في القرن السادس قبل الميلاد، ويذكر ايريل اموريز ذلك بقوله:
“حاول الفرس انشاء تكتيك حقيقي للصدمه بان وضعوا في صفوف القتال عربات مسلحه بالمناجل الطويلة،
كما استخدموا الهجانه المسلحة”(86) لخرق صفوف العدو وترهيب خيولهم.
وشكل سلاح الفياله في ما بعد دروع جيش فارس في مختلف اقسامه. وكان هذا السلاح
حاسما في المعركه وقادرا على احداث عنصر الصدم الذي وصفه الطبري في عرضه لمعركه القادسيه
بقوله: “لما تكتبت الكتائب بعد الطراد، حمل اصحاب الفيله عليهم، ففرقت بين الكتائب، فابذعرت الخيل”(87).

4- مقر القيادة
كان قائد الجيش ملكا او من يكلفه بالقيادة، يجلس على سرير يوضع في قلب الجيش
في مكان مناسب، وقد اشار ابن قتيبه الى ذلك بقوله: “وان يرتاد للقلب مكانا مشرفا
ويلتمس وضعه فيه”(88). ويضيف كريستنسن انه “كان يلتف حول هذا العرش فرقه من الجند كان
عليها ان تدافع عنه حتى الموت”(89).
5- الكمين
اعتمد الفرس في القتال نظام الكمائن، ويذكر ابن قتيبه في عيون الاخبار انه قرا في
“الايين” وهو كتاب من كتب الفرس، مبادئ الكمين الناجح ويلخصها بما ياتي: “ان ينتخب للكمين
من الجند اهل جراة… وليس بهم انين ولا سعال، ويختار لهم من الدواب مالا يصهل…
ويختار لكمونهم مواضع لا تغشى… وان يكون ايقاعهم كضريم الحريق…”(90).
6- البيات
هو عمل يهدف الى الايقاع بالعدو ليلا، ويشرح ابن قتيبه ما دونه الفرس في كتاب
الايين تفاصيل عمليه البيات فيقول: “ينبغي للمبيتين ان يفترصوا البيات اذا هبت ريح… فانه اجدر
الا يسمع لهم حس. وان يتوخى بالوقعه نصف الليل. وان يصير جماعه من الجند وسط
عسكر العدو وحوله… وليعلم انما يحتاج في البيات الى تحيير العدو واخافته…”(91). ويشير الطبري الى
عمليه بيات ناجحه نفذها بهرام ملك الفرس في بلاد الترك لقتل خاقان بقوله: “فسار الى
خاق بهرام في العده الذين كانوا معه، فبيته وقتل خاقان بيده”(92).
7- الاعمال الهندسية
عرف الفرس عمليات الدعم الهندسي في حروبهم، وتنوعت اشكالها في عمليات الدفاع والهجوم كافة. ومن
انواع هذا الدعم، عمليات التجسير التي نفذت لتسهيل عبور الموانع المائيه على جسور عائمه على
قوارب وفق ما نقل كريستنسن بان “الجيش الايراني كان يعبر الزاب على جسر من القوارب”(93).
ويذكر الطبري ان كسرى انوشروان “امر باعاده كل جسر قطع او قنطره كسرت”(94)، في اشاره
الى ان الجسور كانت خشبيه وحجرية. ويصف الطبري عمليه تجسير ميدانيه نفذت في اثناء عمليات
القتال يوم القادسيه بقوله :”اراد رستم العبور، امر بسكر العتيق بحيال فارس… فباتوا ليلتهم حتى
الصباح يسكرون العتيق بالتراب والقصب والبراذع حتى جعلوه طريقا”(95).
ومن الاعمال الهندسيه المعروفه لدى فارس “الخنادق”، ويشير الطبري الى ذلك ما قاله في وصفه
لوقعه جلولاء عن تخندق الفرس :”فاحتفروا الخندق… خندقوا وتحصنوا في خندقهم”(96). واستخدم الفرس طريقه جديده
لحمايتهم “باستخدام قنافذ حديديه مربعه الرؤوس تلقى على الارض لتجرح حوافر الجياد”(97). والواقع ان الفرس
اتقنوا استخدام هذه “القنافذ”، وزرعوها في حقول منظمة، “واحاطوا بخندقهم الحسك من الخشب الا طرقهم…
ورموا حوله حسك الحديد لكي لا يقدم عليهم الخيل”(98).
واستعمل الاكاسره الموانع الطبيعيه لعرقله تقدم العدو ووقف مسيره فقد كانوا “يفتحون السدود في الاراضي
التي يخصبها الري، فيغرق الوادي ويوقف تقدم العدو”(99).
ويبدو انه كان في جيوش الفرس وحدات متخصصه لتقديم هذا الاسناد الهندسي، استعملها الاكاسره في
بناء الحصون والقلاع والجسور. ويذكر الطبري وحده الفعله التي كلفها كسرى بناء حصن المشقر بقياده
احد اساورته حين نصحه: ان هؤلاء الفعله لا يقيمون بهذا الموضوع الا ان تكون معهم
نساء فان فعلت ذلك تم بناؤك”(100).
رابعا: التعبئه النفسيه والتوجيه المعنوي
تعتبر التعبئه النفسيه والتوجيه المعنوي اهم عوامل النصر في الحرب. ومن هذا المنطلق عمل ازدشير
على اقامه نظام حربي يجعل من المحاربين طبقه مقربه منه، واقدم على تحريض الامه بشحنه
انفعال “لاحياء الامبراطوريه الشرقيه التي قضى عليها الاسكندر”(101)، وحمايه حدودها في الشمال والغرب والشرق.
والواقع ان ملوك فارس، كما يقول تنسر، “ميزوا رجال الجيش لان وظيفتهم القتال، وجعلوهم اعلى
درجه من باقي الجماعات، كما الزموا المهنه ان يؤدوا لرجاله التحيه وان يسجدوا لهم”(102). واتخذ
الاكاسره تدبيرا استثنائيا في ادارتهم قضى بخلع لقب “ملك” على اصحاب المقاطعات التي كانت في
موقع اشتباك دائم مع العدو لتمييزهم عن باقي المرازبة، ومكافاه لهم لدفاعهم عن دولتهم، كما
هي حال اصحاب الثغور الاربعه وملوك الحيره وفق ما جاء في كتاب تنسر: “لا يجوز
ان يطلق لقب الملك على احد من غير اهل بيتنا عدا اصحاب الثغور”(103).
وكان كبار القاده في الجيش احد ركائز تكوين السلطه السياسيه في فارس، فقد اعطى القانون
حق انتخاب الملك لرؤساء رجال الدين والجيش والكتاب. وكان يجري الانتخاب “بان الملك كان يكتب
ثلاث نسخ بخطه ويسلم كل واحده منها الى رجل امين يعتمد عليه، يعطي الاولى الى
رئيس الموابذه والثانيه لرئيس الكتاب والثالثه الى كبير الاصبهبذين”(104).
ويبدو ان الاكاسره كانوا واثقين من جيشهم، وبخاصه سلاح الفرسان والاساوره الذين تلقوا تربيتهم العسكريه
منذ الصغر، ويبلغ مدى الثقه بقوتهم وولائهم وكفاءتهم وارتفاع معنوياتهم حين يعدل كسرى “قائدا من
اساورته، يقال له وهرز، بالف اسوار”(105)، او حين يدون تنسر “بان الف رجل منا يغلبون
عشرين الفا من الاعداء ايا كانوا”(106).
وكانت معنويات الجيش المرتفعه ترتبط بالنظم والشرائع الفارسيه التي سنت لتتناسب مع سياسه الدوله الحربية،
فنجد ان القانون “يبيح تعدد الزوجات ذلك ان المجتمعات الحربيه في حاجه ماسه الى كثره
الابناء، فالذكور منهم ذوو فائده اقتصاديه لابائهم وحربيه لملوكهم”(107). والواقع ان هذه السياسه الاجتماعيه ساهمت
في تكوين المجتمع الحربي في فارس، فهي تبدا بتنظيم قواعد الانجاب وتعليم اولاد الطبقات غير
الموسره على ركوب الخيل والرمي بالقوس، ثم اتمام التدريب في المدارس العليا على “الجري مسافات
طويلة، وركوب الخيل الجامحة، وتحمل جميع تقلبات الجو القاسية، والعيش على الطعام الخشن، السباحة، وعبور
الانهار من دون ان تبتل ملابسهم ودروعهم”(108).
ومن هذا المنطلق تمت تنشئه مجتمع فارسي يعتز بنفسه، ويتعلق بوطنه بقيم وفضائل ومناقبيه سجلها
ديورانت مقارنه مع اليونان: “ان من العسير علينا ان نجد في تاريخهم فارسيا قد استؤجر
ليحارب الفرس، على حين ان اي انسان كان يسعه ان يستاجر اليوناني ليحاربوا اليونان”(109).
خامسا: معامله الاسرى
تضاربت الاخبار حول القواعد التي اتبعها ملوك الفرس وقادتهم تجاه الاسرى الذين وقعوا بين ايديهم
في حروبهم مع الاعداء، فكانت تعتمد احيانا النظره الانسانيه ومروءه الفروسية، وتبلغ احيانا اخرى حدود
القسوه والعنف والقتل والابادة.
وفي هذا السياق يحرص تنسر على اعطائنا الصوره الراقيه والانسانيه لسلوك ملوك الفرس في حروبهم
فيقول: “لم ينسب قط لملوكنا القتل والغاره والغدر وسوء الخلق، والكفر بالدين، فاذا خالف هذا
ملكان او قاما لحمايه الدين، فقطعا دابر اصحاب الفساد بالغاره والقتل، فانهما لم يجيزا استعباد
السبايا ولم يتخذاهم ارقاء بل عمرا بهم المدن”(110).
لقد افاد الفرس من الاسرى كطاقه منتجه في الدوله بتوظيف خبراتهم الهندسيه في البناء، ويشير
الطبري الى ان “خماني” امراه دارا “حين اغزت بلاد الروم سبي لها منها بشر كثير
وحملوا الى بلادها، فامرت من فيهم من بنائي الروم، فبنوا لها في كل موضع من
حيز مدينه اصطخر بنيانا على بناء الروم منيفا معجبا…”(111). واشار الطبري ايضا الى ان سابور
“حاصر ملكا كان بالروم، يقال له اليانوس بمدينه انطاكية، فاسره وحمله وجماعه كثيره معه واسكنهم
جندي سابور. وذكر انه اخذ اليانوس ببناء شاذروان تستر، على ان يجعل عرضه الف ذراع،
فبناه الرومي بقوم اشخصهم اليه من الروم”(112).
وافاد الفرس من اسرى الحرب في استصلاح الاراضي وزرع البور منها او الاراضي التي اخربها
الاعداء، ويشير الطبري الى ان سابور “اسر قيصرا من الروم وابقى عليه من افلت من
رجاله، فغرس قيصر بالعراق الزيتون بدلا مما عقره من نخل العراق ولم يكن يعهد بالعراق
الزيتون قبل ذلك”(113). ويضيف الطبري “انه اخذ قيصر بنقل التراب من ارض الروم الى المدائن
وجندي سابور حتى يرم به ما هدم منها”.
اعتمدت دوله الفرس سياسه جديده في التعاطي مع الاسرى نظرا الى ازدياد عددهم وحاجه الدوله
الى كفاءاتهم في المجالات الزراعيه والصناعيه والحربية. وفي هذا الاطار انشا الاكاسره قرى و”مستعمرات” تنقل
اليها الامم واهل البلاد المهزومه ويتم تنظيمها في وحدات عسكريه يستعملها الفرس في حروبهم. ويشير
المسعودي الى ان سابور “غزا بلاد الجزيره وامد وغيرها من بلاد الروم، فنقل خلقا من
اهلها واسكنهم بلاد السوس وتستر وغيرها من كور الاهواز فتناسلوا وقطنوا تلك الديار، فمن ذلك
الوقت صار الديباج التستري من انواع الحرير يعمل بتستر والخز بالسوس…”(114). ويضيف الطبري: “ان كسرى
اعظم القتل في امه يقال لها البارز واجلى بقيتهم عن بلادهم، واسكنهم مواضع من بلاد
مملكته، واذعنوا له بالعبوديه واستعان بهم في حروبه. وامر فاسرت امه اخرى يقال لها صول…
وامر بهم فقتلوا، ما خلا ثمانين رجلا من كماتهم واستحياهم وامر بانزالهم شهرام فيروز يستعين
بهم في حروبه. وان امه يقال لها ابخز، وامه يقال لها بنجر، وامه يقال لها
بلنجر، وامه يقال لها الان تمالئوا على غزو بلاده، وجه اليهم جنودا فقاتلوهم واصطلموهم ما
خلا عشره الاف منهم اسروا، فاسكنوا اذربيجان وما والاها…”(115).
سادسا: المراسم العسكرية
اتبعت فارس، كما هو الحال في الجيوش، نظما للمراسم العسكرية، ووضعت قواعد لتكريم الملوك ومكافاه
القاده الابطال ومعاقبه المنهزمين منهم. وقد خلدت هذه الاحتفالات في النقوش التي عثر عليها واهمها
“النقوش الساسانيه في كردستان شمال قصر شيرين (نقش بايكولي) ومجموعه من الكتابات القصيره في دربند”(116).

وتحفظ المصادر التاريخيه اخبار موكب الملك في اثناء تحركه من قصره بمهابه وجلال وقوة، وفي
هذا الاطار يصف الجاحظ عده الملك في خروجه لسفر او نزهه بقوله: “من حق الملك،
اذا خرج لسفر او نزهه ان لا يفارقه… قيود للعصاة، وسلاح لاعداء وحماه يكونون من
ورائه وبين يديه…”(117). ويتوسع كريستنسن في وصفه لموكب الملك البرتي بقوله: “اذا سار الى الريف
تبعه الف جمل تحمل امتعته، ومائتا عربه تحمل سراريه، ،الف فارس عليهم الدروع وعدد عظيم
من الجند بسلاحهم، انه يبدو على راس فرقته يوم المعركه حسن الوجه مديد القامة،… وكان
الملك اذا ذهب الى الصيد احاط به جماعه كبيره من حمله الحراب ومن الحرس”(118). ويصف
الطبري ايضا في موضع اخر مشهدا للمراسم التي تقدم للملك في استعراضه لحرسه بقوله: “وكان
من السنه اذا ركب الملك، ان يقف له حرسه سماطين، عليهم الدروع والبيض والترسه والسيوف
وبايديهم الرماح، فاذا حاذى بهم وضع كل منهم ترسه على قربوس سرجه، ثم وضع جبهته
عليه كهيئه السجود”(119).
وكانت عروض الجيش العسكريه تقام بمناسبات عديده ومنها الاعياد، ويشير المسعودي الى عرض اقيم لابرويز
في بعض الاعياد “وقد صفت له الجيوش والعدد والسلاح، فيما صف له الف فيل، وقد
احدق به خمسون الف فارس دون الرجالة، فلما ابصرت به الفيله سجدت له فما رفعت
رؤوسها وبسطها لخراطيمها حتى جذبت بالمحاجن”(120). وفي هذا السياق يستنتج الباحث ضخامه هذا العرض واهميته
حيث بلغت الاعداد خمسين الف فارس عدا الرجالة، بينما صف الف فيل، كما يلفت حسن
التنظيم والتدريب حين نجد الفرسان تحدق بالملك والفيله تسجد له.
وكان ملوك الفرس يستعرضون جيوشهم قبل مسيرهم للحرب لاثاره الحميه والتحريض للقتال، ويشير الطبري الى
ان اسفنديار ابن ملك الفرس بشتاسب “تولى عرض الجند وتمييزهم… ثم سار بهم نحو عساكر
الترك”(121).
ومن الاهميه بمكان الاشاره الى استعراض الاكاسره للوحدات المميزه التي يتكل عليها في المهمات الصعبة،
ويشير كريستنسن “انه كان للفرسان الارمن الذين يحاربون تحت الرايه الايرانيه موضع رعايه خاصة. وكانوا
حين يدخلون المدائن…. يستعرض الملك فرقهم”(122).
سابعا: المكافات والعقوبات
اعتمدت فارس في اداره جيوشها نظما عسكريه تكافئ المجلي الذي يساهم في صنع امجاد الدولة،
وتكرم الرجال الكبار وترفع مراتبهم، كما تعاقب المسيء وتخفض درجاته. ويشير الجاحظ في “كتاب التاج”
الى نظام منح المكافات للذين يقدمون لفارس بطولات واعمالا جليلة، ومن مظاهر ذلك تشريفهم بخلع
ملكيه فاخره لان “من اخلاق الملك ان يخلع على من ادخل عليه سرورا في توكيد
ملكه،… ومن العدل ان يكون معها جائزه وصله وترتيب، او ولايه او اقطاع او اجراء
ارزاق او فك اسير…”(123). ووفق هذا النظام “تسلم القائد الارمني مانويل من الملك سابور الثاني
تشريفا خاصا خلعه ملكيه وفراء من السنور…”(124).
وكان من علامات تمييز القاده منحهم الالقاب وترفيع رتبهم مكافاه لاعمالهم الباهرة. ويشير الطبري الى
مكانه “مهرنرسي” لدى الملك حين اغزاه بلاد الروم بمهمه “لم يكن يقوم بمثلها الا مهرنرسي…
الذي كان معظما عند جميع ملوك فارس… وكان لمهرنرسي ولد اسمه كارد صاحب الجيش الاعظم،
واسم مرتبته بالفراسيه (اسطران سلار) وهي مرتبه فوق الاصبهبذ”(125).
وكان ملوك الفرس يمنحون مكافات للفرق المحاربه بعد الظفر تقديرا لتضحياتها وتشجيعا لها. ويروى ان
ابرويز كافا فرقه روميه تابعه “لموريق ملك الروم” بعثها لنصرته “بان فرق في جنود الروم
عشرين الف الف وصرفهم الى موريق”(126).
وكان من مزايا التكريم زياره ملوك الفرس رجالهم وتشريفهم، واعتبر الجاحظ هدف الزياره من اخلاق
الملوك “لمن خص بالتكرمه منهم واثروه المنزله ورفع المرتبة، فقل ملك ساله وزيره او صاحب
جيشه او احد عظمائه زيارته الا اجابه الى ذلك، لا سيما اذا علم ان غرضه
في ذلك الزياده في المرتبه والتنويه بالذكر. واما زياره التعظيم فانها لا تقع بسؤال ولا
باراده المزور، وهي افضل درجات الاشراف”(127).
ولكن زيارات الملوك لرجالهم لم تكن فحسب من باب التشريف والتعظيم والتكرمة، فقد كانت ترتدي
صوره تفقد انحاء فارس وفرق الجيوش والاساوره “فمن لم يكن له من يسار قواه بالدواب
والعدة، واجرى لهم ما يقويهم”(128). وكانت ترافق هذه الزيارات اجراءات تعظيم وتكريم للملك ولمن يزورون،
فكانت “توغر ضياعه وتوسم خيله… وياتيه خليفه صاحب الشرطه في كل يوم مع ثلاثمائه راكب
ومئه راجل، فان ركب كانت الرجاله مشاه امامه والركبان خلفه”(129).
وكانت الاحتفالات العامه بمناسبه انتصار الجيوش قيمه معنويه يستحقها الملك وخاصته ومكافاه لفرق الجيش وقادتها.
فاذا ما اتى الملك خبرا بالنصر والظفر، “امر ان يتخذ له طعام… وامر الخاصه والعامه
بالحضور، وقامت الخطباء اولا بالتهنئه له والتحميد لله تعالى بالفتح عليه والنصر له. ثم قام
الموبذ فتكلم، ثم الوزراء، ثم مد الناس ايديهم الى الاطعمه …”(130).
وتبلغ نشوه انتصار الجيوش وعظمه مناسبتها، ان يخلد ملوك الفرس صور حروبهم وثمره ظفرهم في
لوحات تمثل حفله استسلام القاده الرومان في استعراض استوحى كريستنسن تفاصيله “من نقش بغرب مدينه
سابور يمثل انتصار ملك ايران، ويبدو سابور ممتطيا جوادا… وامامه الامبراطور راكعا، وعلى اليمين واليسار
وقف الفرسان والمشاه الايرانيون في صفين متقابلين وهم يمثلون الفرق الحربيه لمختلف الشعوب باسلحتهم المتفاوتة”(131).

وبالمقابل، لم تغفل النظم الايرانيه التي شرعت لمنح المكافات للقاده والفرق العسكرية، ان تسن القوانين
لمعاقبه الخائن او الفاشل والمهزوم منهم. وكان للملوك الساسانيين شغف بالعدالة، كما يقول ازدشير: “يجب
على الملك ان يكون فائض العدل فان في العدل جماع الخير وهو الحصن الحصين من
زوال الملك”(132). ومن هذا المنطلق اهتم الاكاسره بتنظيم القضاء واشترطوا على من يكون في منصب
القاضي الاحاطه بعلوم المعرفه بالعلم والدين والشريعة، “فالموبذان وهو القيم بامور الدين ومعناه قاضي القضاة،
وهو رئيس الهرابذه ومعناهم القوام بامور الدين والقضاه والمتصرفون بالاحكام”(133).
وكان القضاء العسكري يشكل فرعا من القضاء، ويشير كريستنسن الى ان القضاء العسكري “نيط بقاض
خاص هو سپادادور”(134)، ثم يضيف القول بوجود محكمه عليا تتالف من “المجلس الاعلى، اي جمعيه
العظماء رئيسها الموبدان موبد، وهي المحكمه التي يظهر ان لها ولايه القضاء في جرائم الخيانه
العظمى”.
ويبدو ان القضاء العسكري كان محيطا وجامعا لقواعد الضبط والربط والتراتبيه العسكريه ومرجعا للعداله ورادعا
لمن تخوله نفسه مخالفته. وفي هذا الاطار يفرض القانون على رجال الجيش “ان يحترموا اهل
الدرجات، وان يحترموا بعضهم بعضا وان يحتشموا، اذ لو القي الحبل للناس على الغارب، لاتبع
كل منهم هواه”(135).
ويفرض قانون القضاء العسكري عقوبات زاجره على من يرتكب جرائم العصيان والخيانه والغش، ويجعل تنسر
“الجريمه بين الفرد والملك حين يعصى او يخون او يغش، وكان كل من يعصى الملوك
او يفر من القتال لا يامن على حياته ابدا. وسن الملك تشريعا جديدا هو ان
يؤخذ من هذه الطائفه بعضهم ويقتل لاحداث الرهبه حتى يعتبر به الاخرون”(136). ولعل اوضح الاحكام
ما نفذ بحق القائد الفارسي “بهرام بجوبين” الذي “حمل الى هرمز من الاموال والسلاح” بعد
انتصاره على ملك الترك ثم فراره الى الترك خوفا من هرمز نفسه، وقد نفذ حكم
الموت بحق بهرام بمؤامره نفذتها خاتون امراه ملك الترك، دست لبهرام من قتله”(137). وهناك حكم
اخر فرض بحق القاده المهزومين حين “كتب كسرى الى قواد الجند الذين انهزموا امام هرقل
ملك الروم، يامرهم ان يدلوه على كل رجل منهم ومن اصحابهم ممن فشل في تلك
الحرب ولم يرابط مركزه فيها، فاحرجهم بهذا الكتاب الى الخلاف عليه وطلب الخيل لنجاه انفسهم”(138)،
ويتضح من هذه الروايه معرفه القاده بقساوه العقاب وخوفهم على مصيرهم وعلمهم بقرب حتفهم نتيجه
للخيانه والتقصير.
ثامنا: الاعلام والرايات
اتخذ الفرس علما عظيما لدولتهم وشعارا لسلطانهم وصفه الطبري “بالعلم الاكبر الذي كان يسمونه درفش
كابيان”(139). ويروي المسعودي اسطوره تؤرخ لاتخاذ هذا العلم بقوله: “انه من جلد ياتزر به حداد
اسمه كاوك، رفعه على رمح معلنا الثوره بوجه طاغيه فارسي اسمه الضحاك، واصبح هذا العلم
الذي اخذ من فوطه كاوه علما لملوك ايران”(140). ويصف المسعودي هذا العلم بدقه بقوله: “كانت
رايه الفرس من جلود النمور طولها اثنا عشر ذراعا في عرض ثمانيه اذرع. وكانت الرايه
العظمى مرصعه بالياقوت واللؤلؤ وانواع الجواهر”(141). وكان “درفش كابيان” يرفع حين كان يخوض الجيش معارك
فاصلة، او تدهم فارس امور كبيره تستدعي خروج الملك على راس جيشه، او يوكل قيادته
الى احد ابنائه، الا ان الطبري يشير الى وجود هذه الرايه عندما كان هذا الجيش
بقياده احد القواد الفرس الصناديد “جوذرز” منذ عصر الملك كيخسرو حين “دفع اليه العلم الاكبر…
وزعموا ان ذلك العلم لم يكن دفعه الى احد من القواد قبل ذلك، وانما كانوا
يسيرونه مع اولاد الملوك اذا وجهوهم في الامور العظام”(142). وفي “القادسية”، نجد يزدجرد يرسل قائده
رستم لمواجهه المسلمين ويخاطبه: “انت رجل اهل فارس اليوم، وقد ترى ما جاء اهل فارس
من امر لم ياتهم مثله منذ ولي ازدشير”(143).
ويبدو ان “الرايه العظمى” كانت شعارا من شعائر الملك، وعلامه خير يستبشر الفرس بوجودها منشوره
بين كراديس الجيش بشائر النصر القادم وثبات الملك “لان فارس، كما قال المسعودي تتيمن بها،
وتظهرها في الامر الشديد”(144). وبالمقابل يؤدي انخفاض هذه الرايه الى هزيمه الجيش واهتزاز الملك، فلم
تمسح هزيمه “بشتاسب” ملك الفرس امام ملك الترك “الذي اخذ فيما اخذ العلم الاكبر الذي
كانوا يسمونه درفش كابيان سوى انتصار اسفنديار القائد الفارسي الذي ارتجع العلم الاعظم وحمله معه
منشورا”(145). ولعله كان الاندثار الاخير لملك فارس حين اخذ هذا “العلم الاعظم” اسيرا لدى العرب
الى غير رجعه من قبل “ضرار بن الخطاب، فعوض عنها بثلاثين الفا، وكانت قيمتها الف
الف ومائتي الف، وقتل في ذلك اليوم حول الرايه عشره الاف”(146).
ويبدو ان الاكاسره خصصوا لكل فرقه في الجيش الفارسي راية، فكان لكل فرقه من فرق
الثغور التي يقودها احد الاصبهبذين علم خاص بها، ويشير الطبري في معرض وصفه لاستعراض “كيخسرو”
لجيشه المنتصر على “فرسياب” التركي ومروره امام رايات فرقه وفي طليعتها “العلم الاكبر” الذي دفعه
الى قائده “جوذرز” بقوله: “فلما وافى كيخسرو العسكر وموضع الملحمة، اصطفت له الرجال وتلقاه جوذرز
وسائر الاصبهبذين… فلما دخل العسكر جعل يمر بعلم علم”(147). ولعل هذا القول يجد تفسيرا لما
اشار اليه كريستنسن عن بعض اوصاف الاعلام والرايات الساسانيه “فهناك علم ملكي على صوره الشمس…
كما نجد علما بصوره اسد… واسود على صوره الذئب…”(148). وبالتالي ليس غريبا ان تكون الاشكال
والصور التي رسمت على الاعلام رمزا للفرق العسكرية، لما توحي به من خصال القوه والعطاء
والشجاعه والسرعه والاحتيال والمكر، وهي بالمطلق صفات عسكرية.
تاسعا: الاداره العسكرية
اعتمدت دوله الفرس نظاما حربيا قويا استند الى سياسه ملوكهم الذين احبوا الحرب وورثوا الفكر
العسكري من اسلافهم. ويشير المسعودي في عرضه “للسياسات الملوكية” التي نصح بها حكيم فارس “بزرجمهر”
الملك “انوشروان” الى كلام يرسم بشموليه السياسه العسكريه منها: “اكرام العلماء والاشراف واهل الثغور والقواد…
بقدر منازلهم، واعداد السلاح وجميع الات الحروب، واذكاء العيون في الثغور ليعلم ما يتخوف، فيؤخذ
له اهبته قبل هجومه”(149). ويؤكد هذه السياسه ما وضعه الملك سابور من صفات عند اختياره
عماله بقوله: “لا يصلح لسد الثغور، وقود الجيوش، وابرام الامور وتدبير الاقاليم، الا رجل تكاملت
فيه خمس خصال: حزم وعلم وشجاعه لا تنقصها الملمات، وصدق في الوعد والوعيد، وجود يهون
عليه تدبير الاموال في حقها”(150).
واتبع اكاسره الفرس، في تنفيذ سياستهم الحربية، تاسيس ادارات تعني بمصالح الجند والاشراف على الجيوش
التي كانت العامل الدائم في ضمان الاستقرار والدفاع عن الدوله والارض. وكان “ديوان الجند” الجهاز
الذي يعنى بحقوق الجند ومصالحهم، فكان مجموعه سجلات وقوائم باسماء المقاتله وذراريهم ومقادير اعطياتهم وتنظيمهم
في وحدات وصنوف عسكرية.
ويبدو ان المكانه الكبيره التي يحتلها “ديوان الجند” في دوله الفرس، فرضت على من يتم
اختياره امر “كاتب الديوان” شروطا ومواصفات عاليه ذكر الطبري بعضها في خبر تعيين كسرى “كاتبا
لديوان المقاتلة” بقوله: “وكان كسرى ولى رجلا من الكتاب – نابها بالنبل والمروءه والغناء والكفاية…
لصلاح امر الملك في جنده”(151). ومن البدهي ان تكون معاني صفات كاتب الديوان عند الفرس
دقيقة، شامله وواسعة، فالمروءه تعني حفظ القوانين، وتحري الدقه في التنظيم، والحرص على السريه والامانه
والعدالة، واستيفاء الحقوق، والصبر وكتم الاسرار. اما الكفايه فانها تتضمن العلم باحكام القوانين ضمانا لمصلحه
الجيش، والدرايه والخبره بالجيوش والاسلحه وحلى الجند وشيات الدواب، والمعرفه الدقيقه بالعروض.
وكان صاحب “ديوان الجند”، ايضا، من ارفع الناس قدرا واحسنهم خلقا، نافذا في الناس امره،
وعليا بينهم قدره، شريفا، صارما في تطبيق سياسه الجند، وفي الطبري روايه تمثل بابك بن
البيروان الذي “ولاه كسرى ديوان المقاتلة، ووكل اليه صلاح امر الملك في جنده… ونادى مناديه
ان يحضر الفرسان على كراعهم واسلحتهم والرجاله على ما يلزم من السلاح… فاجتمع اليه الجند
ولم يعاين كسرى فيهم… ونادى مناديه في اليوم الثاني… فلما لم ير كسرى فيهم فامرهم
بالانصراف… وامر مناديه في اليوم الثالث فاعترض كسرى على بابك بسلاح تام ما خلا الوترين،
فلم يجز عن اسمه وقال له هلم ايها الملك كل ما يلزمك من صنوف الاسلحة”(152).

وترتبط قوه دوله الفرس بشكل وثيق بقوه الجيش والمال، ويعبر عن هذا الواقع تنسر بقوله:
“اذا افتقرت الرعية، خلت خزانه الملك، ولم يجد نفقه المقاتلة، ويضيع الملك”(153). ومن هذا المنظور
يصبح المال ركيزه اساسيه لبناء الجيوش وقيام الملك، “فلا عز للملك الا بالرجال ولا قوام
للرجال الا بالمال”(154).
وليس غريبا ان نجد في ظل هذا النظام الحربي والاداري في فارس قيام علاقه بين
“ديوان المقاتلة” واداره ماليه الدولة، فالمال يشكل العمود الفقري لقيام الجيش وتالف الجند وسد احتياجاتهم،
وصرف رواتبهم، وتامين وسائل القتال وتحصين الثغور. ولعل المعادله التي اشار اليها المسعودي بين عماره
الارض او خرابها، وكثره اموال الجبايه او قلتها، وقوه الجند او ضعفهم، وصيانه الدوله او
هلاكها، ترسم خطا بيانيا لسياسه الفرس الحربيه المستنده الى سياستهم الضرائبيه وهي سياسه “تقوي الملك
بانتخاب الجنود واجتباء الخراج لارزاقهم”(155). ويبدو ان احد ملوك الفرس حاد عن هذه السياسه ما
جعله موضع انتقاد الموبذ حين خاطبه: “عمدت الى الضياع فانتزعتها من اربابها وهم ارباب الخراج…
فقلت العمارة، وخربت الضياع، وقلت الاموال، وهلكت الجنود والرعية، وطمع في ملك فارس من اطاف
بها من الملوك…”(156). من هنا تاتي مسؤوليه طبقه “الدهاقين”، في بناء دوله الفرس القويه وجيشهم
القادر، واهميه دورهم كرؤساء وملاك الاراضي والقرى الذين “كانت وظيفتهم الاصليه ان يتسلموا الضرائب… واليهم
يعود الفضل بخاصه في ان الدوله القليله الخصب قد استطاعت ان تتحمل النفقات… وان تقدر
على الحروب التي تتطلب تكاليف باهظة”(157).
وفي ضوء هذه السياسه الحربية، لم يغفل ملوك الفرس اعداد البلاد لمواجهه الطوارئ، والتعامل مع
الحوادث المفاجئة. لقد خصصوا احتياطا ماليا في خزائنهم لتغطيه النفقات الحادثه من جراء عدوان مفاجيء
على الحدود او كوارث تصيب الثغور، على نحو ما نقل الطبري عن سياسه كسرى انوشروان:
“قد راينا ان تجمع في بيوت اموالنا من الاموال ما لو اتانا عن ثغر من
ثغورنا، او طرف من اطرافنا فتق او شيء نكرهه واحتجنا الى تداركه او حسمه ببذلنا
فيه مالا، كانت الاموال عندنا معدة، موجودة”(158).
عاشرا: مجلس العظماء والاشراف (سلطه القرار)
تذكر المصادر التاريخيه في معرض سردها لتاريخ الفرس مصطلح “العظماء والاشراف”، في اماكن كثيرة، ويبدو
ان العظماء والاشراف شكلوا مجلسا لا يجتمع الا لبحث القضايا الكبيره والمفاصل التاريخيه التي تواجه
دوله الفرس لاسداء المشوره للملك في تدبير الملك، وقضايا الحرب والسلم. وكان مجلس العظماء والاشراف
مؤلفا، وفق ما المح الطبري في ذكره للوفد الذي التي التقى المنذر ملك العرب، من
“العظماء واهل البيوت واصحاب الولايات والوزراء لقوا المنذر”(159)، كما يؤكد كريستنسن ان الاشراف والاصحاب ليسوا
سوى “الضباط الكبار في الدوله والعظماء يشملون الوزراء ورؤساء الادارة”(160).
ويبدو ان هذ الطبقه كانت تشكل مجلسا اعلى تطال قراراته احيانا مقام الملك نفسه، ويذكر
الطبري انه “تعاقد ناس من العظماء واهل البيوت الا يملكوا احدا من ذريه يزدجرد لسوء
سيرته”(161). ويضيف في موضع اخر مضمون مفاوضاتهم مع ملك العرب المنذر حول هذا الامر بقوله
:”وتكلم عظماء الفرس واهل البيوت وفرشوا للمنذر بكلامهم فظاظه يزدجرد”. ويبلغ قرار هذه الطبقه درجه
خطيره حين يطال امر وجود الملك على العرش لجهه تنحيته عن عرشه وحبسه، ويذكر الطبري:
“ان العظماء من الفرس هم حبسوا قباذ حين اتبع مزدك”(162).
وكان قرار الحرب يؤخذ في اجتماع مجلس حرب يسدي المشوره للملك. ويذكر الطبري عقد مثل
هذا الاجتماع لدرس تقديم مساعده عسكريه طلبها سيف بن يزن بقوله: “وجمع كسرى مرازبته واهل
الراي ممن يستشير في امره”، وفي مكان اخر يقول: “ان كسرى استشار وزراءه في توجيه
الجند(163)”. ويجتمع مجلس الحرب مره اخرى في عهد هرمز انوشروان حين اكتنف الاعداء بلاد فارس
من كل وجه فاستفظع هرمز ما ورد عليه وشاور فيه”(164). ويقول المسعودي في الموقف عينه:
“واحضر الموبذان وذو الراي”(165).
حادي عشر: السلوك المعتمد اثناء القتال
يروي تنسر في كتابه بعض الاداب والسلوكيات التي اتبعها ملوك فارس في حروبهم بقوله: “لم
ينسب قط لملوكنا القتل والاغاره والغدر، فاذا خالف هذا ملكان، فانهما لم يجيزا استعباد السبايا
ولم يتخذاهم ارقاء بل عمرا بهم المدن”(166). والواقع، ان في كلام تنسر شيئا من الصحه
لاستخدامهم الاسرى في اعمال العمران، واقامه مدن وقرى لهم واستخدام قسم منهم كوحدات مرتزقه كما
ذكرنا، ولكن قلما نجد سيره لملك فارسي خاليه من القتل والسبي، وينسب الى سابور بن
ازدشير “انه اطلق ملك الروم بعد ان جدع انفه وقيل انه قتله”. وقيل ان سابور
نهى جنده عن الابقاء على من لقوا من العرب. فافشى فيهم القتل وسفك منهم من
الدماء… واستقر في بلاد البحرين يقتل اهلها ولا يقبل الفداء”(167).
واوصى ملوك الفرس جنودهم بالحيطه واليقظه وعدم الانصراف عن المهمه الى جمع الغنائم، ويذكر الطبري
ان سابور “نهى جنده عن العرجه عن اصابه مال”(168). وبالمقابل “كان الايرانيون يحرقون حقول القمح
اذا توغل العدو في اراضيهم لكي يحولوا دون تموينه”(169).
ومن اداب القتال عند الفرس استدعاء وفد من اعدائهم لمفاوضتهم قبل شروعهم بالقتال، وفي هذ
السياق يذكر الطبري “ان وفودا من العرب قدمت على يزدجرد”(170)، تكلم باسمها النعمان بن مقرن
قبل بدء القتال في معركه القادسية. وفي نهاوند “ارسل بندار العلج الى العرب ليطلب منهم:
“ان ارسلوا الينا رجلا نكلمه”(171). ويعتبر تنسر هذا السلوك مفخره لجيش فارس عبر عنها بكبرياء
وبروح معنويه عاليه بقوله: “ان الف رجل منا يغلبون عشرين الفا من الاعداء ايا كانوا،
لان رجالنا لا يبداون بالعدوان والحرب والقتل”(172).
الخلاصة
عرف الفرس، بنتيجه حروبهم مع الروم والامم الاخرى المعاصره لهم نظم القتال ومبادئ الحرب، وافاد
قادتهم من دروس المعارك التي خاضوا غمارها لتحسينها وتطويرها بحيث اصبحت فنون القتال عندهم لا
تختلف كثيرا عما هو متعارف عليه في عصرنا. لقد تركت دوله الاكاسره تراثا عريقا في
الاداره وتنظيم الجيوش وفن الحرب، اغنت بفضل احتكاكها بالامم والشعوب التي كانت على حرب دائمه
معها مثل البيزنطيين والترك والهياطله وغيرهم، وكانت لها بصمات دامغه في تكوين الفن العسكري الاسلامي.

  • خريطه سيناء
  • خريطة شمال سيناء
السابق
طريقة سهله لتحضير العصبان الجزائري
التالي
مسجات ورسائل دعوات حلوه